مسرح الفصام الشخصي،،، بطولة المشير وبطانته المثيرة للشفقة

دقولك يا بشير
حق قولك يا بشير
لم يكن المقصود من المقطع أعلاه في ذاكرة كاتب الأغنية وقتها، كما قد يبدو للبعض، سعادة المشير. ولكن عندما يكون المقطع أحد مقاطع أغاني حلقات الزار التي يتغني بها أبطال الحلقة بعد مراسم العِلبة، والكرسي، وإستدعاء سلاطين الريح الأحمر من مختلف بطون وفخائد الجن، حبش، هدندوة، خواجات وغيرها، وعندما يكون بشير المذكور في المقطع أحد شيوخ وسناجقة الزار، أو أحد سلاطين الجن البارزين الذين يتم إستدعائهم من خلال تلك الأغاني المصاحبة لحلقة الزار (اللول اللول يا لولية بسحروك يا لولى الحبشية ،،، أحمد البشير الهدندوى توبو توب حرير الهدندوى …إلخ) فوجه الشبه بين حلقة بشير ومسرح المشير الذي نعرفه يخلق أربعين. فلا يزال المشاهد العاقل يسأئل نفسه محتاراً كلما شاهد المشير في أحد مسارحه الصاخبة التي عادة ما يبدأ فصلها الأول برقصته الهستيرية المشهودة تحت إيقاع أنغام موسيقي الفرقة الماسية وأحد أغاني العرضة التي يتم إختيارها بعناية فائقة تتناسب مع تقويسات وتعرجات بطل المسرحية ذات الأبعاد الملفتة للنظر، كيف يستطيع الرجل الإنتقال في لحظة خاطفة بمجرد إنتهاء الموسيقي وبشكل هستيري للتحول المفاجئ من حالة الرقص والطرب إلي حالة التهليل والتكبير ومن ثم إلي سلسلة من الضجيج وصخب الحديث الذي يَرُدُ الأمرَدَ المفتون كهلا، علي قول الشاعر (فِعلُكَ لو تبدلنا صَخُوبَا ،،، ترد الأَمرَدَ المختار كهلا). وعلي قول المثل السوداني، السعن المليان ما بيجلبغ. فالسعن إذا إمتلأ باللبن لا يصدر صوتاً وعكسه السعن الفارغ من اللبن حيث يضرب للتدليل علي ان كثرة الضجيج تعني فقر المحتوي.
إنها حالة (سواءً في قصة بشير أو في مسرح المشير) أشبه بحالة إزدواج الشخصية أو ما يعرف في علم النفس بانفصام الشخصية وهو حالة من الإضطراب النفسي توجد فيها علي أرض الواقع أكثر من شخصية بكامل طبائعها الظاهرة للعيان لدى الكائن البشري الواحد ولكن لا تظهر في كل حالة من حالات الإنفصام إلا شخصية واحدة. وعادة ما تكون لكل شخصية من الشخصيات المزدوجة التي تتشكل في كل حالة صورة مكتملة بسلوكها ورغباتها وميولها وذكرياتها الخاصة وإسمها المختلف، مثل رواية الأديب الأسكتلندي روبرت لويس ستيفنسون الشهيرة (دكتور جيكل ومستر هايد) التي اهتم بها علماء النفس لما فيها من تناول علمي عميق لما يدور بداخل النفس البشرية من تناقضات، فهي تصور حالة من حالات إزدواج الشخصية في دكتور جيكل الشخصية المعتادة التي تحب البطاطس المقلية وتكره المخلل والتي تخفي بين طياتها شخصية هايد القاتل المحترف المناقضة له تماما والتي علي العكس، تحب المخلل وتكره البطاطس المقلية وفي نفس الوقت ترتكب العديد من جرائم القتل بحق أبرياء دون أن تترك دليلا واحدا يساعد الشرطة علي كشفها. أو مثل قصة كيفن كوستنر الذي يتحول إلى السيد بروكس في أحد أجمل أفلام التشويق الشهيرة بإسم (السيد بروكس) للمخرج بروس إيفانز والممثل كيفن كوستنر والنجمة ديمي مور الذي تدور أحداثه حول إيرل بروكس (كيفن كوستنر) رجل الأعمال الناجح ورب الأسرة الذي يعيش حياة هادئة مع زوجته وابنته ويبدو فيه السيد بروكس على الظاهر شخصا مثاليا ولكنه يطوي في جانب آخر من شخصيته قاتلا محترفا ارتكب عددا من جرائم القتل المروعة.
