مقالات سياسية

محمد طالب الهندسة في الحياة الأبدية

محمد كان على موعد مع أصدقائه غدا للتحضير والترتيب للمسيرة السلمية للمطالبة بالحرية والعدالة الإجتماعية التي دعى إليها تجمع المهنيين ومن الفرح لم يستطع النوم تلك الليلة فإستيظ باكراً بعد أن صلى الفجر بدأ يتبادل الرسائل مع أصدقائه وحددوا مكان اللقاء والزمن أيضا … وتناول الإفطار مع والدته وخرج … وبعد عدة خطوات رجع وسأل والدته : يا أمي إن كنت تحتاجين الى شي لأني ذاهب الى سوق امدرمان

وقالت له : الحمد لله يا محمد ربنا يحفظك أذهب يا ولدي ولا تتأخر على الغداء قبّل يدها مرة أخرى ثم حضنته فكان لديها إحساس غريب لم تستطع تفسيره .

ومحمد يحمد ربه ليل نهار بأن له أم رائعة وعظيمة كرست كل مجهودها لتعليمه وأخوانه … وهو في الطريق يفكر كيف سيسعد أمه العظيمة بعد أن يتخرج من كلية الهندسة وكان على قناعة في ظل هذا النظام لن يستطيع والسبب فى هذا الإحباط أن الأوضاع فى هذا العهد البائس مقلوبة: الأسباب فى السودان غالبا لا تؤدى إلى النتائج. الاجتهاد ليس أبدا شرطا للتقدم والكفاءة ليست أبدا معيارا للحصول على وظيفة جيدة. بل إن صناعة الثروة لا علاقة لها غالبا بالنبوغ والاجتهاد. كل ما تحصل عليه فى البلاد الديمقراطية باجتهادك وأحقيتك تستطيع أن تحصل عليه فى سودان (الجبهة الإسلامية) بعلاقاتك وكذبك ونفاقك، إذا كنت نابغاً فى السودان فأنت فى مشكلة كبرى، وسيكون وضعك أفضل لو كنت عاديا أو حتى خائبا وبليدا أولا لأن النظام مصمم أصلا للعاديين فهو يضيق بالنوابغ وثانيا لأن مستقبلك أولا وأخيرا يتوقف على علاقاتك وليس استحقاقك وجاء على باله جارهم الذي لم يكن يحمل مؤهلات تؤهله لأي وظيفة ولا يعلم أحد أين يعمل وأثرى ثراءا فاحشا في زمن وجيز جدا وأن الموهبة فى السودان تشكل عبئا على صاحبها وتثير عليه الضغائن والأحقاد وتجعل الكثيرين يتطوعون لتدميره.

وصعد محمد الى الحافلة وهو جالس لم تنقطع حبال أفكاره فإذا كنت موهوبا فى (سودان الكيزان) فعليك أن تختار بين ثلاثة طرق: إما أن تهاجر إلى بلاد ديمقراطية تحترم المواهب وتقدر الكفاءة فتعمل بجد وتتقدم كل يوم حتى تصبح مثل كثير من السودانيين النوابغ الذين وجدوا المساعدة في بلاد الديمقراطية ونبغوا وتتطوروا، وأما أن تسلم موهبتك لنظام الاستبداد وتقبل أن تكون خادما له وأداة للقمع والظلم والتدليس على الشعب. فتذكر أنها مغامرة وأنه سيكون وجبة لأسماك البحروتذكر والدته وأخواته سيفتقدونه كثيرا… إذاً لا مجال إلا تغيير هذا النظام الإستبدادي ونبني سودان جديد ونعيد دولة القانون والديمقراطية وننعم بالإستقرار

