الأرواح والرقيق في وسط السودان: الريح الأحمر في سنار

الأرواح والرقيق في وسط السودان: الريح الأحمر في سنار
Spirits and Slaves in central Sudan: The Red Wind of Sennar
سوزان م. كينيون Susan M. Kenyon
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص لما جاء في مقدمة كتاب البروفيسورة سوزان م. كينيون المعنون:” الأرواح والرقيق في وسط السودان: الريح الأحمر في سنار”، والذي نشرته دار بالقريف ماكميلان في سبتمبر من عام 2012م. والكتاب هو ثمرة دراسة ميدانية قامت بها المؤلفة عن حياة وممارسات الزار عند بعض السودانيات، وتربط بينها وبين أصول من يقمن بتلك الممارسات، وبتاريخ الاسترقاق في المنطقة منذ سنوات التركية في السودان، وتأثير الرأسمالية العالمية، وتحول الحقائق الإسلامية (الإسلام السياسي، والصوفية أيضا) وكل ذلك مما يفسر استمرار شعبية هذه الممارسة إلى الآن.
وتعمل البروفيسورة سوزان م. كينيون أستاذة غير متفرغة في جامعة بتلر الأميريكية، وهي حاصلة على درجة الدكتوراه من جامعة براين ماور الأمريكية في الانثربولوجي في عام 1977م، وكان موضوع دراستها عن سكان الأصليين في منطقة على الساحل الغربي لكندا. وعملت باحثة مستقلة بين عامي 1979 و1985 في منطقة سنار، وأثمر بحثها عن كتابين هما ” ?Five Women of Sennar: Culture and Change in Central Sudan وهذا الكتاب الذي نلخص بعض ما جاء في مقدمته. وساهمت المؤلفة في غضون تلك السنوات أيضا في حملات محو أمية النساء وتعلمينهم حرفة صناعة وبيع المشغولات اليدوية ضمن مشروع مولته السفارة الهولندية بالخرطوم. وعادت لسنار في أعوام 2000 و2001 و2004م ضمن فريق يبحث في أمر الخيارات العلاجية (واستخدام الأعشاب الطبية) في سنار بالتعاون مع كلية الطب بسنار.
وسبق لنا ترجمة مقال للمؤلفة نشر في “مجلة الأحفاد” عن “الجندر (النوع) ودراسة الطب في وسط السودان”.
أشكر المؤلفة لمدي بنسخة من كتابها.
المترجم
********* ********** ********** **************

بعد وقت قصير من وصولنا لهذه المدينة السودانية في عام 1980م قابلنا عائلة ممن يسمون “الناس الملكية”، ولما كنت أدرك أن ذلك ليس وصفا لإثنية (عرق) معين، فقد افترضت أن أولئك الناس هم مجموعة قبيلة معينة مثل النوير أو الزاندي أو الدينكا، وهي أسماء قبائل معلومة لأجيال من طلاب الأنثروبولوجيا. وبدا غالب أفراد العائلة (من الملامح واللون) وكأنهم من جنوب السودان. غير أني علمت أنهم كانوا في هذه المدينة منذ سنين طويلة جدا. وكان يسكنون في بيت في وسط المدينة في حي الدرجة الثانية، بقرب أحد المساجد الكبيرة، يطل على ميدان فسيح يقصده الناس في الأمسيات للاستمتاع بنسمات الليل الباردة في فضائه الواسع. وبالبيت حوش كبير به شجرتين ضخمتين كانت تؤدي تحت ظلهما غالب الأعمال المنزلية. وكان المنزل كبيرا وممتدا غير أنه كان أيضا متهالكا بعض الشيء، فمصاريع أبوابه منحرفة، والجدران بدأت في التهدم، وأثاث وفرش الدار مغبرة وبالية. إنه بيت كان قد شهد فيما مضى أياما أجمل.