ويحدث إنفصام الشخصية لأسباب عديدة لا مجال لذكرها هنا، ولكن من أهمها تصادم قناعات الشخص مع واقع الحياة وحقائقها، أو عن الكبت الذي يعبِّر عن حالة معقدة من الرغبات التي تطرق باب العقل الواعي ولكنها لا تتوافق مع مجموع العادات والتقاليد والقيم الاجتماعية أو الدينية التي تشكل وعي الشخص، فلا يجد سبيلا للتنفيس عنها إلا عبر الاضطراب النفسي، لذلك فإن كثير من علماء النفس يجمعون علي أن مرض إنفصام الشخصية في المجتمعات المحافظة يعتبر مرضا أنثويا أكثر منه ذكوريا بسبب الإضطهاد الإجتماعي الذي تعيشه المرأة والذي يحد من حريتها في التعبير عن ذاتها وعن رغباتها على عكس الرجل. وتاريخ المجتمع البشري وحاضره حافل بصور كثيرة من صور إزدواج الشخصية وتعددها عند النساء فكثير منهن حوكمن بتهم السحر والدجل والهرطقة وهن في الحقيقة ليس إلا ضحايا لهذا المرض النفسي المثير للشفقة. ولعل قصة الفتاة التي تنتمي لأسرة متدينة وتحرص بشكل ملفت للنظر علي ستر كل جزء في جسمها بإرتداء أكثر أنواع الحجاب تطرفا، وفجأة وعلي صوت الموسيقي الصاخبة والأغاني الراقصة في أحد بيوت الأعراس المجاورة وفي لحظة من لحظات الإنفصام الشخصي التي عجزت فيها نفسها عن كبح جماح الرغبة المتدفقة بعنف للشق الآخر من شخصيتها المتمردة عن السياق العام لقيم المجتمع الذي تعيشه، تخلع بشكل مفاجئ نقابها وتبقي بثيابها شبه العارية وتنطلق إلي مصدر صوت الموسيقي لتمارس الرقص ببراعة لا تقل عن أي راقصة محترفة وسط ذهول الحاضرين ودهشتهم (و تفيق بعد لحظات من سكرتها باكية لا تتذكر شيئا مما حدث) تمثل حالة أشبه بظاهرة الزار في مجتمعنا السوداني والتي تصور أحد حالات إنفصام الشخصية التي تعرف في الطب النفسي بالإضطراب الإنشقاقي والذي يعبر بدوره عن حالة من حالات تمرد الجزء الكامن من الشخصية على السياق العام للمجتمع بصورة مفاجئة مليئة بالتحدي تدفع الشخص لتحقيق رغبات أو مطالب معينة (غالبا ما تكون غريبة ومتناقضة مع السياق العام للشخصية) يمارس خلالها الشخص بعض أنواع اللغط الشديد مثل التحدث بلكنة أو لغة أخري مختلفة، أو أن يعبِّر عن نفسه بالتحدث على لسان جني فيطلب مثلا تحقيق أشياء معينة يعجز عن طلبها أو تحقيقها في حالة وعيه وشخصيته المعتادة مثل أن تتحدث إمرأة تكره زوجها في حلقة الزار وهي لا تستطيع التعبير عن نفسها في حالة وعيها المعتاد بلسان جني طالبة الطلاق منه ليتزوجها ذلك الجني الذي يعشقها.
