السودان… الوئام ممكن بعد إطاحة «الإنقاذ»

معاوية يس

تبدو بعيدة جداً فرص تحقيق وئام وطني في السودان، والسبب الأكبر هو تعنت حكومة محفل الإنقاذ برئاسة عمر البشير وأعوانه، إذ كلما أخذ المناوئون لهم دعوتهم إلى الوئام والمشاركة بجدية، اكتشفوا أنهم إنما يريدون مشاركة تضمن لهم الاستئثار بالسلطة والثروة اللتين اغتصبوهما منذ عقدين من الزمان، ولم يشبعوا من الولغ في المال العام، والانتشاء بِقَطْعِ أرزاق العباد.

ويدخل ضمن الأسباب تهافت الأحزاب المعارضة على المشاركة بعقلية اقتطاع أكبر جزء من الغنيمة، وحين ينجح أعضاء محفل الإنقاذ في المتهافتين، ويَصِلُونَهم بالمناصب، يسارعون إلى تعيين أشقائهم وأصهارهم في مناصب أخرى، ليس من قبيل مكافأة محفل الإنقاذ بدعم آلته الحاكمة، وإنما على سبيل تضخيم «كوم» المكاسب، وتوسيع ثغرة إتيان المال العام.

وتتحمل الأحزاب السياسية السودانية العتيقة مسؤوليةً تُداني في حجمها مسؤولية محفل الإنقاذ عن تدمير البلاد، وتمزيق وحدة ترابها، وتجويع شعبها الذي يملك أرضاً خصبة شاسعة تكفي لتحقيق الأمن الغذائي ليس للسودان وحده، بل للعالم العربي والقارة الأفريقية. فهي – أي الأحزاب – لا تعاني موتاً في هياكلها وسياساتها وتكتيكاتها، بل إن قياداتها في حال «موت سريري»، ومع ذلك تعمل على توريث أبنائها وبناتها، ولا تزال بعد مرور 12 عاماً على بدء الألفية الثالثة تمارس عقلية «السيد المقدس» الذي يتبرّك به السوقة والدهماء، يومئ ويشير وما عليهم إلا الطاعة العمياء. بل إن بعض أولئك القادة يستطيعون تطويل ألسنتهم حتى وهم على مشارف قبورهم، مثلما حدث من زعيم حزب الأمة الصادق المهدي الذي وصف مئات من محازبيه الذين طالبوه بالتنحي بأنهم أشباح («بَعَاعِيتْ» بعامية أهل السودان»)، مسيئاً بذلك لملايين من أتباع حزبه، خصوصاً في تخوم البلاد التي تعد معاقل حصينة لحزب الأمة.

وتبلغ تلك القيادات العتيقة ذروة السوء حين تعمد إلى مخالفة الضمير السليم وإجماع السودانيين، برفض مواجهة محفل الحركة الإسلامية، والامتناع عن تنظيم حماية مسلّحة لأية هَبَّة شعبية تجتاح شوارع مدن السودان لإلغاء نظام البشير.

بدلاً من ذلك يسارع زعيم الحزب الاتحادي الديموقراطي محمد عثمان الميرغني إلى المشاركة في حكومة يرأسها البشير، موافقاً – وهو أول من أشهر السلاح بوجه النظام – على تعيين نجله جعفر الصادق مستشاراً للرئيس المطلوب القبض عليه دولياً لاتهامه بارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وجريمة الإبادة. أما رئيس الوزراء الديموقراطي الذي أطاحه محفل الإنقاذ في عام 1989 الصادق المهدي، الذي هتف له أشياعه ذات يوم «الصادق أمل الأمة»، فقد أضحى كارثة للأمة، بإساءته للأحزاب المعارضة للإنقاذ، واختياره طريقاً يتجه إلى ما لم يُجمع عليه السواد الأعظم من الشعب، زاعماً أن المواجهة خيارٌ ليس صائباً، وأن العمل الشعبي ينبغي أن يكون من أجل «إصلاح» النظام وليس إسقاطه.

