أهم الأخبار والمقالات

الفساد كمجموع يقاوم التغيير، ومجتمع يجثو على ركبتيه جراء الإعاقة

وجدي كامل

يتمظهر الغلاء الماثل في هذه الأيام في ظل الصعود المستمر لأسعار البضائع والخدمات من جهة أصحابها كعنوان لشر مستطير قائم ومتوالد، فهنالك شرائح اجتماعية تتمكن من مجاراة الصعود بصعود موازٍ في بضائعها وموادها الفيزيائية المعروضة للاستهلاك. أما الشرائح الأخرى المستهلكة للعروض التجارية للفئة الأولى، فتحتم عليها طبيعة عملها وارتباطه بتقديم الخدمات للناس، وبوصفه عملاً تتقاضى عليه أجراً من خزينة الدولة، التخلي عن أمانتها بعدم الاكتفاء بالأجر المقرر قانونياً لها، فتضطر ولمجاراة السقوف العالية للأسواق من تسليع خدماتها وعرضها للبيع لمن يدفع أكثر نظير ما تعرضه، فتتحول خدمتها الروتينية المعتادة المستحقة للمواطن إلى سلعة يخص بها الموظف أو العامل الخدمي ذاته، مستثمراً في حاجة المواطن الماسة لها.

فالمواطن وهو على سفر أو بحاجة إلى توثيق شهادات أو في أمر مستعجل لتوقيع مسؤول يجد نفسه مضطراً في الغالبوليس المطلق لقبول المساومة الآثمة. والراشي وفي مجال عمله أيضاً يقوم باسترداد قيمة ما تم أخذه منه بالمساومة أو بالعنوة، فيزيد من ثمن أو سعر خدمته أو إنتاجه الذي يتخصص فيه. وهكذا تدور دائرة الفساد على الجميع، ويصبح ممارسة اعتيادية يقوم بأدائها الكل دون تكلف أو حرج.

فجملة العاملين بالدولة، والقطاع الخاص، والذين يبيعون خدماتهم، لا يستجيبون وعبر التسليع للجهات التي أخذت منهم وجردتهم من مرتباتهم، ولكنهم في المقابل يقضون على الدولة ويهدمون معبدها بما يمكن تسميته بالفساد الناعم، مما يضطر المجموع الدخول في حالة من الفصام الأخلاقي، فيبدأ في القضاء على قيم تعد مقدسة بالأمس كانت.

الفساد في أشكاله وأنماطه الشعبية والرسمية، وبمعايير تعريفه الدقيق، كان فينا منذ الأزل، وهو يتغذى بالمحتوى الثقافي للتشكيلات الاجتماعية في بدائية ورعوية مراحلها ومستوياتها في سلم التطور. ومن صوره البنيوية المحاباة والتعصب والانتصار للرغبات الذاتية والقبلية ومصالح الطبقة، غير أن تأسيس الدولة المدنية وتناقضها مع الثقافة الشعبية وقيمها، قد خلق مفارقة جسيمة رغم ما نهت عنه الأديان ومنظومات الأخلاق التي يحرض الفساد على إنكارها وخلع مسؤولياتها المجتمعية أحياناً.

فالدولة وبوصفها بناء سلطوياً حديثاً لتنظيم العلاقات والنتاج بين الناس في رقعة من الأرض، واجهت وتواجه مقاومة عنيدة في الاضطلاع بأهدافها النظرية الرامية لإقامة وإحقاق العدل، كونها أداة عنف أيضاً تتخذها طبقة من الحاكمين ضد الطبقات الأخرى التي عادة ما تشكل الأغلبية.

هكذا نعثر على علاقة الكره المتبادل بين الشعب والدولة الاستعمارية قد تحقق على سياقات إدارية وصلت مرحلة من العصيان أحياناً رغم الإعجاب الشكلي بمظاهر حداثتها لديهم. فهي، وعبر مقترحها ونزوعها لنشر التعليم النظامي، قابلت تمرداً ورفضاً من شرائح اجتماعية وثقافية عديدة، اتخذت الدين مبرراً ودرعاً في مواجهاتها، وأشاعت أن التعليم يفسد الأبناء والبنات، ويدفع الناس إلى الكفر والتخلي عن قيمهم الموروثة.

