في ليلة قمرية

في ليلة قمرية

إستيلا قايتانو

عهدتها وارفة الظلال ، متينة الجذع ، كثيفة الأغصان ، فارعة الطول ، وهي تقف في منتصف بلدتنا تتوسط القطاطي في حنية صادقة. كانت تلك الشجرة مقرا لمهمات وهزليات البلدة ، كانت مجلسا للسلاطين وكبار رجال البلدة ، وكانت منتدى للشباب والصبيان ، يرقصون قربها في الليالي القمرية على أنغام الطبول الشجية ، تلك الأنغام التي تنبعث بالرهبة والرغبة ، ولم لا وهي وليدة الاستوائية وابنة الأدغال؟ ذلك العالم المغلق .. العالم الذي إذا اقتحمته أعطاك الخير والشر بذات القدر ، يمنحك الخوف والأمان ، الموت والحياة وكل التناقضات. كانت مقر التائه ، واستراحة المتعب ، ومنزل المسافر ، أصبحت معلماً بارزاً في قريتنا ، وفي آخر ليلة قمرية تهيأنا لنعد العدة للرقص والأغاني الزنجية .
الفتيات تجمعن بأجسادهن السوداء ، تزينهن سلاسل مرتبة في الطول والقصر حول أعناقهن وأساور عريضة من العاج تحيط بالمعاصم وخلاخل في الأرجل تصدر أصواتاً رتيبة وتنورة تغطي الجزء الأسفل من الجسد ، بدأ الرقص اهتزت الأجسام متناغمة مع الطبيعة الصارخة وأشعة القمر تصطدم بالجلود السوداء ، اللامعة لترتد إلى مصدرها الأول . فجأة حدث شجار قوي بين مجموعة من الشباب ، الفتيات صرخن في فوضى ، أمرهن أحدهم : اذهبن إلى بيوتكن ، هرولن في رعب ، كان الصراع بين ثلاثة شباب من القرية المجاورة فتصدى لهم ثلاثة شباب من قريتنا لأنه ليس من الشرف والرجولة أن نصارعهم جميعنا .. انتهى الصراع كما ينتهي أي صراع كل يوم ، لا يحمل أحد منهم حقداً أو كراهية . في الليل سطع ضوء قوي وسط القرية وأخذت ظلال القطاطي تتراقص في جنون ، خرجت القرية في لحظة ، وأخذت تنظر في حزن ، اشتعلت الشجرة في حريق هائل ، شلت حركتهم ، كأن أجسادهم هي التي تحترق ، حاول بعضهم إطفاء النار ، ولكن دون جدوى لأن النيران كانت قد وصلت القمم ، وأخذت تلتهم الأوراق في شراهة ، كانوا يحسون بها كأنها تنتفض وتصرخ : أنقذوني .. أنقذوني ولكن من ينقذها ؟ من ينقذ الأم الحنون ؟ من يستطيع تسلق شجرة من نار .. من ؟ وفي قمة هذه الأسئلة تلبدت السماء ، تجمعت السحب الداكنة وانفجر الرعد في غضب ثائر ، أمطرت السماء في غزارة الأمطار الاستوائية المفاجئة ، كانوا يقفون في أماكنهم غير مبالين بالأمطار فقط كان همهم أن تنطفئ النار .. وانطفأت .. توقفت السماء عن البكاء وكثرت الأسئلة ، من أحرق الشجرة ؟ وكثرت الإشاعات .. أصبحت سوداء كئيبة مثل شبح يريد التهام القرية ، وكثرت أسئلة عشاقها ، هل ستخضر الشجرة مرة أخرى بعد أن فقدت أوراقها ؟ وهل ستعود لها الحياة بعد رسم الموت آثاره عليها؟ .
وفي يوم كنا نجلس تحتها نتذكر الأيام الحلوة التي قضيناها قربها ونلعن الشبان الثلاثة ، لابد أن لهم يدا في الحريق ، ورفعت رأسي أنظر إليها ، كأني أريد إعادة الحياة لها ، فتخيلت ، بل لمحت هناك فرعاً صغيراً أخضر بين الفروع المتفحمة لا يكاد يرى ، نهضت من مكاني كأنني أريد الطيران ، كأن شيئاً لسعني ، فتسلقتها دون أن أرد على أسئلة أصدقائي المقلقة ، حتى وصلته ، نعم انها مخضرة ، انها حية ، الشجرة لم تمت ، صرخت بهذه الكلمات دون وعي ، والدموع تسيل على خدي ، احتضنت الفرع كأني احتضن جزءاً مني واحتضن أصدقائي الجذع كأنهم يحتضنون أماً عادت بعد غياب

تعليق واحد

  1. الاخت / إسيلا

    شكرا على كتاباتك الرائعة ، والتي دائما أحرص على قراءتها ، فيما يتعلق بهذه القصة ، أعتقد ان هذه الشجرة ماهي إلا شجرة الوحدة والتي دائما ما دعى لها الراحل المقيم دكتور جون قرنق (Our principles in the movement unity unity)
    ونتمنى ان يكون هنالك ماذال امل للوحدة يعامل فيها الجنوبي أنه مواطن من الدرجة الاولى ، مع العلم أنه في حالة الانفصال الخوف من حرب أكثر ضراوة خصوصا وان اعداء السودان خارجا وداخل كثر .

