كوبنهاجن: تخطيط المدن وجودة الحياة

استغرب المعماري الدنماركي الشهير جان جيل وجود إدارة مرور في كل مدينة في العالم تقريبا، تعنى بدراسة حركة السيارات واعدادها وانواعها واوزانها وكل ما يمت اليها، وعدم وجود إدارة مماثلة تعنى بدارسة حركة الانسان في المدينة وعاداته وطرق سيره وأماكن جلوسه ومواعيد رواحه وغدوه، واعتبر هذا الامر انحيازا سافرا من القائمين على امر المدن للسيارة على حساب الانسان، وهو ما يترتب عليه نتائج وخيمة في بنية المدينة وشكلها وقدرتها على استيعاب حركة الانسان ونشاطه وما يحتاجه من أماكن ومرافق.
ولكن وبعد عقود من العمل الدؤوب والتجارب المستمرة والتعاون المباشر مع القائمين على امر كوبنهاجن تحولت المدينة بفضله الى مثال يحتذى في تخطيط المدن، ويصنف سكانها حاليا من الاسعد في العالم بسبب جودة الحياة واختفاء الزحام والضجيج والتلوث من المدينة وذلك بسبب توفر خيارات الحركة والنشاط والتلاقي من ميادين عامة عامرة ومسارات مشاة آمنة وشبكة دراجات مترابطة ومواصلات عامة مريحة تشمل بالطبع العديد من خطوط المترو والترام.
وكانت كوبنهاجن في سبعينات القرن الماضي تعاني، مثل اغلب مدن العالم، من الزحام وتغول السيارات على كل مساحات المدينة المتاحة في شكل شوارع اسفلت وساحات انتظار، وكان الراجلون والمارة يعانون كثيرا لإيجاد موطئ قدم ومسار آمن وسط ارتال السيارات المتلاحقة، على غرار ما يحدث الآن في مدن العالم المزدحمة مثل كراتشي والقاهرة ونيو مكسيكو وجاكرتا وغيرها، غير انهم وبفضل أفكار المعماري (جان جيل) ابتدروا العديد من السياسات والقوانين والقرارات التي غيرت وجه المدينة.
وكان من اهم القرارات التي اعادت الامور الى نصابها وحولت المدينة الى واحدة من أجمل مدن العالم وأكثرها حيوية هو تحريم دخول واصطفاف السيارات في مساحات كبيرة من وسط المدينة، حيث يسمح بدخول حافلات النقل العام وسيارات الأجرة فقط، بينما يسمح لسيارات نقل البضائع والخدمات بالمرور في ساعات مخصوصة من اليوم، وهكذا تحولت مناطق وسط المدينة الى واحة تعج بالحركة والنشاط والعمران بسبب توافد السكان والسياح والزائرين، وازدهرت تبعا لذلك أحوال الأسواق والحوانيت والمطاعم وجميع الوان التجارة والخدمات في تلك المناطق.
كذلك تم دعم الدراجات ومرافقها لتكون من وسائل التنقل الأساسية عبر المدينة، وتعتبر كوبنهاجن اليوم المدينة الأولى حول العالم في ركوب الدراجات واستعمالها في قضاء حاجات اليوم والتي تشمل العمل والتسوق والترفيه والرياضة، وذلك بفضل شبكة مترابطة من المسارات المنفصلة والتي تبلغ كل ارجاء المدينة، وكذلك تم تطبيق نظام مشاركة الدراجات، والذي يسمح لكل من في المدينة باستعمال الدراجات الموجودة في محطات وقوف متعددة ومنتشرة في جميع انحاء المدينة مقابل اجر زهيد. وليس من المستغرب هناك مشاهدة الوزراء والمسئولين وهم يقودون دراجاتهم بين مساكنهم ومقرات أعمالهم، وتنتشر صور لأميرة الدنمارك (ماري) وهي تحمل أبنائها بدراجتها الى المدرسة!
وقد ساعد على نجاح هذه السياسات والوسائل طبيعة المدينة وحسن تخطيطها، فكوبنهاجن مدينة محصورة وليست من المدن الممتدة افقيا، تتقارب فيها او تندمج أماكن السكن والعمل والتجارة والترويح، وذات كثافة سكنية عالية نسبيا بسبب انتشار العمارات ذات الطوابق المتعددة في صفوف متواصلة، وخلوها تقريبا من المنازل المنفصلة والتي تشتت السكان في مساحات واسعة، وهكذا تعاون المهندسون مع السياسيين على الاستفادة من طبيعة المدينة وتراثها المدني في معالجة مشاكل المرور وخلق واقع جديد أكثر جمالا.
عثمان الطيب عثمان المهدى
مهندس مدنى