بذات القدر، وجد التعليم قبولاً لدى طبقات بعينها، ورأت فيه إجادة الطريق إلى الرقي، ولكن غالباً ما رافقت علاقة المتعلم (الأفندي) لاحقاً ممارسات لا تتسق مع أخلاقيات الرقي والتطور بقدر ما هي رغبات الأفراد منهم في التميز والاحتكار للامتيازات، وبدأت في إعاقة ثقافة التطور المعتمدة بواسطة سياسات الدولة بلغة لا نجد مسمى بديلاً لها سوى لغة الإفساد للمحتوى الحضاري للدولة، وتعطيل خدمته.

لقد ظن الناس، ويظنون، أن الفساد منتج وظاهرة إنقاذية كامل الدسم، دون أن ينتبهوا إلى أن الفساد بنية وبناء موازٍ ارتبط بالدولة المستقلة منذ بداياتها وسودنتها. فملفات المحاكم الإدارية عبر العهود الوطنية لدولة ما بعد الاستقلال مليئة بقضايا وأحكام الإدانة بالفساد للموظفين، والتي كان أغلبها قد لا يجد طريقه للإعلام. ذاك ما يمكن وصفه بتواطؤ الأفندية الصامت على الدولة، والذي بلغ أوجه في العهد المايوي بتغذيات منشطة من نظام الحزب الواحد والتمكين الاقتصادي عبر الولاء السياسي.

غير أن المحصلة من ذلك الفساد المتدرج الذي استمر لمدة ثلاثة عقود لم يصل إلى ما قامت به الإنقاذ في عقد واحد دعك من ثلاثة عقود رغم رفع رايات الحكم بالشريعة الغراء. في غضون ذلك، تمكنت الإنقاذ من تعميم الفساد وتعويمه على المجتمعات السودانية عبر الترويج والتشجيع على التكسب غير النزيه في المعاملات المالية والاجتماعية، بأن سوقت للنفاق والغش بالمظاهر والتدين الشكلي.

ففي عهد الإنقاذ، رأينا وشهدنا أن التعذيب أو القتل ما كان يمنع صاحبه من أداء شعائر الصلاة، والدخول إلى المسجد، وإطلاق اللحى، وتربية علامات الركوع على الجباه، فيما يبدو بحثاً عن ورع مصنوع يصطاد به فرائسه من البسطاء، ويخدع به مدرائه أو يتماهى به معهم، دون أن يعد ذلك للمرتشي أو السارق مالاً عاماً له حرمته. غير أن المفارقة هنا تتلخص في موقف وممارسة الدولة الراعي الممتاز والحصري للفساد، وبالتالي دفع المواطنين على اقتراف الذنب عبر سياساتها الاقتصادية المتبعة وما تتبعه من فساد عبر قياداتها ورموزها، فيتحول الناس إلى ضحايا والدولة إلى ضحية أيضاً عندما يستوي حجم الجرم المتبادل المشترك بينهما.

ثورة ديسمبر كانت، وفي توقعات مشاركيها ومراقبيها، أملاً في القضاء على تلك الظاهرة وذلك النهج الاقتصادي اللعين. ولكن، فإن بقاء السياسات الاقتصادية وصدورها من ذات العقلية القديمة (وليست البائدة) هو ما يجعل الحياة في البنية الاقتصادية التحتية القابضة على الأسواق والمال تذهب نحو الهاوية بأسرع مما نتخيل، الأمر الذي ينعي حتى الآن حدوث أي تغيير أو تحسن في حياة الناس الذين لا يزالون يفتتحون أحاديثهم الرسمية والشعبية بالبسملة وهم يرتدون الجلاليب البيضاء، فتحسبهم وكأنهم ملائكة حطوا من كوكب من الفضيلة.

