أم كواكية*

ادب الثورة(1)

استيقظ في الصباح مذعورا..خطف مسدسه من جواره وأطلق النار على سارية العلم عبر النافذة حيث كان يجب ان يكون هناك غراب ينعق في الفضاء ويسلح على علم البلاد..لم يكن هناك غراب يسقط مضرجا في دمائه ويقوم الحراس بدفنه في المقبرة الجماعية في فناء المنزل تحت أشجار الليمون والبرتقال
لم تنهض زوجته مذعورة توبخه على هذا الفعل المشين والمكرور…إذ أنها لم تكن موجودة الى جواره هذا الصباح”ما هذا الصمت المخيف؟؟!!”..فرك عينيه وأصاخ السمع..عله يسمع صفارة قطار بعيدة من قلب المدينة او أزيز طائرة من مطارها او الضجيج المعهود في الشارع…”هل هذه كوابيسه المستمرة والتي جعلته يجوب بلاد العالم لطببتها…أم أنها الحقيقة؟؟!!”
لم تأتي سيارة الرآسة التي تقله الى القصر الرآسي ، رفع سماعة التلفون ووجد المجيب الآلي في الانتظار”ناسف..أما هذا الرقم خارج نطاق التغطية أو الهاتف مغلق”…تناول الريموت وأراد إدارة التلفاز..ظهرت الشاشة البلورية عارية من كل بث ..فقط التشويش الذي ينبعث من مثل هذه الأجهزة الالكترونية…أدار مؤشر الراديو..تكرر نفس الأمر ..انطلق صفير ولم يجود له المذياع بمحطة إخبارية واحدة”رباه ..ما هذا الذي يحدث في العالم؟!!”
هب مذعورا واخذ يركض في ردهات القصر وشرفاته الخاوية والأشجار في الفناء تحملق فيه في ذهول وقد خلت من زقزقات عصافيرها”خطب ما الم بالمدينة وأغرقها في هذا الصمت المريب؟؟”…
ارتدى ملابسه على عجل وقرر أن يقود سيارته بنفسه…خرج الى الطرقات المقفرة والمتشحة بالغبار…شاهد أوراق ومنشورات تغطي الشوارع…تحملها الرياح وتصفع بها زجاج سيارته…مر أمام الشارع المعهود…حيث كانت تقبع مريم بائعة الشاي…وتداعي الى ذهنه المجهد ذكريات من نوع خاص….

كان عندما يمر بموكبه وضجيجه المعهود أمام الشجرة التي تجلس تحتها عن كثب من قصر الرآسة…لا يطيق النظر إليها…ونظراتها الممتلئة بالوعيد والاحتقار تشوي جسده وتخذه كالإبر…ويحس بالأزيز يجتاح كيانه بقوة ألف ديسبيل ..كأنما سحقته طائرة بوينج 747…

عجز رجال الأمن عن إزاحتها شبراً واحداً من مكانها ولم ينبت احد منهم بكلمة عن ما يحدث له كلما شرع في مضايقتها..حتى إنهم مرة احضروا مشعوذ المدينة الشهير الذي تلجأ له الحكومة في ملماتها…لهزيمة سحرها الأسود…كانت حادثة…اقشعر لها بدن الجميع وأصيبوا بالغثيان والخوف معا..جعلتهم يقبلوها كأمر واقع…سقط الرجل مغشيا عليه لمجرد أن حدجته بنظرة من تلك النظرات المخيفة وتمتمت بتعاويذها الغامضة التي علمها له الرجل في صغرها.. ثم نهض يتقصع ويسير ويتحدث في ميوعة فقد استوطنت جسده فجأة امرأة…ليت الأمر انتهى إلى هذا الحد…أضحى المسكين…تحت رغبة لا تقاوم يتسكع عند المدارس يبحث عن عنفوان المراهقين…يصطاد احدهم ويأخذه معه إلي بيته البعيد في أطراف المدينة…ويتم الأمر الذي قد قدر من اجل حفنة نقود..

بائعة الشاي مريم من قبيلة المساليت في أقصى غرب البلاد..التي تحيط بها الأساطير…لم تأتي إلى المدينة بطوعها…وحبا في مباهجها…أحرقت طائرات الانتينوف الروسية قريتها في دارفور…داست سنابك خيل الجنجويد على أجساد أهلها الطاهرة…قتل أبيها الشجاع وأصيب زوجها بطلق الناري جعله مقعدا ويعاني من مرض الدرن الباهظ التكاليف..وابنها الوحيد يقبع جوارها…وتقيم في هوامش المدينة الغربية…
عندما كانت مريم طفلة ترعى الماعز في فيافي دارفور الموحشة…ظهر لها رجل فجأة..امسك بها بقوة وطرحها أرضاً وأجرى لها عملية جراحية غريبة..دفن شيء ما في لحمها الطري أعلى الفخذ..كان يردد على مسامعها الغضة”لا تبكي يا الزينة بنت الزينين…ستتالمي الآن ولكنه سيحميك من أم كواكية ومن ناس الخرطوم بقية حياتك كلها”…ومن يومها وهي تحمل سرها معها..كانت تخيف الرجال… خاصة هؤلاء الأوغاد الذين يتعهرون معها دون حياء ولا يتكلمون بصورة لائقة معها كامرأة ملتزمة تبيع الشاي… لها زوج وطفل…
أضحت الحادثة المشينة للمشعوذ…القشة التي قصمت ظهر البعير..وانتشرت وغدت مكان تندر المواطنين…..وفرضت وجودها المخيف تحت شجرة اللبخ جوار قصر الرآسة ،