ثم توقفت الحافلة ووصل الى وجهته وإلتقى أصدقائه وتناولوا أطراف الحديث وعن الوضع المأساوي.. وبدأوا يتفاكرون عن خطة بداية المسيرة السلمية وكيف سيلتقون إذا تفرقوا وماهو الهتاف والأولويات في المسيرة وتأمينها حتى تؤدي الغرض المطلوب منها وبدأ العمل بسبعة أشخاص ثم بدأ يزداد العدد شئيا فشيئا وهم يهتفون (سلمية سلمية ضد الحرامية – حكومة العسكر تسقط بس – حكومة الجوع تسقط بس – حكومة الدكتاتور تسقط بس) وبدأ الناس ينضمون اليهم وزادت الأعداد بنات ورجال ونساء وبدأ التحرك ومحمد الشجاع المقدام يتقدم الجموع بالرغم من صغر سنه الا أنه كان قائدا شجاعا وعندما وصل الموكب بدأ القناص الذي يعتلي أعلى مبنى في الشارع يترصده وبدأ يحدد تحركات محمد الشجاع الكبير في عقله الناضج في توجهاته الصغير في سنه وأقتنصه بأربعة رصاصات إخترقت جسده النحيل ونزف الدم بغزارة ولطخ ثيابه وبدأ يسيل على الأرض وأخذه أصدقائه على أطراف الطريق فأحس محمد بألم رهيب وهو يتألم من الرصاص الذي أمطره به القناص الذي تحول الى وحش تجاه محمد فلم يكتف بطلقة واحدة وبدأ يزيد الألم على جسم محمد … وصارت آلام محمد فوق الاحتمال وفجأة حدث شىء غريب. تلاشى الألم تماما بعد ساعات من دخوله المستشفى. أحس محمد براحة مدهشة كأنما كان ينوء بحمل ثقيل ثم تخلص منه فجأة فأصبح خفيفا وحرا. اختفى المشهد من أمام نظره وساد الظلام أمامه. لم ير شيئا، أحس كأنه نائم ثم فجأة وجد محمد نفسه فى حديقة جميلة. وبدأ يتحسس جسده فإختفت تلك الدماء والجروح لم يشعر بآلامها . ظهر أمامه شبان وشابات دخل الغرفة الأولى ت عبارة عن صالون كبير فيها رجال كبار في السن وعليهم علامات الطيبة والعطور التي تنبعث من أجسادهم لم يستنشقها محمد في حياته والوجوه بيضاء يشع منها النور وأمامهم ما لذ وطاب من طعام وشراب … صافحهم محمد وسألهم عن أسمائهم وكان عددهم 28 رجل وسألهم متى جئيتم الى هذا المكان الجميل فقالوا له نحن ضباط 28 رمضان عام 1990 ألم تسمع بهذه المجزرة فقال لهم سمعت بها.. وعلى يمينه رأى الشاعر محجوب شريف الذي سمع بأشعاره ووطنيته لكنه كان في راحة تامة وفي غيلولته ثم نظر بعيداً وجد حُميد يكتب في قصائده فتبسم له وأشار اليه بأنه سيلتقيه لاحقا فلا يريد يقطع تفكيره في قصيدته الجديدة ثم رجل عجوز تبدو عليه علامات الطيبة وابتسم وقال:

أهلا وسهلا يا محمد لقد صعدت إلينا هنا لأنك فقدت حياتك من الظلم. من الآن فصاعدا لن يعكر صفوك شىء أو مخلوق.. ثم ذهب به الى شباب يصغرونه سناً ومنهم من يكبرهم سنأ فوجد شاب نشط له شعر غزير يرسم في لوحات جميلة وأمامه آلة موسيقية سأل عن إسمه فعرف أنه مصعب الذي قرأ عنه وعن مواهبه ووجد دكتورة سارة تقرأ في القران ووجد هزاع وأبلغه إن والدته مازالت حزينة عليه وإنها مصممة أن تأخذ حقك من الذي فرق بينك وبينها تبسم هزاع وقال له لو علمت أمي بالمكان الذي أنا فيه لفرحت كثيرا ووجد شابا سأله عن إسمه فقال له إسمي محمد عبد السلام أنا وصلت الى هذا المكان الجميل في عام 1998 سأله عن الوضع في السودان وقال له مازال هؤلاء يكذبون على الناس مازال يؤتمن الخائن ولقد علمت فيما علمت إن من قتلوني تقربوا بدمي الى السلطة وهم الآن من كبار القوم فضحك محمد عبد السلام لا أفهم كيف يستطيع الذين ظلمونى وقتلوني أن يستمتعوا بحياتهم

