مقالات وآراء سياسية

عن غموض مفهوم التغيير الجذري

*توسعة في مقال الأستاذ محمد سليمان عبد الرحيم القيادي في حركة (حق) ردا على مداخلة د. محمد يوسف محمد المصطفى القيادي في الحركة الشعبية شمال*

محمد سليمان عبد الرحيم

المقال الأصلي كان عن ضرورة وحدة القوى الشعبية الواسعة لإسقاط النظام الانقلابي والذي إجتذب تعقيباً من الدكتور محمد يوسف أحمد المصطفى (ود يوسف) أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم ورئيس الحركة الشعبية شمال في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة.

فيما يلي تعقيب ود يوسف وردي عليه :

كتب ود يوسف :

“سبحان الله الحي الذي لا يموت !!

أخونا محمد سليمان كان من أشد الشيوعيين تطرفا أيام كنا في الجامعة، ووأكثرهم تمسكاً بثوابت النصوص الماركسية اللينينية.

وحمدنا الله علي إنحيازه المبكر والجريء لنداء الخاتم عدلان أن آن أوان التغيير. إلا أنني ألاحظ قدراً كبيراً من التشدد في نقده لقوى التغيير الجذري متخذاً من نسبتها للحزب الشيوعي مدخلاً للنيل منها وقاعدة لتسفيه جدواها.

نتفق مع محمد سليمان تماماً بأن شرائح واسعة من شعوب السودان شاركت بفعالية وقوة في ثورة ديسمبر المجيدة ورفعت عالياً شعارات الحرية والعدالة والسلام كأهداف تجسد مطمح التغيير الذي رامه الثوار . مرحبا ونستغرب أن يدعو الثوار للتنازل المجاني عن مطلبهم العادل في تحقيق التغيير الفعلي الذي يؤسس لوطن جديد ويحصن مسيرته من الإنزلاق مجدداً في أتون جحيم الإستبداد والتهميش والإفقار وملحقاتهن. كما أخرتنا تجربتا أكتوبر والانتفاضة.

ثم أن محمد سليمان ينادي بتطرف إلى إشراك كافة القوي بما يعني حتى القوي المعادية للتغيير دعك عن المتحفظة عليه!!!! ؟؟.

يتم ذلك بناء على برنامج حد أدنى يتوافق مع مصالح القوي المعادية للتغيير ولا يمس مصالحها الظالمة !!! .

وهنا بكل تواضع نسأله ان يفيدنا عن سؤالين:

١. ماهي الدروس التي تعلمناها من تجاربنا الثورية الماضية فيما يتصل باهداف الثوار الذين كانوا فعلاً على الأرض؟؟؟؟؟ .

٢. ما جدوى ممالاة القوي المعادية للتغيير ونجاعة هكذا مسلك في معالجة قضايا الوطن وتحريره من ذل الفقر ومهانة الجهل وغلب التخلف؟؟! .

هذا وكل الود والاحترام للأخ محمد سليمان .

كان ردي الأول والعاجل على وديوسف كما يلي :

طالما حبيبنا ود يوسف (الذي يضع الآن العلمانية شرطاً لوحدة ما تبقى من الوطن) قد بدأ تعليقه بالتسبيح فسأبدأ أنا بالقول بأن الحمدلله الذي لا يحمد على مكروه سواه !! .

ربما كنت متطرفاً وأنا طالب في الجامعة، وذلك شي طبيعي، ولكن ما قولك في دكتور العلوم السياسية الذي يترك طلابه والمدرجات ليدخل الغابة في حركة مسلحة ؟؟!! .

انا تطرفت، ربما، في عهد الصبا ومطلع الشباب، وليس في خواتيم الكهولة مع تمنياتي الصادقة لود يوسف بطول العمر ! .

أسئلة ود يوسف تستحق رداً وافياً وأتعهد بذلك لأنها فعلاً مهمة وتوضح أهدافي بأفضل مما أفعل لوحدي .

تحياتي ومودتي الصادقة للحبيب ود يوسف

أعود الآن إلى تعقيب ود يوسف بمزيد من التفصيل:

أقبل إتهام ود يوسف لي بالتطرف أيام الجامعة فقط من باب الشغب الودي من صديق قديم، لأن الحقيقة غير ذلك، غير أن هذا ليس موضوعنا الآن.

من إتهامه لي بالتطرف، ينطلق ود يوسف إلى إتهامي “بما لاحظه من قدر كبير من التشدّد في نقدي لقوى التغيير الجذري متخذاً من نسبتها للحزب الشيوعي مدخلا النيل منها وقاعدة لتسفيه جدواها”. إن نقدي اللاذع ورفضي للتغيير الجذري وهجومي على قواه هو “تهمة لا أنكرها وشرف لا أدعيه”! .