الشارع السوداني العريض… أحد الأسباب المهمة في عرقلة احتمالات الوئام والتغيير. صحيح أن هذا القلم دأب على انتقاد صمت الشارع السوداني وسلبيته تجاه فظائع النظام وسياساته البشعة. وهو نقد مشروع ما دام يضع في الحسبان افتقار الكتل البشرية التي تموج في شوارع مدن البلاد إلى قيادة تنظّم ردود أفعالها، وخطواتها المفضية إلى تغيير يُخَلَّصُ العالم كله من شر محفل الحركة الإسلامية الذي يتدثر بثوب الدين، ويختطف العقيدة ليخطف اللقمة من أفواه الجياع، ويعيد صياغة الشخصية السودانية لتتعبد بدينه المسيّس، وتعبد المال، وتعتمد الإدناء والتقريب، لضمان البقاء في الحكم.

غير أن أسوأ ما في تلك الكتل البشرية التي ليس ضرورياً أنها تملك وعياً كافياً بضرورة مشاركتها في التغيير، وتأسيس نظام عادل للتراضي والتساوي في الحقوق والواجبات، أن قطاعات كبيرة منها رُزِئَتْ بداء الأنانية، وإيثار النفس، واللحاق بفتات الغنائم. وهي ليست أمراضاً متأصلة في نفوس العوام يتوارثونها أباً عن جد، بل هي نتاج الجهل والتجهيل اللذين ظل محفل نظام الإنقاذ يمارسهما على مدى 23 عاماً، من خلال تدمير نظام التعليم العام والعالي، وتغبيش وعي الشعب، وغسل أدمغة المواطنين بأكاذيب وألاعيب تحاصر آذانهم وعيونهم عبر 13 قناة فضائية تمولها الحكومة بما تجبيه منهم من ضرائب ورسوم ومصادرات.

غير أن ذلك لا يشفع للقيادات الكامنة والمحتملة في صفوف تلك الكتل، إذ إن وقت الخروج إلى العلن، وممارسة مهمات قيادة الشعب وتوجيهه، والتوعية بأن الحقوق التي سلبتها الحركة الإسلامية لن تستعاد بغير القوة، وبأن القوة حين تواجه نظيرتها فلا بد أن تُراق دماء، ويموت أبرياء، ويتهدم بنيان أقوام. كل ذلك الفداء ليس من أجلنا، ولا من أجل أجيال سبقت، بل هي تضحية حتمية من أجل أبنائنا وحفدتنا. ذوو البصيرة والعقل يدركون جيداً أن إعادة إعمار ما أفسدته تلك الفئة المتظاهرة بالصلاح والتقوى لن تجنيه أجيالنا ومن تلاها، بل كُتب علينا أن نَكِدَّ أكثر ونشقى على مدى عقود مقبلة حتى يمكن إصلاح الجرَّة المكسورة، لينعم بعد ذلك أبناؤنا وحفدتنا بوطن لا فضل فيه لعربي على أعجمي، ولا لعسكري على مدني، إلا بالتقوى الحقّة، والبذل من أجل التقدم، وخدمة الشعب. وطن تقوم أنظمته على التساوي بين أفراد شعوبه وأقوامه، وتتوافر فيه فرص التعليم المجاني بكل الإمكانات والمتطلبات، وتتاح فيه للناس أجمعين أرقى خدمات صحية وبيئية، ويحصلون فيه على العدالة المهابة المسموعة الكلمة التي لا تعرف المحاباة وشراء الذمم، وتكون السياسة فيه تنافساً على خدمة الناس، وليس نافذة لسرقة المال العام وتكديسه في ماليزيا ودبي وشنغهاي.

