لن أسمع معزوفة والدي.. “هنا لندن”

مؤمن عمر
يحزنني جداً أن تغلق إحدى النوافذ الذاتية لنا كسودانين من قبل هيئة الاذاعة البريطانية، فقد تعودنا أن تغلق الضفاف التى تربطنا بالعالم من قبل الدكتاتوريين وكان عذاءنا الوحيد أننا سنلتقي بمعشوقتنا مهما طال الزمان ، لكن في هذا الوقت فقد اختلطت المشاعر ما بين موت وحياة، حياة لم تكن بهذا القدر من الجمال لكن بي بي سي قد جعلتنا نتمسك بها، أما موت فهو بمثابة آخر ما نفتقد دائماً مرة تلو الأخرى.
قد مرت بنا كل الاحداث المرتبطة بالاحزان والآلم من قتل وتشريد وبراكين وزلازل وإنفصال دول لأكثر من ثلاثين عاماً وانا متوقف عند محطة واحدة لا اغادرها ، وهنا تماثل حياتي التى هي محطة واحدة أخرى، موت البي بي سي يشبه عمري ، فقد شكلت الذاكرة العالمية الوحيدة لي على مدار تنفسي الذي ارتبط بها، فشكلت الوعي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والفني.
كانت بي بي سي، أقرب قلب لي تضج به أوتار الغناء، كنت أنتظر أكثر الأغنيات توزيعاً في الأسبوع ثم الذائقة الجميلة التى تشكلت بترجمة روايات شكسبير عبر فاروق الدمرداش، وأكتر ما كنت أهابه صوت الأستاذ العتيق جميل عازر ، وكيف أن أنها كشفت بعض المعلومات التى لا نعرفها عن عراب انقلاب الأخوان “الترابي”، فقد كانت العنوان الثابت لي أن “الحق ما قالت به البي بي سي”.
كنت أتابع بعض البرامج التى تهتم بالكتب والروايات والرياضة، وعلى مدار الوقت كان يتخيل لي أنني جزء من هذا المجتمع، كانت المحطة الإجتماعية الأخيرة التى تناولت كل القضايا المسكوت عنها في السودان وبعض دول الشرق الأوسط.
هنا لندن كان سلك أثيري أشده إلى الأعلى بمدينة كسلا بأطراف السودان ليتواصل والدي مع عالمه الذي فُتنت به بعده، ولم تغب هذه النافذة عن مرفقتي بطاولة المذاكرة منذ أن كنت بالفصل الخامس إلى يومنا هذا والحق أقول أن بعض إجاباتي في الإمتحانات أحياناً تكون جُمل من نشرات وبرامج البي بي سي.
الآن أصحبت فقيراً ذوقياً لإحساسي أنني أتوقف على أطلال “عبد الرحيم فقرا، حسن معوض، طوني الخوري، عمر الطيب، نور الدين زرقي”، فقد عرفت الحياة والوطن من خلال البي بي سي.