العبادي: (24): حمضيات المتوسط.. وبرتكان يافا..!

مسألة
د. مرتضى الغالي
لم يغب عن العبادي أن بُختنصر (نبوخذ نصر الثاني) كان قائداً بابلياً شيّد إمبراطورية ضخمة ودقت جيوشه أبواب العالم غرباً وشرقاً فأدخله في أغنية ترقص عليها حسان أم درمان ويطرب لها الأميون وغير الأميين:
ساعات سرور ما اقصرا: مرّت كأن لم نبصرا
يا ربي خضِّر عُنصرا: وانصر جيوش بُختُنصرا
قد لا يحب البعض هذه الاستعارات عند العبادي أو رصفائه من شعراء تلك الفترة؛ رغم أن النقاد العالميين الكبار يرفعون من قدر شكسبير وجون ميلتون وتي اس إليوت ولورد بايرون لاستخدامهم إشارات ومفردات من الأساطير اليونانية والرومانية والميثولوجيا الإغريقية والتاريخ القديم..!!
وهذا كان مما يرد في أغنيات أضراب العبادي من الشعراء، فقد ذكر عمر البنا الدردنيل الحصينة وحصارها الرهيب الذي كانت تتداوله أسماع العالم أيام الحرب الكونية الأولى.. تلك أغنية “زهرة الروض الظليل”:
بستانك نضر ساقيه نيل.. الحيا ومحصّن بالدردنيل
ومثلما ذكر العبادي بُختنصر يذكر خليل فرح (أورشليم):
جيش الظلام هبهب مليم: حافل كأنو قطيع ظليم
قدّام بشوف موسى الكليم: ماد إيدو من غُرف (أورشليم)
وهنا يلتقي خليل فرح خريج كلية غردون بالعبادي (زول السوق)..!
وإذا ذكر سيد عبد العزيز في أغنية (أنا ما معيون) أبطال حروب من عهود متباعدة:
لحاظا يخيف قايد المليون: وترهب عنتر ونابليون
وإذا ذهب عبيد عبدالرحمن إلى عطر فرنسي عرفه العالم؛ خليط ٌمن الإزهار الشرقية والصندل المعتّق:
يا فرحة المحزون.. يا نفثة المصدور
مرآك يزيل الهم.. يمحا الأسى الفي صدور
أسمحلي أتلو ثناك.. والدُر يفاخر الدُر
ويفوح نشيدي الفيك.. زي نفحة الريفدور..!
أو أخذ أبو صلاح تشبيهاته من (يافا الفلسطينية وحمضياتها وبرتقالها الشهير) في أغنية “العجب تيها.. وفي دروعا كابي حرتيها” (والحرتي أيضاً هو الشَعر):
لينه هيّافه: العيون ناعسه صاحي سيافا
صدرها قيافه: ونهيداتا (برتكان يافا)
فإن ود الرضي يذكر قميص سيدنا يوسف:
شوفتك حالية غاليه وبيها يُحظى جناني
زي ريحة قميص الخشا (بير كنعان)
ومحمد بشيرعتيق يلتقط اسم أدوات وآليات ورش الصيانة التي كان يعمل فيها.. ويدخلها إلى أغنية (الرشيم الأخضر):
مين سواك يتجسّر .. في فؤادي وحسنك ليهو عامل سنسر (sensor)
والاستعارة مقبولة..! ذلك أن السِنسر مجس من المجسّات التي تقيس سريان الكهرباء أو درجات الحرارة..!
انه ذكاء الالتقاط وحُسن التوظيف سواء كان إلتقاط مطالعة أو (إلتقاط سماع)..!
**
وهي المعرفة الشعبية بعالم البشر وطوايا النفوس والتحفّز للكسب عندما تلوح الفرصة..هكذا يرسمها العبادي العارف بعالم السوق والرهن و(الاستدانة على الضمان)..! يلخص ذلك العبادي في (مربع واحد) من مسرحيته (المك نمر) عندما حاول ود النعيسان إقناع المك نمر بدفع الدية لأهل القتيل.. هنا ينتفض عثمان الرافض للصلح ودفع الدية ويقول متهماً شيخ حسن الذي رحّب بالصلح:
بقيتو على الصُلُح يا عم حسن حتى انتا..؟
انحليت دحين بعد انكرابتك لِنتا..؟!
اتفشيت أنا.. اتحفحفتا واتزينتا
على حس الغنيمة (رهنتا وإدينتا)..!