وخطبت إحدى بنات تلك العائلة واسمها … لأحد جيراننا الجدد. وكان زوجي يعمل حينها في المعمل البيطري الإقليمي في طرف المدينة الجنوبي، حيث كنا نقيم في بيت حكومي في مجمع “مباني البطري”. وفي ذلك المجمع وجدنا أنفسنا ضمن مجتمع شديد الترابط (مصداقا لقول الشاعر “والماهم قراب قربهم العمل”. المترجم) شمل العائلة الممتدة لعمي …، المساعد البيطري، و….خطيب تلك الفتاة، والذي أحضرها ليعرفنا بها. أحببتها منذ تلك الزيارة فقد كانت شخصية دافئة ومنفتحة وشغوفة بالحياة والتعلم، وظلت تجرب فينا بعض التعابير الإنجليزية التي تعلمتها في مدرسة ليلية. ولفت نظري بشدة أنها كانت “مختلفة” عن بقية جيراننا.
وبعد أيام من زيارة تلك الفتاة لنا مع خطيبها، قمت وجارتي زوجة المساعد البيطري برد الزيارة والذهاب لمنزل الفتاة لتناول طعام الغداء في بيتهم القديم. وكانت تلك إحدى خطوات شكليات الزواج. غير أن جارتي بدت منزعجة نوعا ما من تلك الدعوة، بل من فكرة الزواج من تلك الفتاة من الأصل. وحكت لي ونحن في طريقنا لتلبية الدعوة شيئا قليلا عن عائلة الفتاة والتي سنقابلها بعد وقت قصير، والتي كان واضحا أنها غير متحمسة لاقتران جارنا الشاب بها. وحكت لي عن والدتها وجدتها وعمتها. وحذرتني من والدة الفتاة على وجه الخصوص، فهي كما قالت “الأومية” (أي قائدة) جماعة سمتها “زار بري zar burei”، وهي تشعر بالارتياب والذعر لمشاركتها الغداء في “صينية” واحدة في بيت زار. ووصفت مرافقتي والدة الفتاة بأنها امرأة قوية، وشديدة المراس، ومشهورة بقدرتها على استخدام “الأرواح القوية”، وفي علاج كل المشاكل، الصحية منها والاجتماعية. وأكدت أكثر من مرة على أنها امرأة صعبة وبغيضة ? وخلصت إلى إنها ليست بنوع المرأة المسلمة التي ينبغي أن أقابلها. ويصدق ذلك الوصف على جدة الفتاة وعمتها أيضا، فهما بغيضتان مثلها وتشربان الخمر، وتعملان مع “الأومية” تلك في طقوس الزار وتلبس الأرواح، ولكنهما لا يمتلكان مثل مواهبها الجمة. وأشارت من طرف خفي أن لعمة الفتاة ماض لا يخلو من الفضائح، ليس فقط في صناعة المريسة (المحرمة)، بل في أمور أخرى تتعلق بالسلوك الاجتماعي من شأنها أن تهز معايير الطبقة الوسطى المحترمة المسلمة في مدينة صغيرة مثل هذه.
وكنت أعلم ما فيه الكفاية لأدرك أن بعض ما وصفت به مرافقتي تلك العائلة إنما هو محض اختلافات طبقية وثقافية، غير أني كنت أتفهم أيضا تخوفها من أول زيارة لبيت زار.