تكمن الخطورة في مسرح المشير الصاخب في أنه خليط بين حالة الفصام الشخصي وبين ما يعرف بالإندراوة التي وردت في الفلكلور السوداني في المثل القائل (الجن بدًاوي كعب الإندراوة) وهي حالة غير قابلة للعلاج. فالجن بكل المقاييس وبمختلف أشكاله أفضل منها لأنه داء و لكل داء دواء والمجنون يمكن أن يتم علاجه ويعود من جديد لشخص فاعل في المجتمع بل ويقدم للبشرية ما لم يستطيع تقديمه غيره من العاقلين، والمشاهد للفيلم الأمريكي (Beautiful Mind) (عقل الجميل) للمخرج رون هوارد بطولة الممثل البارع راسل كرو تتجسد أمامه هذه الحقيقة حيث يصور الفيلم القصة الحقيقية لحياة عالم الرياضيات الشهير جون فوربس ناش (جون ناش) الحائز علي جائزة نوبل للاقتصاد عن نظريته المعروفة التي تحمل إسمه (نظرية ناش للتوازن أو نظرية الألعاب) والتي ساعدت في بلورة كثير من المفاهيم التي أسهمت في إتفاقية التجارة العالمية وتأسيس منظمة التجارة العالمية. فقد أصيب جون ناش بمرض الفصام الإرتيابي عام 1958م نتيجة لخلل عضوي في دماغه وتمت معالجته كغيره من مصابي أمراض الجنون في مستشفى ماكلين للطب النفسي خلال فترة طويلة معقدة مشحونة بالمعاناة والمواقف المحزنة، ولكن ذلك لم يمنعه من أن يكون عبقرياً فذاً وعالما بارزا ينال بكل جدارة وتقدير جائزة نوبل للإقتصاد. ولكن وللأسف الشديد هذا النموذج من الجن الجميل المثمر لم يوجد في بلادنا في عهد مسرح المشير ولم يحدثنا تاريخ الطب النفسي خلال الثلاثة عقود السابقة عن حالات عاد فيها المجنون لكامل وعيه، وغالبا ما يكون مصير مثل هذه الحالات محزنا ولا تؤدي بصاحبها إلا إلي مزيد من الجنون، فواقع الحال يدفع العاقل للجنون فما بالك بالمجنون.
والإندراوة كما جاء في إجتهادات كثير من مفسري الأمثال السودانية تعبِّر عن الحالة ما بين العقل والجنون، كجنون العظمة والغرور والسذاجة وكل الحالات والتصرفات الغريبة التي تصدر عن الشخص غير المجنون تماماً ومن أبرزها التناقض في المواقف وإزدواج الشخصية. ويصعب علاجها لأن الشخص الذي يعيشها هو في الغالب يعيش حالة تصادم حاد بين أفكاره ومعتقداته التي يؤمن بها وبين الحقائق علي أرض الواقع التي هي بكل بساطة فشل مبين لكل هذه المعتقدات التي يؤمن بها وفي نفس الوقت يمنعه كبريائه أو إندراوته من الإعتراف بالفشل لذلك تجده دائما في حالة إضراب وخواء كامل (يشبه لحد كبير خواء شخصية الزين في رواية عرس الزين) يسهل شحنه وتفريغه سواءً من قبل الشق الآخر من شخصيته بكل صلفها وشذوذها وقيمها الخارجة تماماً عن السياق الإجتماعي المقبول، أو من خلال حاخامات المحفل الماسوني المحيط به من البطانة الفاسدة والأقلام المأجورة التي تسَّيره يميناً ويساراً، وتشعره دائما بالزهو والإدعاء الذي يدفعه للإصرار علي مواقفه الخاطئة. ومن هنا كانت الإندراوة أكثر خطورة وإثارة للشفقة من الجنون.
