عسكر السودان واستراتيجية الهراوة الدامية

تشير أحدث التقارير الصحافية الواردة من السودان إلى أن ثمانية مواطنين بينهم ممرضة لقوا مصرعهم، كما جرح آخرون، برصاص قناصة مجهولي الهوية تصدوا لتظاهرة طلابية سلمية خرجت في مدينة الأبيّض، عاصمة ولاية شمال كردفان، احتجاجاً على ظروف المعيشة وغلاء الأسعار. كذلك كان الطلبة يعلنون رفضهم لنتائج التحقيق الرسمية في مجزرة فض اعتصام القيادة العامة مطلع حزيران /يونيو الماضي، التي سقط فيها 127 قتيلاً وأصيب المئات وفُقد العشرات.
في المقابل أفاد متظاهرون بأن القناصة ينتمون إلى «قوات الدعم السريع» التي يقودها محمد حمدان دقلو نائب رئيس المجلس العسكري الحاكم، ولهذا الاتهام أساس من الصحة بالنظر إلى السوابق الدامية التي تقع مسؤوليتها على هذه القوات، سواء في قمع التظاهرات منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية في السودان قبل إسقاط عمر حسن البشير وبعده، أو في دارفور حين كانت تتألف من ميليشيات الجنجويد قبل أن يحولها البشير نفسه إلى وحدات نظامية.
لكن واقعة قمع الاحتجاجات السلمية في مدينة الأبيّض ليست منفصلة عن سياقات أخرى داخلية وخارجية، لعل أبرزها أن استسهال ضباط «قوات الدعم السريع» إصدار الأوامر باستخدام الرصاص الحي مردّه يقينهم بأنهم يتمتعون بحصانة مطلقة تكفل لهم المنجاة من كل حساب. الدليل الأول على هذا يتجسد في النتائج الهزيلة حول مجزرة فض اعتصام القيادة، والتي توصلت إليها لجنة النائب العام المشكلة أصلاً بقرار من المجلس العسكري ذاته.
كذلك فإن دقلو قام في الفترة ذاتها بزيارتين داخلية وإقليمية، أضافت كل منهما المزيد من العناصر لتقوية موقعه داخل المجلس العسكري عموماً وعلى رأس هذه القوات خصوصاً. الزيارة الأولى كانت إلى جوبا عاصمة جنوب السودان، حيث التقى دقلو مع رئيس جنوب السودان سيلفا كير وممثلين عن الحركات المسلحة للبحث في بنود اتفاق السلام الأخير مع المعارضة. وأما الزيارة الثانية، والأهم في الواقع، فقد كانت إلى القاهرة للاجتماع مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وهي الثالثة من نوعها لجنرالات الجيش السوداني إلى العاصمة المصرية.
سياق آخر لافت هو إعلان المجلس عن إحباط محاولة الانقلاب الخامسة منذ إسقاط البشير، الأمر الذي استتبع حملات اعتقال متعاقبة ضد كبار ضباط الجيش، شملت رؤساء الأركان وهيئة العمليات المشتركة ومدير التدريب وقائد المنطقة المركزية وقائد المهام الخاصة وقائد قوات الدفاع الشعبي وقائد سلاح المدرعات. وإذا كانت هذه الحملات تتم تحت ذريعة التآمر لإعادة النظام البائد، كما يقول المجلس، فإنها بالتأكيد تشير إلى عمق الخلافات في صفوف الجنرالات حول مسائل كثيرة قد تبدأ من العقيدة الإيديولوجية ولا تنتهي عند الصراع على المناصب.
إنما السياق الأهم فلعله استحقاق المفاوضات مع المعارضة، والتي يتوجب أن تُستأنف قريبا برعاية الوسيطين الأفريقي والأثيوبي، في ظلّ مسائل عديدة معلقة تتصل بالإعلان الدستوري وتشكيل حكومة مدنية خلال المرحلة الانتقالية وتحديد صلاحيات العسكر وحصانة الجنرالات من المحاسبة. وليس أمراً مستغرباً أن يلجأ بعض جنرالات السودان إلى استراتيجية مزدوجة قوامها الهراوة الثقيلة والرصاص الحي من جهة، والتلويح بالولاءات الإقليمية المصرية والسعودية والإماراتية من جهة أخرى، لممارسة الضغوط على المعارضة وكذلك على الوسطاء.
كل هذا بالإضافة إلى استخدام الردع الأقصى عن طريق إراقة دماء الأبرياء، بين حين وآخر.
القدس العربي