وأخذه الرجل العجوز يطلعه على الحديقة وعلى الأشجار والزهور وقال له في الكثير من ستتعرف عليهم هنا ستستريح اليوم وسأعرفك عليهم غدا, وجميعهم جاءوا الى هنا ظلما وغدرا لكنهم سيعيشون هنا مع أفضل مخلوقات الله فى راحة تامة وبهجة خالصة. بعيدا عن العالم الظالم الذى جئت منه. الناس هنا سعيدون جدا بمجيئك يا محمد .. هيا أريك مكانك الذي ستعيش فيه الى الأبد وتستريح من تعب الدنيا وعندما ذهب به تفاجأ محمد وجده مكان رائع لم ير مثله من قبل. وقبل أن يغادر العجوز سأله هل تريد شئيا يا محمد فكل طلباتك مجابة فضحك العجوز وقال له عرفت ماذا تريد إنك تريد أن تطمئن على أمك فقال له محمد نعم هذا ما أريده بالفعل فكان له ذلك فرأى محمد أمه وهي تتقلب في فراشه وتبكي وتفتح في (إلبوم) صوره منذ أن حملته وهنا على وهن حتى أوصلته كلية الهندسة سمعها وهي تقول (لقد بعت له البيت لكي يدرس الهندسة) ثم تقرأ القران وتبكي تارة أخرى أحسّ محمد بحزن عميق هل يمكنني أن أخبر أمي أن لا تحزني ولا تبكي وأنني بخير قال العجوز: لا يمكن يا محمد كل طلباتك مجابة إلا الإتصال بالعالم الخارجي الذي جئت منه وأمك ستصبر وستصعد يوما ما وتعيش معك في هذا المكان ولن تفترقا الى الأبد فقال له محمد طلب آخير أريد أن أرى الذين قتلوني والذي أمر بقتلي فكان له ذلك فراى محمد فوجدهم يضحكون بعد قبضوا تمن قتله ترقية في الجهاز وأصبحوا من المقربين ثم رأى الذي أمر بقتله وقتل جميع المطالبين بحقوقهم فراه فوجده قلق ولا يستطيع النوم ويخشى على أبنائه وزاد وجهه سوادا ويفكر أن يهرب ويترك هؤلاء القتلة يواجهون مصيرهم لوحدهم.

فقال الرجل العجوز لمحمد هذا الرجل أسود الوجه والخبيثة أعماله تاجر الدين (ضحك على الناس بإسم الدين) قسم وطنكم بإسم الدين كان عليه أن يستغل فرصة وجدها وهو مريض بمرض عضال حتى يكفر عما فعله في الوطن وفي قتل أهل دارفور وعاث في بلدكم تشريد وتدمير لكن للأسف مازال في غيه

فسأله محمد الرجل العجوز :هذا الرجل الذي يقتل الناس ويدمر ويحرق ويسرق لو مات وصعد سيكون معنا هنا

فقال له الرجل العجوز : أعلم يا محمد تريد أن تسأله لماذا قتلك ؟ صمت العجوز وتغير وجهه من الغضب فقال له : يا محمد هؤلاء القتلة تجار الدين آكلي مال السحت لن يكونوا معكم في نفس هذا المكان لهم مكان آخر بعيد من هنا : ثم أخذه من يده وخرج به أمام باب الحديقة هل ترى هذا المكان البعيد يا محمد ؟

قال محمد :نعم أراه هذا هو مكانهم الذي سيعيشون فيه ولا تسألني يا محمد عن الذي فيه وما الذي سينتظرهم هناك

ياسر عبد الكريم
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..