إذاً تبدو الصورة قاتمة، لكن الأمل ينبغي ألا يغادر النفوس، الوئام ممكن إذا تصافت تلك الأنفس، واستعادت روحها الجمعيَّةَ الخالصة من أدران الأنانية، وأوساخ الجهل، وأعباء التثبيط. الوئام ممكن بتقوية الإيمان بقدرة شعب السودان على إعادة بناء وطنه خالياً من أمراض الفساد والنهب واغتصاب الحكم واختطاف العقائد. الوئام الوئام… يجب أن يكون عنوان الفترة المقبلة، لكنه وئام يجب أن يكون مسنوداً ومحمياً ٍ.

* صحافي من أسرة «الحياة».

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. أين كنت يا أستاذ معاوية طوال هذه السنين؟ الإنقاذ مثل قطر السكة الحديد لم تغيِّر سكتها من يوم مولدها. الناس حولها يتغيرون نحو الأسوأ.
    عرفتك كاتباً منذ أكثر من ربع قرن ولكنك كنت مهتماً بفن الغناء وعندنا دخلت السياسة مسكت العصا من النصف حتى صرت رئيساً لتحرير الخرطوم التي هي الأخرى تمسك العصا من النصف لما لمالكها من ملكة الحرابائية المعروفة لكل من يعرفه.
    شن جدً على المخدة يا أستاذ معاوية لتنلقب فجأة بما يساوي 180 درجة؟ هل شعرتم أن المركب إلى غرق وتريدون تسطير صفحات نجاح لتصبحوا شيئاً مذكورا عند إندلاع ثورة الجياع؟
    خليك مرطب في لندنك حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا. تحياتي.

  2. بيقينا ماقادرين نصدق زول -الصادق يوم معارض يومين موالى -الميرغنى مرة صامت واخرى مشارك((مابعيد بكرة نسمع نافع معارض وعلى عثمان اطالب بتغير النظام)

  3. بداية الموضع مفترض يكون …. والسبب الأكبر هو تعنت حكومة الجنوب برئاسة سلفاكير وأعوانه، ومتمردى دارفور والنيل الازرق …. واعتقد ان هذه هى الحقيقة ….

  4. يا مسز كولن وقرفان خالص حلفت إنتو ما بتعرفوا التكتح. معرفتنا لأستاذكم معاوية (المناضل) قبل أن تولدون. بينه وبين النضال والكفاح ما بين المشرق والمغرب منذ أن كان طالباً بكلية القانون جامعة الخرطوم في سبعينيات القرن الماضي.
    .

  5. الحلم حق مشروع واحلم على كيفك وممكن تحلم وانت فى فنادق خمس نجوم باحلام تفوق مقدرتك الجسمانية والعقلية

  6. بسم الله الرحمن الرحيم

    أخ ألكريم معاوية يس ألسلام عليكم ورحمة الله

    أراها دعوه (خجوله) للمؤسسه العسكريه .. وفيها بعض الصدق بدعوة الناس للخروج للشارع على غِرار ماحدث بدول الربيع بحثاً عن فوضى (خلاقه) ..

    فياأخ معاويه لم تتكرم بطرح بديل وخارطه واضحة المعالم لا يُعقل أن توجه الشباب بالذهاب (للمحرقه)ضد النظام لمجرد الانتفاض على طغمه ..على ماذا يستند ويتسند الشباب؟

    * بعد النجاح الذي حققته العُصبه(الاسلامويه) تكشفت الاستراتيجية الهادفة للهيمنة المطلقة على البلد..لم يحدث أن شاع الفساد وعمّ الاضطراب مثلما شاع فى هذه الأزمان المتأخرة للنظام..فسادٌ دخل من كل باب .. انهم صورة كُبرى من أكلة أموال الناس بالباطل.. وسقطت رموز معروفه فى (لهيبه) الحارق وشباكه الملتوية مما جعل كثيراً من العُقلاء والمستبصرين يرون أن هذا التوريط من أكبر الجرائم الأخلاقية والاقتصادية والسياسية ناهيك عن المخالفة الشرعية لأهل المشروع الحضارى..

