الدرجة الصفر للحياة قيمة الفرد العربي في مجتمع يحتضر

واسيني الأعرج
هل للفرد العربي قيمة في مجتمعات تحتضر؟ قد يبدو في السؤال بعض الشك في هذه القيمة. شك تبرره أوضاع العربي في المئة سنة الأخيرة، إذ نلاحظ عموما أن هذا الفرد، في ظل المصالح النفعية المباشرة للمجموعات المهيمنة، هو آخر اهتمامات الدولة؟ وكأن تسيير الجماعة لا يمر عن طريق الفرد وسعادته. الدراسات النفسية الحديثة تبين، بما لا يدع مجالا للشك، أن مأساة المجتمعات المأزومة سياسيا وثقافيا وحضاريا، متأتية من كون أفرادها لا وضع اعتباري لهم.
فهم إما مهمشون، أو مظلومون أو غادروا نهائيا النظام المجتمعي، فارتبطوا بما يعيد لهم فرديتهم، وربما يزج بهم في دوامات خطيرة كالمخدرات، والتطرف الديني ورؤية كل من لا يشبههم، عدوا يجب هدمه. ولا أبرر إذا قلت إن جزءا أساسيا من أسباب الفعل الإرهابي مرده طحن وتغييب هذه الفردية التي تمنع الضوابط المجتمعية قاسية التعبير عنها بشكل سلمي، بما في ذلك الحب وهو من أكثر القيم مسالمة إذ لا يُعبَّر عنه إلا داخل النظام الأسري أو القيمي العام، ولا اعتراف فيه بالفردية الحميمة التي هي جذره الأساسي.
للأهل ليس فقط حق الرأي الخاص في موضوعة الحب، ولكن حق التدخل أيضا في الصغيرة والكبيرة وفق شروط تقليدية قاتلة، ولا يقوم الحب إلا بها لأن ذلك، من منظور الجماعة، حماية للبنت بالخصوص، في مجتمع الذئاب. ويمكن أن نقيس على ذلك بقية القيم السياسية والاقتصادية، في ظل تسيد الأحادية الضامنة للاستقرار كما يتصور القيمون على محو الخصوصية الذاتية وتسطيحها، إذ تنتفي فيها الفردية نهائيا بهذه الحجج وغيرها.
الخضوع للعام الضامن للاستمرارية، داخل فردية مطموسة، يعاد إنتاجه على الرغم من تغير الزمان والمكان والقيم التي يستمر بعضها في الثبات على الرغم من تغير الحقب. الحروب بشكل عام، والعربية بشكل خاص، تبتذل قيمة الإنسان، وتخرج توحشه الكامن فيه إلى الخارج وتمنح للفردية تعبيرات لا يمكن تخيلها وكأنها شريط نراه ونصدق أن المسألة مجرد سلسلة من الصور المتعاقبة سرعان ما ينتهي مفعولها. طبعا نعرف جيدا أن البلاد العربية تعيش اليوم حروبا أهلية طاحنة جلها بلا معنى، أو على الأقل بلا أفق حقيقي، تدمير كلي ثم إعادة البناء بعد سنوات من الخراب، وأحقاد إثنية وعرقية ودينية وطائفية، لتذهب كل الكتل المالية التي تمت مراكمتها في العشريات الماضية أدراج الرياح، مما يجعل قيمة الإنسان تحت الدرجة الصفر للحياة. يتساوى الموت والحياة في وضع يغيب فيه أي رادع للدولة لأن هذه الأخيرة تفككت، أو هي في طريقها إلى ذلك. ويتم تعويض بمنظومات تقليدية، قبلية وعشائرية جماعية، هي بدورها لم تعد على ما كانت عليه، وعاجزة عن حماية الفرد من خلال وسائطها. فيتسيد قانون تاليون القاتل: السن بالسن والعين بالعين. يقتلون منا واحدا، نقتل منهم عشرة. يشكل جسد الإنسان أكبر مساحة للانتقام. الذي يحصل في النهاية هو الانتفاء الكلي لقيمة الإنسان العربي التي سرقت حتى قبل انهيار الفكر القومي الذي حلم كثيرا بمجتمع واحد من الماء إلى الماء.
