هجرة السودانيين .. المؤقت الأبدي

كما هو معلوم، شهدت العشرية الأخيرة من القرن الماضي موجات غير مسبوقة من هجرة السودانيين لوطنهم بعد أن استل نظام الإنقاذ سيف الفصل والتشريد وأعمله في الخدمة العامة، بشقيها المدني والعسكري، وقصر فرص التوظيف والكسب على منسوبيه والموالين له، ليجبر الآلاف على مغادرة وطنهم بحثاً عن أسباب عيشٍ كريم وملاذات آمنة في أصقاعٍ بعيدة .. ثم كان أن خبت ظاهرة الهجرة خلال الفترة الإنتقالية لاتفاقية نيفاشا وما صاحب ذلك من تحسن نسبي في الاقتصاد أسهم فيه بشكل رئيسي تدفق عائدات النفط وتوقف نزيف الموارد التي كانت تذهب للمجهود الحربي.

ولمَّا كانت الدولة، وما زالت، تدار بشعارات هتافية لا علاقة لها بما يُسمى علم المستقبليات وينعدم معها الحد الأدنى من التخطيط والإستراتيجية، لم يتم الإلتفات للحقائق والتجارب العلمية البسيطة في الإقتصاد التي توجب توجيه مداخيل النفط لبناء قواعد إنتاج حقيقية تحمي العملة الوطنية من تناقص قيمتها وتقلص مساحات الفقر ونسب البطالة وتُجنِّب البلاد حالة التدهور الإقتصادي الذي ظل يتفاقم منذ أن ذهب جُل إنتاج النفط مع ذهاب الجنوب إلى حال سبيله، ما أدى إلى موجات هجرة جديدة فراراً من ضنك العيش ولحاقاً بالعدل والحرية اللذين سبقا إلى الهجرة من الوطن.

أعداد هائلة من الأطباء والمهندسين والأكاديميين وغيرههم من ذوي الكفاءات، من مختلف الأعمار، عبروا الصحارى والبحار والمحيطات وتبعثروا في عديد الدول على ظهر هذا الكوكب في ظاهرة تؤشر إلى مستوى بالغ الخطورة يتمثل في إفراغ السودان من السودان، لأنَّ الكفاءات باختلاف أنواعها هي في النهاية النخب التي تقود الحراك الانساني المفضي للتغيير وشق دروب النهضة .. وعندما يعامل الوطن الملايين من أبنائه كفائض لا مكان لهم فيه ويسوقهم زمراً إلى شتات المنافي والتيه في دروب العالم، فذلك يكفي لإعلانه منطقة منكوبة.

حسب تعبير كاتب فلسطيني، فإنَّ الفلسطينيين الذين لجأوا للبلدان المجاورة عندما حلَّت بهم نكبة 1948 تركوا قدور الطبخ على النار لتنضج على أمل العودة بعد ساعات، ولكنً الساعات امتدت لعشرات السنين، كما نعلم، وليس ثمة أمل يلوح في الأفق. وكذلك الحال بالنسبة للمهاجرين السودانيين، فما حسبوه مؤقتاً أصبح دائماً أو “مؤقت أبدي” كما قال أحد الظرفاء .. وفي الأسبوع الماضي نشرت وكالة الأنباء الفرنسية تقريراً عن هجرة السودانيين أوردت فيه عبارة قاسية وأسيانة لأحدهم قال فيها: “ما أعرفه عن الأوضاع في السودان، لا أعتقد أنني سأعود إليه”. ولا شك أنَّ هذا المهاجر السوداني الأسيان لم يعنِ بهذه العبارة بغضاً لوطنه أو يأساً من مُمكناته، وإنَّما بغضاً لواقعه الغاشم ويأساً من النواميس التي تهيمن عليه وتكلِّس كلَّ أنشطة الحياة فيه. وهو ذات المعنى الذي أومأ إليه ببراعة مقطع فيديو كاريكاتيري، يتم تدواله هذه الأيام بكثافة بين السودانيين عبر الوسائط الإلكترونية، يصوِّر طفلاً سودانياً يحبو على ركبتيه بينما أربعة من الزعماء، الذين ظلوا يتصدرون المشهد السياسي منذ عقود، يثرثرون بأحاديث عقيمة لم ينقطع سيلها حتى بعد أن بلغ ذلك الطفل في مسرى عذابه مرحلة الشيخوخة وجاوزها ليرتاح في قبره تاركاً لزعمائه الجمل بما حمل، وفي الخلفية صوت الراحل مصطفى سيد أحمد يردد كلمات الراحل حميد:

حيكومات تجي وحيكومات تغور
تحكم بي الحِجِي والدجل الكجُور
مرّة العسكري كسـّار الجِبُور
ويوم باسم النبي تحكمك القبور
وارضك راقدِي بور
لا تيراب وصلْ، لا بابور يدور

وقدر إجبار السوداني على التعلق بالهجرة في هذا الزمن الأغبر، يظلُّ ملدوغاً بالحنين للبيت الأول حيث نشأ وترعرع ولثغ بالحياة، ويظلُّ من أكثر المهاجرين إقامةً في الوطن ولو كان ذلك من خلال الذاكرة الملتاعة أو من خلال ما يترصده من أخبار لا تجلب عليه غير شقاء الضمير إزاء ما يقضم وطنه وأهله.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. الهجره رحله هادينا حمل الاسلام لنا ديينا
    ده نشيد قديم كان بتنشدو فرق الانشاد في مراكز الكيزان زمان …….اسه بادوب فهمنا قاصدين بيهو شنو

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..