هذا هو باختصار شديد مسرح المشير الصاخب وبطانته الفاسدة وكل دعاة فريَّة المشروع الحضاري دون إستثناء، والذي ظلت تشاهده وتعيشه وتعانيه بلادنا طيلة هذه السنوات، حالة الإندراوة والزهو وجنون العظمة وتعدد الشخصية. يتحدثون عن السلام والبلاد كلها حروب، يتحدثون عن الحوار السلمي والحريات مستلبة ودماء الشهداء والجرحي تسيل في الشوارع، يتحدثون عن محاربة الفساد ولكل واحدا منهم شقا آخر غارقاً من رأسه إلي أخمص قدميه في الفساد، يبدو عليهم الوقار وهم يظهرون بياقاتهم وعمائمهم البيضاء الزاهية وعلي جباههم سمات لصلاة لم تنهيهم عن فحشاء أو منكر، ولكنهم كدكتور جيكل ومستر بروكس في داخل كل واحد منهم قاتل محترف لا يرحم ومجرم حرب ملطخ بجرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في دارفور وجنوبي كردفان والنيل الأزرق. يتحدثون عن الشفافية والصدق وهم يمارسون الكذب علي الملأ دون حياء وبلا تردد أو تلعثم وواقع الحال يكذبهم ويفضحهم كما قال عنهم أديبنا الراحل الطيب صالح في خاطرته من أين أتي هؤلاء (هل ما زالوا يتحدَّثون عن الرخاء والناس جوعي؟ وعن الأمن والناس في ذعر؟ وعن صلاح الأحوال والبلد خراب؟).
ما نُشر حديثا من فيديو في الأسافير يصورالمشير وهو يعرض في إحدي مناسبات الأفراح تنفيسا وهروبا من واقع الغليان الذي يحيط به من كل جانب، وما يطل علينا من صخب وهرطقة من خلال شاشات قناتي أمدرمان وفضائية 24 وغيرها من اللقاءات العبثية لبعض الإذاعات التلفزيونية التابعة لذات المحفل الماسوني طيب الذكر، وأيضا الإفادات والتصريحات والإجابات المثيرة للسخرية التي يدلي بها بعض أبطال مسرح الفصام الشخصي لبعض الفضائيات الخارجية ماهي إلا مجرد مشاهد أخيرة لهذا المسرح العبثي المثير للشفقة والذي سيسدل ستاره قريبا جدا لا محالة، تعبِّر عن حالة الذعر والخوف من مصيرهم المشئوم الذي تصوره لهم الشقوق الأخري من شخصياتهم الغارقة من الرأس حتي أخمص القدمين في جرائم القتل والنهب والفساد والإقصاء والتعذيب ومصادرة الحريات والإغتصاب والإبادة والتطهير العرقي. وإذا كان الأديب الراحل قد سأل (من أين أتي هؤلاء؟) فسؤآل اليوم هو (أين يذهب هؤلاء؟). فإن هربوا بما نهبوه من أموال الشعب خارج السودان ستطاردهم لعنة الشعب وأجهزته القضائية في حلِّهم وترحالهم أينما حطت رحالهم ونقول لهم كلام الله (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ)، وإن ظلوا داخل السودان ولم تساعدهم بدانتهم علي اللحاق بطائرات الهروب فنطمئنهم بأنهم لن يساقوا إلي بيوت الأشباح وثلاجات التبريد الجماعية وغرف الإعدام والسلاسل والتعذيب لأن الثورة انطلقت لتقلع وتبيد كل ذلك لتقام علي أنقاضها دولة العدالة والقانون والسلام والحرية والديمقراطية وصيانة كرامة الشعب والوطن. ولكن بالتأكيد ستطالهم يد العدالة في دولة القانون ويسألون وقتها عن أي ذرة دم سالت وقرش سُرِق وحرمة أُنتُهكَت وأُغتُصِبَت أو شُرِدَت وعن كل جريمة ارتكبوها في حق الشعب والوطن، وسينالوا مصيرهم الذي يقرره القانون. أما الذين يبرئهم القانون (إن وجدوا) سيعيشون مطاطئي الرؤؤس بين الناس خجلا بلا وجوه يحملون علي أكتافهم خِذيَهم وعارهم وفرِّية مشروعهم الحضاري الذي أوصلهم لهذا المصير المذري، وسينتهي الأمر ببعضهم في مكانهم الطبيعي مصحات الجنون والفصام الشخصي.
مقال جميل ..لكن لا علاقة بين فصام الشخصية و إزدواج الشخصية..مرضين مختلفين تماماً.