وعند وصولنا لمقصدنا استقبلتنا على الباب سيدة الدار. كانت امرأة ثَأْدَة عريضة المنكبين تبدو على محياها مسحة اكتئاب، غير أنها حيتنا بطريقة لم تخل من بعض الحرارة. ولكن ما اتخذنا مجلسنا في غرفتها حتى انفجرت في خطبة عنيفة ومسهبة ضد “ولدنا” خطيب ابنتها، بدعوى أنه لم يف بأي من الالتزامات التي يقوم بها أي عريس مرتقب. فهو لم يقم بشراء أي شيء للعائلة أو لخطيبته، ولم يدفع مهرا، أو يساهم بشيء في حفلة الزواج المقبلة، ولا يبذل أي جهد ليكسب ود العائلة التي سيصاهرها. وانتقلت بعد ذلك للهجوم على شخصية الخطيب (وبدا أنها كانت تهاجم عائلاتنا نحن أيضا)، ثم نهضت متثاقلة من تلك الغرفة الصغيرة قليلة الأثاث وهي تكاد تتميز من الغضب والغيظ، وتركتنا لنتفكر مليا في مثالب فتانا الخطيب. وبعد دقائق أحضرت صينية الغداء، ومعها أتت الجدة لتشاركنا الطعام. وكانت سيدة بالغة اللطف والتهذيب، وبدا لنا أنها كانت سعيدة حقا بزيارة “خواجية” كما كانت تناديني. وكانت، وعلى العكس من ابنتها، ودودا بهشة، غير أنه صعب علي أن أفقه كثيرا مما كانت تقوله، ربما بسبب لهجتها ولكنتها القوية. وفسرت ابنتها لاحقا ذلك بأن في كثير مما تقوله والدتها “رطانة” قديمة لا تفههما هي أيضا. ثم أتت بعد الغداء عمة الفتاة، ووجدتها امرأة طويلة مليحة وبالغة الزينة وذات ملامح صارخة. وكانت هي مثل خطيبتنا شديدة الاهتمام بي وببلدي. ثم أتت بنت تلك العمة، وكانت صبية ضخمة وذات وجه مستدير، وكانت أخلاقها البالغة التهذيب ولونها الفاتح يميزها عن بقية أفراد العائلة.
كانت تلك أول مقابلة لي مع “الناس الملكية”. ومرت سنوات عديدة قبل أن استوعب تماما تفسير كثير مما قالوه لي (غالبا بطريق غير مباشر) عن أنفسهم وماضيهم، وأيضا عن عالم البشر والأرواح من حولهم. وكان كل من سألتهم عن هؤلاء “الناس الملكية” من زملائي بجامعة الخرطوم وجيراني وأصدقائي في حيرة وعجب وتعجب مثلي تمامي من أمر “هؤلاء الناس”. غير أني لاحظت أنهم بعض من سألتهم كانوا غير راغبين بالتوسع في الحديث عنهم، وبدا أن بعضهم كان يعرف أكثر مما يود التصريح به.
وهذا الكتاب هو محاولة مني لفض ما خفي من أسرار ذلك الصندوق المغلق بما توصلت لمعرفته في سنوات بحثي الميداني بالسودان عن نشاط هؤلاء الناس في مجال المعالجات الروحية (مثل الزار وتلبس الأرواح)، وهو المجال الذي عرفوا به في أذهان العامة. وتبين لي، بعد التصاقي بتلك العائلة أنه يصح أن نطلق على “الناس الملكية” صفة “قبيلة كولونيلية / استعمارية Colonial tribe”، ويعني هذا أن أسلاف هؤلاء القوم كانوا قد استرقوا وهجروا غَصْبًا من ديارهم الأصلية وأرسلوا إلى شمال السودان ومصر. وأتت هويتهم الحالية نتيجة للسياسات الاستعمارية أكثر منها نتيجة صلات نسب. ويحجم الناس، ولأسباب كثيرة، في الكتابات الرسمية والعامة، وفي أحاديثهم الخاصة أيضا، عن الخوض في أمر هؤلاء الناس. ولم أستطع سبر غور بعض “أسرار” هذه الجماعة إلا مما سمعته من إشارات وتلميحات بعض أفراد العائلة وغيرهم، وكذلك مما شاهدته وسمعته في طقوس الزار وتلبس الأرواح. غير أن كثيرا من القصص التي سمعتها عن هؤلاء الناس كانت تروى بطرق متباينة ونسخ مختلفة.
ولقد ظل الزار وتلبس الأرواح مهيمنا على حياة تلك العائلة لأجيال بعيدة. وحفظت في ممارسات طقوسه ذكريات عديدة وبعيدة وغير متوقعة. ودراستي هذه تتعلق بالعلاقة المتشابكة بين تاريخ “الناس الملكية” وتاريخ الزار وتلبس الأرواح في منطقة معينة من العالم الإسلامي. وخلال بحثي عثرت على دلائل تشير إلى أن هؤلاء الناس الملكية، بتاريخهم “الأقل رفعة subaltern ” في نظر الكثيرين، والذي ما فتئ الناس يسترجعونه بطرق متباينة، غير مباشرة أحيانا، ولكنها نابضة بالحيوية دوما، يزعمون أنهم هم من أدخلوا هذه الطقوس إلى هذه المنطقة. وظل الناس يربطون بين الزار و”الملكية”، رغم أن أغلب من المشاركين فيه الآن يأتون من مختلف الأعراق والخلفيات.