إنني أعتقد جازماً أن في ما يسمى بالتغيير الجذري في حد ذاته من المثالب ما يكفي لرفضه سواء إنطلقت الدعوة له من الحزب الشيوعي أو من غيره.

أنا لم أهاجم الحزب الشيوعي وإنما فضحت محاولته إلباس برنامجه الحزبي الخاص وهو برنامج الثورة الوطنية الديمقراطية لبوس التغيير الجذري المطروح كإطار لتوحيد قوى الثورة، وأوضحت لماذا أن ذلك البرنامج، كونه جزءاً من برنامج حزبي متكامل، لا يصلح قاعدة لتوحيد قوى الثورة التي هي أوسع من قوى الجبهة الوطنية الديمقراطية بأكملها.

بعيداً عن الحزب الشيوعي، فإن رفضي وانتقادي لما يسمى بالتغيير الجذري يقوم على هلامية ذلك الطرح، ويؤكد ذلك أن أكثر المتشددين في طرحه اليوم وهم لجان المقاومة، ليسوا على اتفاق حتى الآن حول مضمونه ومحتواه، وما زالوا يجتمعون وينفضون ويعقدون الورش حول توحيد المواثيق إلخ !!! كما يقوم أيضاً على كونه طرحاً شمولياً يقصي جميع القوى السياسية التي لا تقول “الروب” وتوقع بالعشرة على مواثيق هذه اللجان.

 لقد قرأت مواثيق التغيير الجذري المطروحة في مراحلها المختلفة ولم أجد في أي منها إشارة ل “التعددية السياسية” ، كما أن “الآخر” في مفهوم هذه المواثيق ليس خصماً منافساً سياسياً وإنما هو إما غير موجود على الإطلاق أو موجود كخائن وعدو يجب سحقه والقضاء عليه تماماً.

إن ممارسات لجان المقاومة في باشدار ضد موكب قوى الحرية والتغيير وتهديداتهم لحزب البعث الأصل في شأن ندوته بمدينة المهدية هي مجرد لمحة خاطفة لما ينتظر البلاد في ظل “سلطة الشعب” التي يبشرون بها.

يتهمني الأخ ود يوسف بأني أدعو “الثوار للتنازل المجاني عن مطلبهم العادل في تحقيق التغيير الفعلي الذي يؤسس لوطن جديد ويحصن مسيرته من الانزلاق مجددا في اتون جحيم الاستبداد والتهميش والافقار وملحقاتهن”. في حقيقة الأمر، إذا كان هناك من شيء “مجاني” في هذا السياق، فهو هذه الإتهامات من ود يوسف ، والتي لا يكلف نفسه عبء الإشارة إلى كيفية توصله إليها. أنا لم أطالب الثوار بالتنازل المجاني عن أي شيء، وإنما طالبت من يرفعون شعارات التغيير الجذري ، وهم فصيل من وليسوا كل الثوار ، بالتنازل عن شعارات التغيير الجذري التي تتعارض مع بناء الجبهة المدنية الواسعة وهي الإطار الضروري الذي لا غنى عنه لإسقاط الإنقاذ ، أي التنازل عن تلك الشعارات مقابل إسقاط النظام فهل هذا تنازل (مجاني)؟ لا أعتقد أن بوسع أي شخص يؤمن بأهمية إسقاط الإنقلاب أن يعتبر ذلك تنازلاً مجانياً، بل هو تنازل يستحق كل الثمن الذي يدفع فيه. إن المشكلة مع دعاة التغيير الجذري، وكنت أظن ود يوسف، بحكم خبرته الطويلة في الحركة الشعبية لتحرير السودان، أكثر استيعاباً لهذه المسألة، أنهم يحلمون بحل كل مشاكل السودان التاريخية المستعصية بضربة واحدة، وعلى هذا الأساس فإن لسان حالهم يقول إما أن تحل كل مشاكل البلاد جذرياً بإعادة تأسيس الدولة السودانية وإقامة سلطة الشعب الآن أو فليستمر الإنقلاب! هذا بالضبط هو موقف الجذريين.

المؤسف أن ود يوسف لا يتسق حتى مع نفسه ذاتها في هذا الأمر، فهو رئيس حركة مسلحة لم ترفض في أي وقت من الأوقات التفاوض مع أي نظام عسكري، بل وقبلت في السابق بتسوية ضيظى و(تنازلات مجانية) أدت في النهاية إلى تقسيم الوطن وإلى هزيمة مشروع الحركة الأصلي تماماً على جانبي الحدود الجديدة، وبالرغم من ذلك فقد بقيت تلك الحركة حتى وقت قريب ترابض في جوبا منتظرة عودة هذا النظام إلى طاولة المفاوضات. من المؤسف أنه بدلاً من أن تنقل الحركة الشعبية شمال خبرتها الغنية تلك إلى شباب المقاومة، فإنها لسبب أو لآخر، تركب حافلة المزايدات قصيرة النظر وذات النتائج الباهظة.