  2. عزيزتي إستيلا كتابة جميلة في سرد لمحات عن الجنوب والثقافة الزنجية ،،، نتوقع المزيد حتى نتعرف على هذا العالم الساحر ومثل هذ اللمحات نفتقدها كثيراً فهي ما نبحث عنه لنعبر الجسور بيننا ،،، وفي إنتظار المزيد

  3. استيلا ياسلام عليك وعلي كتاباتك الرائعه روعة غابات الاستوائيه…أنا من مدمني علي كتاباتك لانها بتصور واقعنا وبلقي نفسي في سطورها….ولك منا التحية يا رائعه

  4. ياسلام عليك ..ياسلام
    يا اسيلا …
    كتابة مُعبرة وعميقة …

    (الشجرة لم تمت ، صرخت بهذه الكلمات دون وعي ، والدموع تسيل على خدي ، احتضنت الفرع كأني احتضن جزءاً مني واحتضن أصدقائي الجذع كأنهم يحتضنون أماً عادت بعد غياب )

    لك التحية

  5. مااحلاك يا ابنوسه واروع كتاباتك لن تموت الشجرة وستبقي الي الابد رغم الدسائس
    اذا كان في بلدي استيلا ومنقو واحمد واوشيك من يقتل الشجرة

  6. استيلا يا رائعة الزمان لك التحية العطرة وعوداً حميداً بكتاباتك التي تقرأ من بين سطورها وليس خطوطها فأنت من تطرحين الفكرة سطوراً لمن يعي أتمنى أن يقرأ مقالك الكبار الذين تشاجروا تحت الشجرة ونفّروا الراقصين من تحتها مما تسبب في الحريق الذي سيرمي بدخانة وسحابته السوداء على كل سوداننا فهلا من متسلق مع أستيلا ليرعى الفرع الأخضر من المتشاجرين؟

  7. تحيه قمريه ايتها الرائعه استيلا سيظل السؤال حول من حرق تلك الشجرة المقدسه الام الرؤم التي تاتي الناس بالثمر والظل عالقا الي ان تحين ساعة ان ندرك في يناير هل كان صراع الاثنان والذين لا ثالث لهم صراعا نظيفا رقيقا علي سبيل المنافسه الشريفه الخاليه من الحقد والتربص0 ام يخبرنا كجور القريه باوصاف من هم الذين اشعلوا النيران في بيادر الوجوم التي قضت علي تلك الشجره المقدسه والتي ربما انتاشت قطاطي قريتنا المسحوره قطيه قطيه وزحفت نحو روث ابقارها الذي حتما سيشكل وقودا للنيران القادمات التي لا منجي للغابه والقري المجاورة منها0 استيلا ايتها الجميلة النبيله هل ترينا في الافق ما يؤكد نبؤتك با ن يكون بالامكان لتك الفروع التي زوت واطمحلت الحياة فيها بفعل الحارق اللعين ذاك الذي تسلل بليل بهيم ليمارس طقوسه
    اللعينه المهينه تحت جزور وساق شجرتنا الظليله0؟ هل بالامكان ان تدب الحياة ثانيه وتخضر الافرع والجزع وعند الربيع نري نور يخرج بازغا من الاغصان الغضه ليضاحك ضؤ النهار0 مؤذنا بموت ذاك الكاهن اللعين صاحب الطقوس القاتله المميته المشعله للنيران في بيادر الوجوم)؟. ام اننا كنا في حالة تخيل سرابي يمليه علينا ضمير كابوس البارسيكولجي في ليله قمريه0
    كيف لنا ان نكون بدونك ايتها الابنوسيه الجميله؟ ومن من الناس يحكي لنا حكاوي الغابة والقريه والشجرة المقدسه؟ لا والف لا لن يفرق بيننا الكاهن اللعين من يبتاع لنا الوهم وصكوك الغفران وللاجيال القادمه0 تعسا تعسا له ولمن صدق نبؤته الكاذبه الغارقه في التخريب والدمار0

  8. لا اجد ما اضيفه القراء لم يتركو لي شيا لكن لدي سوال وارجو الجابه اين يمكن ان اجدكل كتابات الاستاذه استيلا لاني ومنذ زمن بعيد لم اقراء شيئا دقدق احاسيسي مثل هذا المقال ولك التحيه

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..