هل فينا مثقف أو فنان؟

هل فينا مثقف أو فنان؟
بقلم: الدكتور نائل اليعقوبابي
*(ليت الإنسان يوظف القدر نفسه من
العزيمة في تبسيط حياته بدلاً من تعقيدها..).
– هنري برغسون –
.. أعاود هذه الأيام للمرة الرابعة أو ربما الخامسة قراءة كتاب (المثقف والسلطة) لإدوارد سعيد، المفكر الفذ الذي عاش ومات وفي داخله إحساس دائم بأن قدره أن يعيش منفياً ومحروماً من الشعور بأنه في وطنه رغم تعدد جنسياته فهو عاش في بيئة غريبة منذ غادر فلسطين في أربعينيات القرن الماضي إلى مصر أولاً، ومن ثم إلى أمريكا للدراسة والعيش.
إلا أن المنفى الأقصى الذي عاناه سعيد هو غربته كمثقف رفض التكيف بسبب النفي، واختار أن يظل خارج التيار، دون استيعاب ودون استقطاب مصراً على المقاومة وعدم الانتماء لفن المراوغة، وهو فن عبقري يكفل لصاحبه عدم اتخاذ موقف واضح ويكفل له البقاء والازدهار في الوقت نفسه دونما خلاف مع مجتمعه.
وكبديل للنفي اختار سعيد الكتابة وطناً ودخل في سجالات طويلة ومعروفة مع مفكرين غربيين دفاعاً عن حق جميع شعوب العالم في الدفاع عن خصوصياتها الثقافية دونما استبعاد أو استعلاء أو اختزال للآخر الثقافي لأن ذلك سوف يقود إلى التعصب والخوف والتعميم، ومن ثم التجاهل واللامبالاة، والسعي إلى إكساء الأكاذيب ثوب الصدق، وجعل القتل يبدو عملاً جديراً بالاحترام!
وقد قادته هذه السجالات إلى العيش مثل ملاح تحطمت سفينته فتعلم أن يعيش مع الأرض، لا فوقها مشبهاً نفسه بماركو بولو الرحالة الإيطالي، الذي لم يفارقه قط إحساسه بالدهشة والعجب، وهو يرحل دائماً من مكان إلى مكان، ينزل ضيفاً على أحد إن استضافه لكنه ليس طفيلياً ولا فاتحاً ولا غازياً.
أقرأ ادوارد سعيد هذه الأيام بحثاً عن إجابة لسؤال يؤرقني دوماً هو (ما معنى مثقف أو فنان، ما هي صفاتهما، وما هو دورهما؟)، رغم أن هناك إجابات عديدة متباينة على تساؤلاتي هذه، إلاّ أن إجابة واحدة لعالم الاجتماع المعروف إدوارد شيلز شدتني، وصف فيها المثقف أو الفنان بأنه الشخص الذي يتمتع بحساسية فذة للقداسة، وبقدرة خاصة على تأمل طبيعة الكون الذي يعيش فيه وبمقدرة تفوق طاقة سواه من البشر على التساؤل والبحث، وعلى النفاذ وراء ستار الخبرة العملية الواقعية للتواصل مع الرموز الأعم والأشمل للحياة اليومية، وهي ذات الدلالات الأبعد والأوسع زمناً ومكاناً.
أما سي. رايت ميلز فقد قدم لي الإجابة على الدور المنوط بالفنان والمثقف عندما اعتبرهما من الشخصيات القليلة الباقية المؤهلة لمقاومة ومحاربة تنميط كل ما يتمتع بالحياة حقاً وقتلُه، مع القدرة على مداومة نزعة الأقنعة وتحطيم الأشكال النمطية للرؤية التي تغرقنا فيها وسائل الاتصالات الحديثة!!
شيلز وميلز ساعدوني في إيجاد الإجابات، ولكنهما أغرقاني في تساؤل مر ومحبط هل فينا مثقف أو فنان؟!.
[email][email protected][/email]