يتهمني ود يوسف أيضاً بالدعوة “بتطرف إلى إشراك كافة القوي بما يعني حتى القوي المعادية للتغيير دعك عن المتحفظة عليه!!!!؟؟ ويتم ذلك بناء على برنامج حد أدنى يتوافق مع مصالح القوي المعادية للتغيير و لا يمس مصالحها الظالمة”.

 هذا غير صحيح البتة، إذ أن مقالي، وحتى نكون دقيقين، لم يحدد القوى التي ستشارك في الجبهة المدنية الواسعة وإنما عدد الجهات والفئات والقوى التي شاركت في الثورة، وبالطبع فليس من الضرورة أن تشارك جميع تلك الفئات والقوى في الجبهة المدنية الواسعة، فذلك يتوقف على أشياء كثيرة من ضمنها برنامج الحد الأدنى الذي يتم الاتفاق عليه. أما فيما يتعلق ببرنامج الحد الأدنى الذي اقترحته والذي يزعم ود يوسف أنه “يتوافق مع مصالح القوى المعادية للتغيير” فهو ورد في مقالي كما يلي “هو إسقاط الإنقلاب وتفكيك دولة الإنقاذ وإقامة الدولة المدنية الديمقراطية الكاملة بخروج العساكر من الحياة السياسية والاقتصادية تماماً والإعداد لانتخابات حرة نزيهة في نهاية الفترة الانتقالية”.

ربما لا يلبي برنامج الحد الأدنى هذا كل مطالب قوى الثورة، ولكن هل يتوافق مع مصالح القوى المعادية للتغيير؟ هذا سؤال على ود يوسف أن يجيب عليه.

أعود الآن إلى سؤالي ود يوسف الذين ختم بهما تعقيبه وأبدأ بسؤاله الثاني عن “جدوى ممالأة القوي المعادية للتغيير” لإنه من شاكلة الأسئلة التخوينية أو الترهيبية التي كنت أربأ بود يوسف أن يخوض فيها لأنها، على الأقل، لن تساعدنا في الوصول إلى تحليل موضوعي ومن ثم إلى نتائج صائبة. بالطبع ليست هناك جدوى من ممالأة القوى المعادية للتغيير، ولا أعتقد أن في مقالي ما يمكن أن يفهم منه ذلك، ولكن هناك فرق كبير بين ممالأة القوى المعادية للتغيير وبين أن ننقل معرفتنا وخبرتنا إلى قوى الثورة وخاصة القوى الشبابية وسطها لتعينها على التوصل إلى الخيارات الصحيحة. وهناك أيضاً فرق كبير بين ممالأة القوى المعادية للتغيير من جانب، ومداهنة قوى الثورة من الجانب الآخر والتصفيق لها في الصواب وفي الخطأ، وفي الحق وفي الباطل، وهو عمل انتهازي وستدفع القوى الثورية، والثورة كلها، ثمنه غالياً.

في ختام تعقيبه، سألني ود يوسف عن الدروس التي تعلمناها من تجاربنا الثورية الماضية. أنا لست في وارد إعطاء دروس للآخرين، ولكن لدي دروس إستفدتها من تجربتي السياسية حتى الآن ويمكن أن ألخص ما يهمنا منها هنا، كالآتي:

1. الدرس الأول والأهم هو موضوع مقالي الذي عقب عليه ود يوسف، وهو أن الشرط الأساسي لإسقاط الأنظمة العسكرية هو تحقيق أعلى مستويات الوحدة الشعبية، وأنه لا يمكن لأي حزب أو قوى سياسية منفردة أو معزولة مهما بلغت قوتها أن تسقط مثل تلك الأنظمة لوحدها.

2. مشاكل السودان ونزاعاته عديدة، سياسية واجتماعية، واقتصادية، وإثنية، وجهوية، وثقافية، ودينية، وجندرية، وكل ذلك في إطار من التخلف والجهل. ليست هناك عقدة سحرية واحدة يتم حلها لتنحل كل تلك المشاكل، كما لايمكن حلها بضربة واحدة، أو في فترة زمنية قصيرة مثل الفترات الانتقالية، كما يحلم الآن دعاة التغيير الجذري. إن ما نحتاجه هو إطار يتم من خلاله، ومنصة يتم على أرضيتها، معالجة تلك المشاكل، وهذا الإطار هو وهذه المنصة هي الديمقراطية. إذن في كل مرة يسيطر فيها نظام دكتاتوري على السلطة تصبح قضية استعادة الديمقراطية هي القضية ذات الأولوية والمقدمة على كل شيء آخر.

