«عفا الله عما سلف»!!

الصراع في عالمنا هذا بين البندقية والصندوق، والصندوق المسكين أما أن يستخدم لصالح البندقية وإما أن يتم تدميره بواسطتها!!
ويستكمل المشهد بالمتباكين على الديمقراطية التي أتت بهم إلى كراسي الحكم فأهملوها وتركوها حائرة وبدلاً من ممارسة الديمقراطية حتى تصبح مساراً للوطن غفلوا عنها وتركوها نهباً لمصالحهم الذاتية حتى انقضت عليها البندقية وهم نائمون!!
والجميع يتباكى على الديمقراطية والحرية، وبتعبير أبعد ما يكون عن الديمقراطية. يظنون أن كثرة الأحزاب السياسية حتى بلغت نيفاً وتسعين أنها التعبير الحقيقي عن الديمقراطية وهي على العكس تماماً.
فكثرة الأحزاب السياسية وتشظيها إنما هو تعبير صريح وواضح عن عدم الإيمان بالديمقراطية التي تنادي بها الاحزاب والاحزاب المنبثقة عنها..!!
تكاثر الاحزاب هذا يذكرني بتكاثر الاميبيا التي عندما تصل إلى مرحلة معينة تنقسم ذاتياً إلى اثنين في متوالية هندسية لا نهائية، والاحزاب في السودان أصيبت بحالة شاذة انفرد بها السياسيون في السودان دون غيرهم من سياسيي العالم وهي حالة الانقسام الاميبي السياسي..!!
ما الذي يمنع تشكيل حكومة قومية..؟! للإجابة عن هذا السؤال تتصدى ذات الاحزاب التي تطالب بها، فالذي يعنيه تكاثر الاحزاب السياسية هو عدم وجود ثوابت متفق عليها فيما بينها، فإذا كان هناك اصول متفق عليها لاجتمعت على تلك الاصول وما تفرقت نيف وتسعين حزباً سياسياً..!!
أحزاب بلا هدف موحد وبلا برامج للوصول لذلك الهدف، ترفع شعاراً هلامياً وهو الديمقراطية وحين تصل إلى الحكم تستهين بهذه الديمقراطية وتهملها وتجعلها فريسة سهلة للبندقية..!!
الديمقراطية لم تكن في يوم من الأيام هدفاً في حد ذاتها، إنما وسيلة لتحقيق هدف، ولكن البعض لا يأخذونها إلا هدفاً لتحقيق مآربهم الذاتية، ويتفق معهم في ذلك حتى العسكر الذين انقضوا عليها بالبندقية..!!
سؤال غريب طرأ في ذهني لماذا يتخذ السودانيون السياسة كمهنة؟ والاجابة التي وجدتها اكثر من مناسبة هي ان السياسي في السودان لا يتعرض للمساءلة فهو لا يسأل عما يفعل. والشواهد على ذلك كثيرة، أرجو أن يدلني أي مواطن على سياسي نال عقاباً قضائياً على أخطاء سياسية ارتكبها، فهناك عبارة مقدسة عند كل السياسيين ولا أدري من أين حصلت على تلك الدرجة من التقديس وهي عبارة «عفا الله عما سلف» لا ادري كيف يتجرأ البعض أنفسهم في وضع ينوبون فيه عن المولى عز وجل ويصدرون الاحكام نيابة عنه وهو الواحد الاحد والآمر أولاً وأخيراً. وهل يعفو المولى عن رجل ارتكب ظلماً في حق أمة؟! إن الله تعالى يغفر الذنوب جميعاً عند التوبة والرجوع عنها ولكنه لا يغفر ظلم إنسان لآخر فقد حرم الظلم على نفسه فكيف يعفو عن ظلم ارتكب في حق أمة بأكملها؟!!
ويا سبحان الله الله نتخذ هذه العبارة الموضوعة «عفا الله عما سلف» لتخليص السياسيين من الذنوب التي ارتكبوها في حق الشعوب معتمدين على روح التسامح التي تمتاز بها الثقافة والتقاليد السودانية.