وكثير ما يشار للملكية بأنهم هم “السكان الأصليون” في المدينة، لأنهم كانوا أول من أنشأ المدينة بصورتها الحديثة الحالية عندما جاءت بهم حكومة العهد الثنائي الاستعمارية ليستوطنوا في المنطقة، والتي يراها الأجنبي القادم إليها لأول مرة مدينة أفريقية ذات تاريخ استعماري وطبيعة تقليدية، بشوارعها المتربة وأسواقها المفتوحة المزدحمة بالبضائع والبشر من كل الأجناس والأعراق والألوان. غير أنها مدينة كوزموبلاتينية (عالمية) أيضا بفضل القنوات الفضائية العالمية والهواتف النقالة (غالبا بفضل هدايا الأهل والأصدقاء المغتربين في دول الخليج والغرب وماليزيا). وتجوس فيها أيضا سيارات الركشات الهندية والبكاسي اليابانية جنبا إلى جنب الرينج روفر وغيرها من السيارات الفارهة، وتنافس فيها الأطعمة الغربية مثل المكرونة الأطعمة الشعبية مثل الفول والعدس. وتجد فيها أيضا مختلف الأزياء مثل تلك التي تراها في أي مدينة إسلامية عصرية. وتتناثر هنا وهنالك، خاصة في شمال المدينة، فلل أنيقة بنيت في الغالب من الأموال التي يحولها المغتربون في الخليج، بينما بقي الجزء الجنوبي كما كان في الماضي مكونا من بيوت وعشش طينية يقطنها نازحون وفقراء أتوا من مختلف أنحاء البلاد خاصة في مناطق الحروب الأهلية.
وفي المدينة (مثلها مثل المدن الإسلامية الأخرى) يجد المرء فرص العمل والعلاج تعليم الأطفال، وحفظ القرآن في الخلاوي، والصلاة في المساجد، وربما الانضمام لجماعة إسلامية ما. وبالإضافة لما تقدم فأن هنالك بالمدينة أربع كنائس يرتادها في الغالب اللاجئون الفارون من الحروب الأهلية في مناطقهم.
وبالعودة للملكية وعائلة خطيبتنا و”زار بري” الذين يمارسون طقوسه (والذي كتبت عنه كثير من المؤلفات والأبحاث في كثير من الدول) نجد أن هذه الممارسات تقدم وسيلة للمعرفة والتذكر تختلف تماما عما يقرأه المرء في الصحف السيارة، أو ما هو موجود في كتابات المؤرخين أو أيديولوجيات علماء الدين. ويظل كثير من ثراء تاريخ الملكية جزءا لا يتجزأ من “زار بري” والذي يمارسه كثير من الناس من مختلف الأعراق والطبقات والخلفيات.
ويرى الأجانب (الغرباء outsiders) والمتشككون (skeptics) وغير المؤمنين / المنكرين (nonbelievers) أن تلبس الأرواح ظاهرة غريبة. ففي الثقافات التي يندر فيها حدوث تلك الظاهرة فإن فكرة أن يقوم أن أحد البشر بتفريغ جسده (أو جسدها) في جسد شخص آخر تبدو فكرة “غير طبيعية” أو “غير عادية” بغض النظر عن كون هذا التفريغ اختياريا أو غير ذلك. وقبل وصولي للسودان في 1979م كانت لدي نفس الأفكار المتشككة المنكرة، غير أنه سرعان ما تبين لي أنه ما من أحد من أصدقائي الجدد أو جيراني كان كذلك. فالثابت أن تلبس الأرواح (بمختلف تفسيراته) أمر يحدث كثيرا في كثير من المجتمعات، بما فيها المجتمعات الغربية. وفي الحقيقة فإن المجتمعات التي لا تعترف بتلبس الأرواح كعملية مشروعة legitimate process هي الأقلية. وكغيري من دارسي العلوم الاجتماعية الذين عملوا في البلدان التي يشيع فيها تلبس الأرواح، فأنا مدركة لأنه ينبغي عدم التعجل بوصف تلك العملية بأنها مَرَضيّة pathological أو مهددة threatening ، بل هي جزء من المعرفة المسلم بصحتها والتي كان جيراني يحاولون تقاسمها معي. وقد لاحظت شخصيا تزايدا في النشاط المتعلق بممارسات تلبس الأرواح في مختلف بقاع السودان وفي غيره من الدول.