ومثل هذه المفارقات أو المواقف كثيرة على امتداد المسرحية..
في لقطة أخرى تقول ريا لطه الهارب من موقع الجريمة عند سماع (كركبة قادمين) في جنح الظلام ما معناه إن القادمين ربما كانوا رعاة (رعاوية).. ولكن العبادي على لسان طه يرد عليها بأنهم ليسوا رعاه بل فرسان…فقد عرف ذلك من صوت سروج القادمين (دا ركوب سروج مو حويّه) فالفرسان يركبون على سروج وليس على حوايا (جمع حويّة) وهي خرقة أو كساء محشو يوضع على بعير الرعاة..!
إبداع المسرحية أنها جمعت بين مشاهد الفخر ومشاهد المهاجاة المتبادلة والإشارات الساخرة مثل مشهد المكايدات بين أبناء عائلتي (كابيوليت ومونتيجيو) Capulet and Montague feudفي مسرحية شكسبير “روميو وجوليت” و(حركات مص الأصبع)..! كما احتوت مسرحية العبادي على أناشيد الفخر والمدح.. وعلى المدافعة بالحجج بين الخصوم.. وعلى الشفاعة والوعيد.. وعلى مناجاة الحب والغرام.. وعلى المشاهد الضاحكة.. وعلى المناحة المطوّلة على غرار:
صعيب فقدك عليّ وشويه فيكا بكايا
انوح لامن أروح.. عيني انقطع وكايا (الوكاي الحبل الذي يُربط به فم قربة الماء)
قابلني الدَهَر قاصدلو فيّا نكايه
بعد النكبه دي.. باديلو تاني حكايه..!
**
يقول العبادي في أغنية (سايق الفيات):
بوصيك قَبُل تبدا: سيرك داك طريقك.. سابق الربده
(والربدة) هي الغبشة التي تنتج عن ذرات الغبار… وهو يدعو السائق إلى أن يسابقها…!! كما إن العبادي يستخدم مفردة (الربقة) في مسرحيته المك نمر على لسان (ود دكين)
احسن ليك تفوت ريا وتحل الربقه
والربقة فصيحة بمعني الحبل والقيد.. (عروة من حبل توضع على العنق) وأحياناً تأخذ المعنى العام للتقييد والتضييق حيث يشيع تعبير (ربقة الاستعمار) و(ربقة العبودية).. والعبادي في أغنيته الرمزية التي يخاطب فيها الوطن: (نظرة يا ظبية السلام) يقول:
عشت يا روضة الزهور
تجري في خدودك النهور
تبقي زي سالف الدهور
خالية من (ربقة المهور)..!!
**
أثناء تحقيق علي المك لديوان خليل فرح سألوا العبادي عن معنى (ألف فارس) في قصيدة الخليل (ما بال طرفي عنه النوم قد أبقا) والبيت يقول:
وشلخها في انتصاب لا اعوجاج له: كألف فارس بالخدين مُلتصقا
فقال لهم العبادي إن الخليل قصد أن الشلوخ تشبه حرف الإلف في الأبجدية الفارسية..!! في حين قال حدباي عبد المطلب إن الشاعر قصد قوة فتك الشلوخ بما يعادل قوة ألف محارب..! ثم يقول حدباي للعبادي ألم تقل أنت:
آخ أنا من سهام لحظات نواعسو طُعنتا
ومن صحن الجمال الصافي خاتي القنته (الذي لا تشوبه شائبة)
(العارض) برز قايد فيالق سته
كل فيلق يقول للكان قبيل: مين إنتا..؟!
ولكن يبدو من غير المستساغ أن يلتصق ألف فارس بخد الحسناء كما يرى العم حدباي.. بينما وجد (العبادي الحريف) مخرجاً في الأبجدية الفارسية..!
جاء فى هذا المقال :
” يقول العبادي في أغنية (سايق الفيات):
بوصيك قَبُل تبدا: سيرك داك طريقك.. سابق الربده
(والربدة) هي الغبشة التي تنتج عن ذرات الغبار…
وهو يدعو السائق إلى أن يسابقها…!! ”
ملحوظه :
الربده : هي النعامه ، وتوصف بأنها : ربداء ،
ويقال عنها : نعامة ربداء ، وتوصف بسرعة الجري ،
ولعل. هذا هو المعنى الذى قصده العبادى .