مقالات سياسية

وينتهي العزاء بدون مراسم الدفن

وجدي كامل

 يبدو ان الحقبة الحالية من تاريخ البشرية هى الاشد شراسة ولعنة. فالعالم الذي تعرض لانواع عديدة من الآفات الصحية في اجزاء منه في عدد من قاراته كالطاعون والكوليرا والايبولا وانفلونزا الطيور والخنازير وحمى البقر وغيرها يشهد الان وضعا صحيا مزريا اشبه بالحرب الصامتة المستهدفة ارواح الغالبية من البشر.

واذا ما كان كوفيد ١٩ او الجائحة قد قضت على ملايين البشر وربما تصل المليار في وقت وجيز بعد دخول الهند كواحدة من اضخم الكتل السكانية على الارض. فبعد اصابتها بالسلالة الجديدة من الكوفيد فان حيز الموت سيتسع، و ليس من المستبعد ان يهتز العالم تحت هجماته بنحو اكبر بسبب خاصية مرونة الحركة والتواصل الفيزيائي البالغ السيولة بين البلدان والذي يتخذ تسريباته باشكال غاية في الغموض والدقة احيانا بعدم اقتصاره على وسيلة الطيران فقط، وضعف شبكات المراقبة والضبط الصحى في عدد من البلدان الموبوءة  ذات الانظمة و المنظومات الصحية الهشة غير الفعالة.

واذا ما اصبحت عدوى انتقال الكوفيد ١٩ عدوى لا تزال غير مكتشفة الاسباب بصفة نهائية في الكثير من البحوث والتجارب المعملية او المختبرية القائمة بحيث تظل بعض طرقها غير معلومة حتى اللحظة فان الاصابة بالجائحة تتجاوز حد افتراس النفوس والارواح الى اقتناص الاقتصاديات و التوازنات والنظم الثقافية الاجتماعية القائمة. ذلك ما سيؤثر ليس فقط في العموم من فلسفة العلوم والدراسات الاجتماعية بل سيحيلها الى تاريخ لها.

والثقافات الاجتماعية على تبايناتها بين البلدان الغربية والمشرقية وبلدان اسيا وافريقيا والامريكتين الا انها تلتقي وبحكم الوحد التاريخية للاخلاق والديانات عند مشتركات متقاربة نجدها في عدد من العادات والتقاليد الاجتماعية الثقافية المتوارثة ومنها طقوس العزاء.

 فالموتى ومهما تنوعت مصادرهم، ودياناتهم، وجنسياتهم لا يذهبون بدون وداع مطلق عند الموت، بل يودعهم اقرباؤهم و اعزاؤهم ولو اختزلوا الى اصحاب القرابة والمعزة من الدرجة الاولى فقط. 

وحتى في البلدان التي تعمل بتقليد حرق جثث موتاها و يتحول الموتى الى قبضة من رماد يكون هنالك مودعون ومعزون.

و بيوت العزاء في العالم اجمع تعبر بصفة واضحة ونشطة عن جملة من القيم الدينية، و الثقافية الاجتماعية المتوارثة والتى جبلت الناس على اداء طقوسها على مر الازمنة والتاريخ فبالاضافة الى اقامة الصلوات الجماعية والترحم على المغادرين فان سيرهم تكون حاضرة بذكر الاجمل من تاريخها ووقائع سيرتها بذكر محاسنها.

السودان ومن بين كل دول العالم يشكل حالة او قضية خاصة للبحث والتقصي في محتوى و شكل اقامة طقس العزاء بغض النظر عن خارطة التنوع السكاني والثقافي التى يتمتع بها. 

فما من عزاء وليس له بيت عدا الاستثناءات الخاصة بالمفقودين او الضائعين والمنفيين الاجتماعيين.

 وقد ظلت بيوت العزاء ثقافة يتم تناقلها جيلا بعد جيل بغرض جبر كسر المقربين وتخفيف اضرار الفراق والتضامن معهم بمنحهم مزيدا من التماسك، والمؤازرة، والقدرة على امتصاص الصدمة. وبيوت العزاء ورغم  الاغراض و الاهداف المعلنة في بلد كالسودان الا انها تتحول الى ساحة لاعادة انتاج الوحدة والاتحاد الاجتماعيين بين الافراد في انتشار وفعالية صيغ التكافل و طقوس النفيرالتي تبدا منذ لحظة اعلان الموت و حفر القبر وتجهيزه للميت القادم.

 وقد شهد التاريخ الاجتماعي في المدن والقرى على وجود جماعات بعينها تتخصص وتنبرى لمثل هذه الاعمال كحسنة وعمل صالح لوجه الله تعالى. ويكاد لا يخلو حى او فريق من مجموعة حفارين القبور ومن بينهم الاسطى او العارف بشئون حفر القبور.

 اما تجهيز الميت فله كذلك مختصون اجتماعيون في كل قبيلة وعائلة. ولتجهيز الميت اقتصاديات تعمل وتجارة تتوفر  تبدا من بيع وشراء الاقمشة والكفن ويعيش ويتعيش من عائداتها اعضاء في المجتمعات التجارية.

 وبيوت العزاء رغم ما ذكرناه عنها من اهداف اجتماعية ومعالجات الا انها باتت تمثل ومنذ تاريخ بعيد عامل تنشيط ودفع للاسواق بكثرة استهلاكها للمواد وخاصة تلك المتصلة بالماكل والمشرب.

 و ظلت ايام العزاء الاربعة ( قبل ان تنخفض الى يوم واحد ) عند البعض مجالا لتسويق  واستعراض القدرات الاقتصادية والاشارة للمنزلة الاجتماعية للمتوفي او اهله فتتباين احوال العزاءات حسب تلك المكانة ما ينعكس في نوعية الضيافة من اكل وشرب.