غير أن كل ذلك يثير عدد من الأسئلة عن أسباب انتشار هذه الممارسات وذلك السلوك حتى في مناطق بعيدة وغير متوقعة. وكيف لنا أن نفسر مرونة resilience هذه الممارسة، وقدرتها على البقاء والاستمرار وجذب أتباع جدد على الدوام. وقد ربط بعض الكتاب بين هذه الظاهرة وكثرة حالات القمع والعنف الاجتماعي، بينما ركز آخرون (خاصة علماء الأنثروبولوجيا) على أن تلبس الأرواح لم يستمر في مقابلة الاحتياجات المحلية وحسب، بل وأن الثراء والديناميكية dynamism (أو لعل المقصود هو المذهب الدينامي والذي يقول بأن ظواهر المادة أو العقل أو الحركة يمكن تفسيرها بأنها مظاهر للقوة!) في مقولات وممارسات تلبس الأرواح جديرة بالدراسة في حد ذاتها كظواهر.
وتساهم هذه الدراسة الحقلية في القاء مزيد من الضوء على ظاهرة تلبس الأرواح . وفي الدراسة يلعب “الملكية” دورا مهما بسبب تاريخهم وبسبب حاضرهم كذلك. فهم يمثلون مجموعات تعد من “الدرجة الثانية” في كل أنحاء العالم، وكانوا ولا زالوا من المهمشين. ويشمل ذلك في السودان (وغيره) من كان أسلافهم قد استرقوا وهجروا غَصْبًا.
غير أنه يجب ملاحظة أن الزار لا يقدم منظورا (perspective) يسجل فيه كل العذاب والعنف والمقاومة والشقاء والكراهية التي كابدها أسلافهم من المسترقين في السابق، بل هو في الواقع أقرب إلى أن يكون ذكرى أرواح “أستلبت”. ولا مشاحة في أن هذه فكرة غامضة بالفعل، غير أنها نابضة بالحيوية و”حقيقية” أيضا، في أنها، وعلى وجه العموم، تعزز ما صار مقبولا بصورة واسعة منذ عصر التنوير. وبقيت تلك الأرواح على صلة بأنواع عديدة من البشر، إذ أن بقائهم نفسه كـ “خدم” و”عبيد” هو ما مكن من هم في السلطة للاستمتاع بمزايا حياة العالم الكوزموبلاتيني المترفة. غير أن العبيد كانوا يشاركون أيضا في ذلك العالم الكوزموبلاتيني (وهم على هامشه بالطبع) كغرباء. ومن منظور الأَمَة (الأنثى المستعبدة) فإن كل الآخرين هم “غرباء” كتب عليها أن تعيش بينهم قسرا وتقوم على خدمتهم ليل نهار، وظلت تراقب (وأحيانا تشترك) في مناسباتهم العجيبة. وتجد أن أرواح العبيد في حفلات الزار تكون عادة قوية ومسيطرة، بعكس أرواح “الغربيين” والتي عادة ما تكون مخمورة وفاسدة. ولعل هذا يستعيد ذكرى هيمنة هؤلاء على المسترقين في الماضي.
وعلى الرغم من أن العبودية صارت، في غالب أنحاء العالم، من ذكريات الماضي، إلا أن ذكراها بقيت مؤثرة في حياة كثير من الناس. وبقي الرق يمثل “القالب template ” لطقوس الزار وممارساته.