ذلك يجري بتماثل وانسجام مع محتوى وعي غالبية من النساء تظل تحت أعراف السلطة الرمزية السابقة في استجاباتهن المظهرية بمراكمة الأقمشة على أجسادهن ومفاهيمهن، فيعشن أدوارهن بذات المقاييس النازعة إلى هدم الجودة الأخلاقية وتسليعها وتسويقها، دون تعديل يطرأ على اقتصادهن وثقافتهن في المدن والأرياف.

الشاهد على ما سبق، هو أننا لا نزال على دين الإنقاذ وعقليتها التي كنا قد ثرنا عليها وصنعنا واحدة من أعظم ثورات العالم في القرون الأخيرة، دون أن نحسن تثوير جهاز الدولة أو صناعة القيادة الحقيقية له من مادة الثورة ولحمة أهدافها. لقد ثرنا على جهاز الدولة، ولكنا أعطينا المقود لذات العقل القديم الذي اكتفى بإنتاج الشعارات السياسية المضادة للنظام السياسي القديم والمناداة بالتغيير، دون انتباه إلى جينات الإنقاذ الآثمة الكامنة فينا، وحيل وتحايلات عملها المدمرة للتطور.

كنت أكتب ومنذ بدايات التسعينيات بصحيفة الخرطوم إبان صدورها من القاهرة، وفي وجود مجتمع المعارضة السياسية بكامل دسمه آنذاك بأرض الكنانة، محذراً من نشدان التغيير السياسي دون تغيير يلحق ببنية الثقافة السياسية والاجتماعية في حالة إسقاط السلطة السياسية. كنت أدرك وأظل بأن عدم إحداث ذلك سيقود إلى إعادة انتاج أزمة الجماهير والمجتمعات السودانية، طالما لم نتمكن من إجراء التعديل المطلوب في العقل السياسي القائد وتنظيماته من أحزاب وقوى مدنية. لقد كرست كتابي الذي جاء بعنوان (الوعي الخراب – في بيان تربية النخب الضارة) الصادر من دار المصورات العام الفائت لذات الأفكار الإصلاحية.

ولا أدعي أنني ناديت بما سبق لوحدي، بل مع جمع من المشتغلين بسؤال التفكير والتنوير. ولكن فيما بدا أن قدرة وكفاءة السياسي الحركي دائماً ما كانت لنا وللشعب بالمرصاد، خاصة عندما تسللت أفواج الانتهازيين والوصوليين إلى إدارة دولة ما بعد الثورة بتحالف مثير ومربك مع اللجنة الأمنية، فوجدت نفسها وجهاً لوجه أمام تسوية ومساومة تضمن لها بقاء مصالحها، لتصبح النتيجة أننا لا رحنا ولا جئنا بسبب ما زرعته الإنقاذ فينا، وما أورثتنا له من جينات أخلاقية فاسدة في علاقتنا بالمال والسياسة والثقافة الاجتماعية.

هذا الوضع ومع ما سينتجه من انهيارات أشد في مستقبل الحياة الاجتماعية، سيرفع من تفاقم احتمالات المهددات المتفاقمة للمرحلة الانتقالية، ما لم تتدارك الكتل والجماعات الحريصة على إنجاح مسعاها في التغيير بأن تبدأ في نقد وتغيير العقل السياسي القائم بمحتويات ثقافية جديدة مواكبة ومنسجمة مع روح الثورة وخارطة أهدافها كما أراد لها مفجروها الأشاوس الأبطال، عبر تشييد حركة إصلاحية ضاربة تضع مصالح السودان فوق أي مصلحة أخرى، ولا تنصرف لسواها كمهمة مقدسة يستحقها السودان أولاً وأخيراً.

[email protected]

تعليق واحد

  1. ولا فض فوك يا دكتور وجي كامل فما فلت إلى صورة صادقةشاملة لما نحن فيه وربما خطأ الأشواس أنهم أرادها سلمية سلمية في بلد ملوث كما قلت بين فئتين فاسد وآخرمضطر أن يكون فاسد ليعيش .. وربما الحل في إنتفاضة الأشاوس القادمة قريبا وبلا أدنى شيك أن لا تكون سلمية أبدا وأن تكون العدالة ثورية بمعنى الكلمة.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..