نظر إلى موقعها تحت الشجرة بعين متوجسة…لمح كل أدواتها قابعة في مكانها والمقاعد الصغيرة متناثر تعبث بها الريح…ولا احد…”تبا..حتى هذه المرأة المخيفة..رحلت !!..ما دهى هذه المدينة؟؟!!..ظل يتجول بالسيارة في الطرقات المقفرة…كان الزمن يمضي…والسيارة تائهة في الطرقات…المدينة التي سكنها الضجر منذ أمد بعيد…الأوراق المريبة تعبث بها الرياح في كل حدب وصوب… والأتربة أيضا..

شارفت شمس ذلك اليوم على الغروب..عاد بسيارته منكسرا وعندما مر جوار ملعب المدينة الفخم…شعر بالأسى…”اليوم المباراة النهائية على كأس أعياد الثورة الظافرة…كان الملعب قابع في الظلام..كأنه جبل مرة..وتبرز أبراجه الكهربائية من أركانه الأربعة…مثل كائنات جيمس كاميرون الأسطورية…ترجل من السيارة ونظر إلى هذا الصرح العظيم الذي كان يملا المدينة ضجيجا وحيوية وقد خيمت عليه سكينة اللحد العميق..تملكه الأسى والرعب تماما…”هل يعقل أن احدهم أخلى المدنية بأكملها دون علمه؟؟أين الأجهزة الأمنية والعسس؟؟!!..أين زوجته الوفية؟؟..أين مريم بائعة الشاي؟؟..إلى أين مضى هؤلاء؟؟…
التفت حوله نحو الأوراق التي تغطي المكان وتصفعه من كل جانب..تناول أحداها التصقت بوجهه ودسها في جيبه وطفق عائدا بالسيارة إلي قصره المنيف والغارق في الصمت المؤسف…..دلف يجرجر أقدامه كأنه يسحب قاطرة خلفه….دخل غرفته وأضاء الشموع..حيث لم يعد هناك كهرباء أو حياة تدب في جسد المدينة…اخرج الورقة من جيبه وأدناها من عينيه وقرا…كلمة واحدة بخط عريض احمر.. أنيقة وحاسمة”قرفنا”….
هب كالملسوع واخذ يردد في هذيان مرير وينتف شعره” فعلوها…الأوغاد الملاعين”…

….

هوامش: أم كواكية:الفوضى الخلاقة بلغة أهلنا في دارفور
قرفنا :مجموعة من الشباب ناشطة سياسيا
من مجموعة شفرة ابن عربي صدرت من مركز عبادي للدراسات والنشر2010 ?صنعاء-الجمهورية اليمنية

تعليق واحد

  1. زيادة الاسعار ليس الحل الوحيد يا ناس البصيرة ام حمد
    1- اعادة هيكلة السودان بتقليص الحكم الولائي الى خمس اقاليم-مديريات ا يناير 1965 بس واجراء انتخابات فيها لي حاكم اقليم-نائب رئيس وبرلمان اقليمي وحكومةاقليم من 25 ولاية الى 5 اقاليم سيوفر 80% من الصرف على الكم الهائل من الدستوريين العاطلين عن المواهب في اقاليم كانت ماشة بي خير الانجليز وعبود ونميري وبتوفر الحد الادني للخدمات الضرورية التعليم والصحة والاساسية والامن والغذاء.. ونص ناس العامة برجعو لاقاليمهم والامر داير قرارات جمهورية شجاعة بدل الهوت دوق وساقط القول…
    2- تفعيل المراجع العام ورفع الحصانة وفتح حسابات علنية في البنك المركزي-تنشر في الصحف لاسترداد الاموال المكدسة في حسابات الصحابة الاجلاء والحاكم بامر له والبطانة الفاسدة..عبر تسوية حقيقية على قاعدة المثل السوداني “السترة والفضيحة متباريات”..يعني ترجع القروش في الحساب المعلن دون الاشارة الى الاسم باشراف وزارة لعدل…وجلكم وصل ارزل لعمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئا والكفن ما فيه جيوب.. والقذافي اعلن في موسوعة جينتس من اغنى اثرياء العالم 2012 ولكنه مليونير ميت للاسف.
    3-تفعيل المحكمة الدستورية العليا برفدها بشخصيات محترمة غير مسيسة ونزيهةو وتجهيز المفوضية العليا للانتخابات واطلاق الحريات العامة والسير في القرار 2046 والتفاوض مع الحركة الشعبية شمال بمرجعية اتفاقية نافع /عقار
    ولاستعداد الحقيقي لانتخابات مبكرة تشمل
    1- انتخابات اقليمية
    2- انتخابات برلمان مركزي
    3- انتخابات راسية
    اما يفعله الحزب الحاكم الان ومعارضة المركز..سيقود في اتجاه واحد فقط…الفوضى الخلاقة..
    والقول عن حكومة قومية بدون تحديد الشخصية القومية ما بنفع..الشخصية القومية هي شخصية تحترم كل الشعب السوداني من نمولي لي حلفا ومن بورتسودان للجنينة وتحترم السودان وحضارة السودان وليس لها ماض مشين موثق ومجلل بالعار..وحسب فهمي الان هم شخصيات متوفية محمود محمد طه وجون قرنق…
    الكلام ده ما مفهوم… ام الامر صمم ايدولجي اعلى قاعدة يا شعيب لا نفقه كثيرا مما تقول”..