ويبدو أن ممارسات ومعتقدات الزار المعاصرة (في الدول الإسلامية؟ المترجم) اتخذت شكلها النهائي في القرن التاسع عشر في أوساط أفراد الجيش العثماني. ومع مرور الزمن صار الزار يؤمن صوتا لمن لا صوت له في المجتمع، أو من أسكت حسه، مثل “الناس الملكية” وبخاصة النساء.
ومن خلال الزار وممارساته تعبر النساء عن معارفهن، وخبراتهن في الماضي والحاضر، وابداعاتهن ودينامكياتهن. وتدور كثير من الأغاني والترانيم التي تؤديها قائدات الزار والتلبس حول تلك المعاني والمفاهيم.
ويستعرض الكتاب وجود وانتشار الزار في المدينة، أحيانا في وجه معارضة قوية. فتاريخ المدينة (وربما حاضرها) مرتبط بالزار من نواحي عديدة، وعلى الرغم من عصريتها، ومجتمعها الإسلامي، وشيوع التعليم الحديث (العلماني secular) فيها فإن أعداد اللواتي يجذبهن الزار ما زال في ازدياد مضطرد رغم ما يجدن من سخرية وتهكم وتسفيه بل واضطهاد ومحاكمة (يجب تذكر أن بحث المؤلفة أجري في عام 1979م أو نحوها. المترجم). وقد يكون من أسباب هذا المد أن ذكريات طقوسه تخلط وتجمع الصراعات الحالية مع انتفاضات الماضي، وذلك في صور وأشكال ليست بالضرورة مستقيمة أو خطية linear أو صريحة أو حتمية. وفي ظني فإن ممارسات الزار أن قدر لها أن توجد في المستقبل، فسوف تتخذ لها ذكريات وتجارب مختلفة تماما، كما هو ملاحظ خلال الثلاثين عاما الماضية.
إن تلبس الأرواح سيبقى مهما وذا صلة relevant لمن يحضرن (أو يحضرون) حفلات طقوسه أو يعانون من علله، وكذلك للآخرين من الغرباء (السودانيين وغيرهم) الذين يحاولون فهم تعقيدات أحوال السودان المعاصر.
لقد عشت في سنار لفترة طويلة، وفي بعض أنحاء السودان الأخرى (مثل الخرطوم ونيالا بدارفور وواد مدني بالجزيرة) وتنقلت في أجزاء من شرق وجنوب السودان. ووجدت أنه من الصعوبة تجاهل وجود “تلبس أرواح” في كل هذه المناطق. ورغم بعض الاختلافات بين بعض ما شهدته في سنار وتلك المناطق، إلا أن الفهم العام لطبيعة الزار كان واحدا في كل مكان. فقد شهدت شخصيا حفلات للزار في المدن الثلاث بالعاصمة وفي الجزيرة ودارفور وحصلت على إفادات من عدد من النساء في تلك المناطق عن الزار في المجتمعات الحضرية والبدوية، وسجلت ملاحظاتي عن تلك المقابلات في ثنايا هذا الكتاب. وعلى المستوى الشخصي ولصلتي الطويلة بالزار وتلبس الأرواح، والتي استمرت لعقود، أعلم أن تلك “الأرواح” إن لم تكن قد تلبست جسدي فإنها بالقطع ظلت وتظل تشغل بالي وفكري، ولا تدع لي مجالا لنسيان واجباتي نحوهم ومستضيفهم من البشر، والذين كانوا في غاية الجود معي وقدموا لي الكثير من وقتهم وكرمهم الفياض.
********
ملاحظة من المترجم

للمزيد من المعرفة بالزار وغيره من الممارسات الشعبية يمكن الاطلاع على كتاب “الزار والطمبرة”، وكتاب “الحكيم” للدكتور أحمد الصافي، والصادر في 2013م، والذي كتب مقدمته دكتور عبد الله علي إبراهيم بعنوان “المرض علاجا وثقافة”. وقبل ذلك ما كتبه بروفيسور التجاني الماحي في أربعينيات القرن الماضي عن الزار.