 ومن اهم مترافقات العزاء ولزومياته مما يلزم  عادة المواساة لكافة اقارب واهل الفقيد بحيث اضحت واجبا لا فكاك منه ويقوم به الجميع تجاه بعضهم البعض. ويعد التقصير فيه وعدم القيام به امر لا يستثير غضب النساء فقط ولكن الرجال كذلك فصرنا نسمع ملامات من مثل:  فلانة ما عزتني ايضا  فلان ما جاء شال الفاتحة معاى. 

و المجتمعات في هذه التفاصيل المرتبطة بالعزاء وطقوسه قد شهدت خصومات و ربما حروبا سرية قد تتسلل في دولة هشة كما السودان الى علاقات السياسة والاقتصاد وتسيير دولاب الحكم فيها.

 فالمصالح والوزارات والمؤسسات حتى وقت قريب تأتي مجتمعة الى بيوت العزاء اثناء ساعات العمل ويدخل اقارب المتوفي او المتوفية في عطلة الزامية غير مستحقة اذنا اداريا او شهادة مرضية. فاذونات اقارب المتوفين دائما معهم.

وبيوت العزاء ترتبط وبالاضافة لاهل المتوفيين ومعزيهم في حوش النساء وخيمة الرجال بكم هائل التفاعلات الاجتماعية  المنتجة لقصص يمكن ان تؤلف كتبا وروايات. والطرافات المتصلة بها بحر لا ساحل له. 

اما الشخصيات ذات الاقامة الدائمة وهى خلو من اي صلة بالمرحوم او المرحومة فحدث ولا حرج وهم ذوى اغراض مختلفة واهداف متنوعة.

 وقد شهدت المدن السودانية وخاصة العاصمة الخرطوم في العقود الاخيرة ظاهرة البطينيين الذين يقصدون بيوت العزاء فقط لتناول الوجبات وشراب القهوة والشاى و تزجية الوقت دون معرفة حتى باسم المتوفي او المتوفية.

 وهنالك من السرقات التى وقعت على اهالى المتوفين بروايات مزعومة عن علاقات سابقة بالمتوفين واحيانا ديون لهم عليهم. 

بيوت العزاء كانت الشاهد والعزاء لكثير من اهل السودان في مقاومة الآلام والعقوبات النفسية التي نفذتها ( الانقاذ) في المجتمعات السودانية رغم ان الانقاذ اطلقت بين طيات العزاءات افواجها من المخبرين والامنجيين الذين تسللوا الى نقاشاتها  السياسية ونقلوها في محاضرهم وادخلوا اصحابها السجون باضافة اسباب اخرى.

مدينة امدرمان بتنوع احيائها وكثرة ظرفاء تاريخها الاجتماعي تتصدر المدن من حيث الطرف والوقائع النادرة التى رافقت بيوت العزاء والقفشات التي لا يزال الناس تتذكر بها ابو نفاش و كمال سينا و الهادي نصرالدين (الضلالي).

كنا عندما ناتي في اجازاتنا السنوية ونسال عن شخصيات بعينها وكيف نلتقيها يقال لنا والله فلان ده الا تصادفه في بيت بكاء او عقد زواج. 

نعم عند البعض ومع شدة القبضة الامنية للانقاذ اصبحت بيوت العزاء هى الترفيه الوحيد لعدد كبير من الناس بما توفره من تفاعل و تبادل اخبار وايناس على حساب اهل الميت ومستقبل اقتصاد اسرته المكلومة.

 واذكر انني قد سمعت ولاول مرة عبارة ينتهي العزاء بعد مراسم الدفن في اواخر السبعينيات عند وفاة جار لنا ببحرى. و اكاد لا انسى الاستهجان الحاد الذي وجدته تلك العبارة من اغلبية من التقيتهم ووقفت على ردود افعالهم. ولا انسى كذلك تعليق احد اشهر البطينيين ممن يسمون بيوت العزاء محلات (الكيتة) بان اهل الميت بخيلين قبل ان اسمع من والدي ان المرحوم كان قد كتب في وصيته تلك الجملة التي بدت صادمة وراجت وانتشرت فيما بعد لتعم وتنتشر.

ولكن ورغم كل ذلك فما جال بخاطر او عبر بخيال احد ان ياتي زمن وتحل آفة او جائحة تقضى على ذلك الطقس العزيز، و تحتفي بيوت المآتم من الوجود ويذهب كبار القوم وصغارهم لوحدهم الى القبر ولا يجدون الا مرافقة باردة و روتينية من العاملين الصحيين ممن يسمون برجال الاسعاف بعد وداع من اطباء العناية المكثفة.

الموت بكوفيد ١٩ واذا ما انتشر اكثر لا قدر الله سوف لن يقضي على الطقوس بالقدر الذي سوف يقضى على ثقافة اجتماعية بمجملها.

 سوف لن يجتمع الناس لكى يعددوا جماعة مناقب الفقيد وسوف تختفي عبارات ك الله ما جاب يوم شكرك.

 فحيث ستكون الوحدة في الموت مصير الناس لن يجدوا ما يسوق لاعمالهم الصالحات وشكرهم بما انجزوه من سير حميدة على النحو الاعلامي المطلوب او الذي كان متوفرا من قبل.

[email protected]

تعليق واحد

  1. كاتب المقال عايز يقول شنو و يوصل اية رسالة ؟؟ يبدو انها الكتابة من اجل الكتابة فقط لا غير

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..