يمكن للإنسان أن يعفو عن خطأ ارتكب ضده من آخر وهذا حقه ويجزيه الله خيراً على ذلك ولكن ارتكاب الخطأ والاصرار عليه لتعاني منه أمة بأكملها لا يعفو عنه الله ولا يرضاه..!!
في تصريح لوزير مالية سابق أن الذي انفق على الكهرباء حرارية كانت أم كهرومائية بلغ الستة مليار دولار وأقل من هذا المبلغ بكثير ستنتج إثيوبيا ستة آلاف ميقاوات وهذا يعادل أكثر من ضعفي إنتاجنا من الكهرباء، وبعد كل هذا الإنفاق يشتري اليوم السودان الكهرباء من إثيوبيا.. بأي حال يمكن العفو عن إهدار المال العام هذا!! وبأي شرع غير شرع السياسيين الموضوع وبعبارة عفا الله عما سلف..؟!
إنها كلمة حق أُريد بها باطل وتشبه تلك العبارة المبتورة من الآية القرآنية الكريمة والتي تقرأ «لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى» فيتعمد البعض حذف وأنتم سكارى عن قصد..!!
في غير بلادنا عندما يخطئ السياسي أو الطبيب أو المهندس يقدمون للمحاكمة ويمنعون من ممارسة المهنة وفي بلادنا تقف عبارة عفا الله عما سلف جدار صد يقف خلفه السياسيون يحميهم، هذه العبارة تعني عفا الله عما سلف من الكفر به قبل الايمان فالاسلام يجب ما قبله..!!
السياسي يعفو رغم المرارات فقط عندما يقدم له النظام الجزرة فهو يعفو عما سلف وعما سيأتي لكونه شريكا فيه وتلك العبارة يتمسك بها السياسيون ويعضون عليها بالنواجز فهي منقذهم الوحيد من عقاب الدنيا ناسين ان عقاب الآخرة أدهى وأمر..!!
إننا نستطيع أن نحاسب التكنوقراط بالعلم والحقائق العلمية وثوابتها وقوانينها التي لا تحتمل المراوغة والتلون الذي يتحلى به عطالى السياسة، فمع التكنوقراط الحساب ولد «واخشى ما يخشاه التكنوقراط الخطأ، فأبسط الأخطاء يمكن أن يجعل الجسر ينهار، أما أخطاء السياسيين فتسبب انهيار الأمة بأكملها والدليل أمامنا أن السودان بدأ ينقص من أطرافه بسبب الأخطاء السياسية الفادحة والتي لا تنقذها من المساءلة إلا «عفا الله عما سلف» التي تقود إلى ضياع كل شيء، الامة والهوية وتصبح كسالفاتها من الامم التي اندثرت وذهب ريحها..!!
وأعجب كيف يقرر في مصير البلاد نيف وتسعين حزباً سياسياً لا تأثير يذكر لأكثرها حجماً على الشارع السياسي السوداني، والديمقراطية اصبحت حكراً على البعض دون ان يتمتع بها الأخرون، وقد اصبح الشعب السوداني هو شعب الله المحتار في تلك الديمقراطية التي يتبناها من انقلب عليها بالبندقية واولئك الذين اهملوها وانصرفوا لمصالحهم الذاتية بعد أن اوصلتهم إلى مآربهم.
إننا لا نريد سوداناً معجوناً بالفساد والنفاق السياسي ولا نريد سوداناً يقرر فيه البعض نيابة عنه وقد رفض الشارع هؤلاء البعض، نريد سوداناً يقول للمحسن احسنت إن أحسن وللمسيئ أسأت إن أساء، سوداننا لا يعفو فيه البعض عن الآخرين بما كسبت أيديهم في حق الأمة ولا يملكون الحق في هذا العفو..!!
نريد سوداناً يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر!!.
[email][email protected][/email]