ونشر في العام الماضي مقال بقلم باحث أمريكي عن “المتلازمات العرقية كتمويه للاحتجاج على الاستعمار”، ذكرت فيه المؤلفة الزار في جنوب السودان كأحد الأمثلة، وتفاصيل المقال هي:
Hegeman E. Ethnic syndromes as disguise for protest against colonialism: three examples. J Trauma Dissociation.2013;14:138-4

تعليق واحد

  1. في نهاية السبعينات كان والدي عليه رحمة الله مدير ادارة الاعلام الخارجي في وزراة الثقافة والاعلام اثناء وزارة العم بونا ملوال.
    طلبت اذاعة وتلفزيون بي بي سي اجراء تحقيق كامل عن الزار
    حضر فريق ضخم من لندن بمعدات رهيبة لاجراء هذا التحقيق المصور، تم تصوير عدة حلقات كاملة ولاسابيع عن الزار، لا اعتقد ان هناك توثيق يماثل هذا العمل، قامت البعثة باهداء والدي نسخة كاملة عن هذا العمل الضخم بعد عمل المونتاج، وذلك نسبة للتسهيلات التي قام والدي بتوفيرها لهم، اعتقد ان النسخة موجودة في مؤسسة الدولة للسينما.

  2. في نهاية السبعينات كان والدي عليه رحمة الله مدير ادارة الاعلام الخارجي في وزراة الثقافة والاعلام اثناء وزارة العم بونا ملوال.
    طلبت اذاعة وتلفزيون بي بي سي اجراء تحقيق كامل عن الزار
    حضر فريق ضخم من لندن بمعدات رهيبة لاجراء هذا التحقيق المصور، تم تصوير عدة حلقات كاملة ولاسابيع عن الزار، لا اعتقد ان هناك توثيق يماثل هذا العمل، قامت البعثة باهداء والدي نسخة كاملة عن هذا العمل الضخم بعد عمل المونتاج، وذلك نسبة للتسهيلات التي قام والدي بتوفيرها لهم، اعتقد ان النسخة موجودة في مؤسسة الدولة للسينما.

  3. اذا كانت الجدة مازالت تتكلم اللغة الاصل (الرطانة) يعني ذلك ان لهم اصل من واقع القبيلة وبالتالي لهم تقاليد وثقافة وعادات ومن المعروف ان الذين استرقوا في الماضي كاالافرو اميركان (الزنوج في اميركا) مثلا اصبحوا مقطوعي المنبت لايعرفوا اي قدر من ثقافتهم الام او لفات قبائلهم في اوطانهم التي جلبوا منها
    كيف لاسرة او اسر لها اصل وجذور يطلق عليهم هذة الكلمة الغليظة ان الكراهية والاستعلاء العرقي الكذوب من اناس لمجرد الاختلاف في اللون او اللغة والعرق والجنس .
    ان الاطلاع والمعرفة والبحث والمصادر ليست حكر او حصريا حتى يأتي من ماوراء البحار ليطلعنا على تاريخنا وتكويناته ومكنوناته الاجتماعية
    هذا اذا فتحتم الباب مواربا كما فعلتم هذه المرة سوف يفتح على مصراعيه ،ليس كما كان اناس من نفس الشاكلة سيئة القصد والسريرة يدسون في مادة التاريخ (اتفاقية البقت )حتى ينشأ الجيل وفي عقله الباطن ونظرة الدون للاخر
    ولكنهم لم يكملوا الرواية وأن ثورة الزنج في العراق وفي الموصل تحديدا هي النهاية الحتمية لاتفاقية البقت والترحيل لارض المعياد الى مكان ما .. وحتما سوف نجد الاجابة في كتاب العقد الفريد وكتاب الشعر الجاهلي
    ونعلم بان التركية والمهدية والطائفية السودانية لعبت دورا مخزي من تاريخ العبودية في السودان وهذا يقودنا الى المسكوت عنه والمنبتين هي حقائق ولكن عفا عليها الزمن ،يجب أن نتجاوزها بكل تحضر وانسانية واخلاق
    يجب في هذه المرحلة ان نعمل كما قال د/جون قرنق ،على مايجمعنا كسودانيين وليس على مايفرقنا .انتهى.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..