وانهيار الفكر اليساري الذي حلم بمجتمع عادل يجد فيه الفرد مكانته وإنسانيته، وحتى انهيار التجربة الإسلاموية التي افترضت إنسانا طيعا ولكنها جاءت إلى الحكم وفي فكرها نزعة انتقامية كبيرة وإخفاق في ترميم فكرة الدولة، وظلت رهينة مثالية المرشد العام. وفي هذه النماذج المنهزمة لم تطرح قضية الفرد إلا ملحقة بفعل الجماعة، داخل تبعية قاتمة ملغية للتمايز ومسطحة له. لا نموذج من هذه النماذج السياسية والاقتصادية، استطاع أن يعيد للفرد قيمته، إما باسم تقاليد وأعراف أساسها قبلي لا تعترف بالفرد، أو باسم وطنية تسطح وتخفي كل فردية ذاتية، أو باسم إسلام مثالي موجود في الأذهان أكثر منه ممارسة يومية تخترقها القوة والسلطان. طبعا، نعرف سلفا أن الفردية لا تنشأ إلا بالاعتراف بقيمة الفرد كقيمة مطلقة.
لا قوة أمامه إلا قوة القانون الذي يحميه ويحاسبه أيضا عندما يتعدى حدوده، ومواطنته هي في النهاية مشترك إنساني تتحقق داخله الفردية والحس الجمعي كمحصلة. احترامها هو جزء من احترام الفرد وإنسانيته. لكن، هل يمكن تخيل قيمة للفرد في ظل غياب الديمقراطية والقانون في ظل وضع عربي متهالك؟ مستحيل. عندما نعود إلى بعض جزئيات تاريخنا الحديث، ونرى كيف تتم المحاكمات العربية التي يبرأ فيها الجاني ويجرم فيها البريء، ولا سلطان أمام المظلوم إلا سلطان القاضي الذي يشكل القانون والعدالة آخر اهتماماته بقدر اهتمامه بالمصلحة الخاصة التي تربطه بجهاز السلطة الذي يمثله لا كدولة ولكن كمصلحة، ندرك أن الفرد هو الطاحونة اليومية لهذه الأجهزة لكي تسير وتشتغل.
نظام السلالات والعائلة يمر قبل نظام الحق والدولة، فيزيد انهيار الفردية المظلومة والمقتولة. فإذا كنت ابن مسؤول أو ضابط كبير، أو غني، كل الحظوظ معك للخروج من الأزمة بضرر أقل وتحقق فرديتك المحمية بمظلة من المصالح، أو العكس تماما بحيث يتم الدوس على هذه الفردية وتكسير كل عظامها وتحويلها إلى تربة وننسى بأننا زرعنا مسامير وقنابل موقوتة لا أحد يدري متى تنفجر.
الديمقراطية تضع الناس كلهم في نفس السوية ولا تسأل في جريمتهم عن أصولهم. حقوقهم يضمنها قانون ينطبق على الجميع بدون أي تمييز. الفرد هو القيمة العليا التي بني عليها المجتمع الغربي الحديث، الذي أعادت له الأفكار التنويرية والفلسفات البراغماتية قيمته فأعطته كل اهتماماتها خارج كل العناصر الأخرى المحددة للهوية والدين والثقافة، لأن المواطنة كل لا يتجزأ مطلقا.
كل القوانين التي تنجز عربيا، على نبل بعضها حتى لا نكون عدميين، وكل المكاسب في العدالة والقضاء، وكل التطور الحاصل هنا وهناك، تظل جدواها محدودة في ظل غياب المواطنة والاعتراف بالفردية، العامل الحاسم في كل عدالة تضع القانون ومسؤولية الفرد، بغض النظر عن انتماءاته ومكوناته، على رأس اهتماماتها. فالمواطنة، في مجتمع مدني حقيقي، ضمان لكل شيء، الحق والواجبات والعدالة.
في ظل انهيار الدولة العربية، لا يبقى أمام الفرد إلا التشبث بالبدائل المتقادمة التي تقتل فرديته، كالقبيلة أو ما تبقى منها من خليط هو مزيج من ثقافة العصر، ومكونات زمن مضى لم يعد قادرا على مواجهة زمن سار بسرعة قاتلة، لم يعد من الممكن ليس فقط اللحاق به، ولكن أيضا فهمه. فالقبيلة إذا كانت تحمي الفرد، فهي تحميه داخل سياق جماعة الانتماء التاريخي والسلالي. لا وجود لفرديته إلا في سياق ما تحدده القبيلة، أي العودة إلى الدرجة الصفر للحياة.
واسيني الأعرج
القدس العربي