  2. طبعا فكرة تقسيم الاقاليم كانت عشان يلقو فرص عند الانتخابات ويزاحموا الاحزاب (فكر شيطاني)
    فكرة الهبات لبعض الشخصيات يعملو انشقاق في الاحزاب (مبارك الفاضل) الدقير(فلوس المرحوم الهندي)ماكان سكرتير الرجل الاسد رحمه الله

  3. الاخ العزيز
    تحية طيبة
    اهم حاجة اتمني انك تعرفا وما تزعل مقولة في كتاب ابيل الير”التمادي في نقض المواثيق والعهود”بعض المصريين يظنون انهم اكثر ذكاءا من السودانيين كما ان بعض الشماليين يظنون انهم اكثر ذكاءا من الجنوبيين”…ودي ازمة جدلية تلعب العنصرية الثقافية دور كبير فيها…
    لذلك يظل التهميش الفكري والثقافي لكل ما ينتجه السودان السمة الغالبة في النظام العربي القديم والدولة المركزية التي تقوده مصر والمركز في السودان الذى ظل عالة على الاقاليم في السودان ويمارس التهميش بل القتل الرخيص واحتقار ثقافات الهامش واهله وما تنسو”الكشة”…
    وحتى تتحرر من هذا الاصر..لابد من ان تواجه الحقائق الجديدة الاتية
    1- ثورة اكتوبر 1964 وابريل 1985 في السودان…والربيع المصري 35 يناير 2011…هذه اعادة تدوير للاخوان المسلمين…المتعطشين للسلطة من 1928
    2- الثورات الحقيقية في السودان اتفاقية اديس ابابا1972 ونيفاشا 2005 لانه خاطبت جذور الازمة السودانية ووضعت حلها مكتوب وممنهج..ولا توجد ثورة بدون برنامج تغير..وكذلك الثورة الحقيقية في مصر هي 30 يونيو 2013 والانعتاق النهائي من اصر الاخوان المسلمين والمؤتمر الدستوري لجنة ال50 والذي حتى الان عالق في مازق “الشريعة” وكل ماخذها عن ولاية المراة والمسيحي ولم يصل مرحلة الفدرالية التي ظلت عصية على كافة الدول لعربية ما عدا الامارات..
    3- توجد مدرستين للاشتراكية في افريقيا الناصرية المصرية التي لم تخرج مصر من شموليتها وعبادة الزعيم حتى الان ويريدون ان يجعلو من السيسي صنم جديد..ومدرسة اليوجاما الاشتراكية الافريقية لجولويس نايري والتي ادخلت تنزانيا وكافة الدول الافريقية عالم الديموقراطية منذ امد بعيد قبل سقوط جدار برلين1990 بعقود..
    وانت في السودان عالق بين ثقافتين
    ثقافة عروبية يروك اصحابها دونهم….
    وثقافة افريقية يرونك اصحابها فوقهم ويعرفون الكثير من الاغاني السودانية غير المامبو السوداني
    وبين مدرستين
    بضاعة خان الخليلي-اخوان مسلمين وشيوعيين وناصريين-الدولة المركزية
    بضاعة سودانية-الثورة الثقافية محمود محمد طه والسودان الجديد دجون قرنق-الدولة المدنية الفدرالية الديموقراطية…
    وهي مدرسة تبعد الف سنة ضوئية عن المحيط العربي والشعب السوداني ونخبه المستلبة والمزمنة
    فهل تريد ثورتك الثالثة تكون تغيير ام اعادة تدوير؟

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..