    * تحكمت فينا عصابه جعلت (معايش) الناس هماً بالليل وذلاً بالنهار..لكنه فى حق(الوطن) ذلٌ وفقر وانتقاص لكرامة الأمةكلها ونيلٌ من مصالحها الوطنية انهم مجموعه عقلية ربوية قاسية جعلت بلدنا مدينُ بمئات المليارات فى أرقامٍٍ فلكية لا يكاد يُحصى عدها وما زادها ولا ضاعفها ولا أعجز أصحابها عن سدادها إلا ما يسمونه بمصاريف وخدمات وفوائد الديون.. للاسف نحنُ شعبٌ عصف به الفقر بسبب الديون الربوية وألكثير من البيوتٌ اجتاحها الخراب بسبب هذا السرطان الحاكم ..

    * المتأسلم الانقاذى مُرابى أنانيٌ متسلط واسع الحيلة ماكر التصرف تراه ناعم الملمس.. كاشر الأنياب.. متعته ابتزاز المحتاجين (دينه) حُب المال والنساء ففى كتاب الله يحب سورتى ( الدخان) و(ألنساء).. لله درهم ..

    * عبروا بصدقٍ عن همجية (الاحتكارات)وبوحشيه إيماناً منهم بشريعة الغاب واستخفافاً بالشرائع والقوانين وحتى بالأعراف السودانيه .. ازدادت هذه الوحشية عتواً وأصابهم العمى أكثر فأكثر ..

    * كشباب لا نستهدف سوى اقتلاعهم لكن مخاطر النظام متنوعة الأشكال متعددة الجوانب .فخطرهم تجاوز الهيمنة ونهب الثروات والسيطرة ..انهم (امبراطورية) عمياء مدججة بالسلاح. جعلت (الكُل) يدور فى فلكها ويخدم مصالحها ويتخلق بأخلاقهاويؤمن بقيمها ويستجيب لأهوائها.. شهدنا جبروتهم وطغيانهم وغطرستهم وصلفهم ..

    * وفى ظل هذا الواقع تغلغل (بعض) اليأس إلى نفوس الناس فضلاً عن خوف من النظام.. والقيادات الحزبيه زاد رعبها رعباً فأخذت تتزلف للنظام..وتبذل كل جهد لإرضائه..حتى أن بعضها حوّل نفسه إلى أداة تحركها هذه الإدارة ضد جمهور الاحزاب ..

    وكادت الأمة ومؤسساتها الأهلية في المجتمع المدنى أن تُستلب وتستسلم وتتخلى عن دورها في مواجهة الهيمنة وطغيانها ووقفت صامتة متفرجة لا حول لها ولا طول.. وتتجاهل قدرتها الممكنة والمؤكدة على احتواء الصدمة وإحياء إرادة الصمود والمواجهة التى تُشكل منطلقاً لأى نصرٍ وصار أى سياسى أو عسكرى أو ضابط أمن يُوزع شهادات (حسن السلوك) على بعض القيادات الحزبيه ووصل الهوان أن استوزروا (عِيالهم)من غير المحصنين ..

    * نُكرر نحنُ كشباب مع التغيير .. ولكن كيفية وماهية هذا التغيير وآليته فمثلك يدعو المكرم الكاتب المميز(سيف الدوله حمدنا الله) يكتب عن معارضه وعن (فضائيه) فمن وراءها الممول والهدف والاجنده فالمعارضه ليست عمل(خيرى)

    أفيدونا بتفاصيل .. أفادكم الله ..ضعوا للشباب نِقاط على الحروف ..

    لن نخوض أخ معاوية فى مساراتٍ لا نعرف خارطتها.. ولاحقاً نتحاور فى (الوئام)
    ثم ما أدراك …

    ولحـديثنا بقـيـه … لو ..دام فى العُـمـر بقـيـه …

    الجـعـلى البعـدى يـومـو خنـق ..

    من مدينة ودمـدنى السٌُــنى .. ألطـيب أهلها …

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..