3. حينما تستطيل النزاعات ويصبح من الواضح أن موازين القوى لا تسمح لطرف بالإنتصار الكامل والنهائي على الطرف الآخر، يكون اللجوء إلى التفاوض والتسويات هو الحل الوحيد الممكن، لأن استمرار النزاع بدون أفق للحل سيؤدي إلى نتائج كارثية على الوطن ككل.

4. الحلول الجذرية سريعة و(ناجزة)، ولكنها ليست مستدامة ، وسرعان ما يتم الإرتداد والنكوص عنها. الحلول الديمقراطية، بالمقابل، بطيئة وتستغرق زمناً طويلاً في المشاورات والنقاش، ولكنها في النهاية تكون أكثر إستدامة وقبولاً من الأطراف.

5. ليست المواثيق هي التي تكفل إستمرارية النظام الديمقراطي، فما أكثر المواثيق التي وقعت في السابق وتم النكوص عنها بعد ذلك. إن ما يضمن استقرار وإستمرارية النظام الديمقراطي هو شكل متوازن من المؤسسات يتيح تمثيلاً أكثر عدالة للقوى الإجتماعية التي تقود النضال من أجل إسقاط الأنظمة العسكرية واستعادة الديمقراطية ويوفر مجالات أوسع للشفافية والمشاركة الشعبية.

6. لابد من مشروع وطني، ليس فقط على مستوى التعريف النظري والقانوني للهوية والمواطنة وأسس الحكم إلخ، وإنما مشروع وطني مادي ملموس متوافق عليه من الجميع، ويتمثل في خطة وطنية شاملة للنهوض والتنمية الاقتصادية تهدف إلى الخروج من أسر التخلف إلى رحابة العصر الحديث، بحيث تكون تلك الخطة ملزمة لجميع الأحزاب والقوى السياسية، ومن ثم أن تتنافس برامجها في تفاصيل تنفيذ تلك الخطة.

محمد سليمان عبدالرحيم

‫4 تعليقات

  1. كلمة ثورة تعني التغيير الجذري واي حراك جماهيري لا يصل لتغيير جذري يسمى انتفاضة حراك جماهيري تظاهرات تسمى اي شيء غير ثورة لو السودانيين عايزين ثورة دون تغيير جذري فهذا مستحيل الثورات تأتي لتغير جذريا الاسس والقواعد التي تقوم عليها الدولة وكل من يرفض التغيير الجذري فهو ليس مع الثورة ممكن يكون مع تتغير جزيء وبمسمى آخر هبوط ناعم ولكنه ليس مع الثورة إذا حركة حق تكون واضحة وتقول نحن ليس مع الثورة الكاملة بل نطالب بتغيير جزيئ

  2. لم اكمل القراءة بعد وصولى لمنطقة تحميل الحزب الشيوعى لمواقف لجان المقاومة من موكب قحت بباشدار وتهديدات البعث فى ندوة كررى وذلك لان كاتب المقال اقحم الحزب الشيوعى وتعمد عدم ذكر ما تعرض له منسوبى الحزب من مقاومة الديوم التى تتبنى حصريا منطقة باشدار حتى اليوم لقد كانت اثار ذاك البيان ماثلة حتى اليوم فيما انتهت مابين قحت والبعث ولم يصدر عنها بيانات ناهيك عن بوليس كيس كما يدعى البعض

  3. ما شاء الله
    الاستاذ محمد سليمان يكتب يسعة أفق وقدرة على التحليل نادرة للغاية هذه الأيام. والله مقال روعة واجابات شافية ووافية.
    لا ادري لماذا جاءت في مخيلتي صورة كتاب هذه الايام كلاعبي الكورة الذين يميلون للعك والعنف والفاولات.
    الاستاذ محمد سليمان من لمسة الكورة في ضربة البداية وحتى النهاية تلمس انه لاعب دولي موهوب يجب ان يتدرب اللاعبون على اسلوبه الرشيق وذكاءه اللماح.
    غاية القول الامم تدار بساس يسوس وليس بالرجالة والبذاءة والصراخ والاتهام والتخوين للاخر. وهو نهج درج عليه جماعة الحركة الشعبية وبعض العبط في لجان المقاومة او المتلصقين بالثورة مع قلة عقل باينة.
    مقال جميل استاذ محمد سليمان ومن المقالات النادرة الي قرأتها في الاونة الاخيرة
    ربنا يحفظك ويبارك فيك

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..