مقالات وآراء سياسية

لا تبخسوا حمدوكَ أشياءَه!

عثمان محمد حسن

* تم اختيار د.حمدوك رئيساً لوزراء الفترة الانتقالية لخبرته المشهودة في عمليات وضع الدول الافريقية، الآيلة للفشل، على درب الحكم الراشد، ثم لكونه خبيراً إقتصادياً ذا باع في منظمة البنك الدولي ومسئول عن إدارة أحد أهم أفرع البنك في أفريقيا والشرق الأدنى، ومقره أديس أبابا.. ولم يكن يغيب عن قحت أن حمدوك تشبع ببرامج المنظمة بعد عقود من العمل فيها.. كما كانت قحت تعلم أن د.بدوي، وزير المالية السابق، ودكتورة هبة، وزيرة الدولة للمالية السابقة، لا يختلفان عن حمدوك في أفكاره الاقتصادية، فكلاهما عَمَلا في البنك الدولي.. وأن ما اكتسباه من معرفة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بأدبيات البنك الدولي وتوأمِه صندوق البنك الدولي..

* وعلى هذا يمكننا القول بأن قحت أتت برئيس وزراء ووزير مالية ووزير دولة للمالية من طاقم البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، او بمعنى آخر، قحت أتت بالبنك الدولي لإجراء الاصلاحات اللازمة لاقتصاد السودان المنهار..

* إذن، لا يحق لأحد من الذين اختاروا الخبراء الاقتصاديين الدوليين الثلاثة أن يبرئ نفسه من ما نحن فيه من معاناة في المعيشة تكالبت علينا من حيث ندري ولا ندري..

* وللعلم، فإن برامج البنك الدولي مستقاة من ( مدرسة شيكاغو للاقتصاد) وهي المدرسة الاقتصادية التي انبثقت منها نظرية (الكلاسيكية الجديدة) المعروفة في أدبيات الاقتصاد ب( The neoclassical ).. وهي نظرية مبنية على الأسواق الحرة وعدم دعم الدول للسلع والخدمات.. والاعتماد على العرض والطلب لتحديد الأسعار الحقيقية.. وعلى هَدْي هذه المدرسة يضع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي برامجهما..

* وهذا يعني أن رؤية الثلاثي الاقتصادي السوداني لإدارة الأزمة الاقتصادية السودانية كانت مبرمجة سلفاً على تطبيق عقيدة الصدمة، كما ظهر بعد أقل من عام من تسنمهم لمناصبهم الدستورية..

* وأعتقد أن نجاح حمدوك أو فشله في إدارة الاقتصاد السوداني يجب أن يُقاس بمدى تطبيق تلك البرامج التي يمضي الآن في تطبيقها، وما سوف يتمخض عنها، والأسعار ترتفع وعدد الفقراء يزداد كما يزداد عدد المتسولين في الشوارع والأحياء الشعبية.. وسوف يستمر ازدياد الفقر العام ويستمر.. وسوف تأتي الشركات متعددة الجنسية لتنعش الاقتصاد السوداني لتخرج المواطن من دائرة الفقر، هوناً ما، إلى دائرة يكون قرار عيشه فيها رهيناً بتفاصيل الاتفاقيات التي يتم إبرامها مع تلك الشركات حول الاستثمار المباشر في السودان..

* كان بالإمكان أن تكون المعائش أقل سوءاً وتعسفاً لو كانت قحت أتت لوزارة المالية بخبير إقتصادي من مدرسة إقتصادية غير مدرسة شيكاغو ( الكلاسيكية الجديدة) حتى يكون هناك توازن يحِّدُّ من طغيان مدرسة شيكاغو للإقتصاد ذات النزعة الرأسمالية المتوحشة النهِمة للسيطرة على الاقتصاد عبر تطبيق نظرية الصدمة والإجراءات القاسية التي تفرضها.. وتعضده الرأسمالية الطفيلية (الكيزانية) بفوضى الأسعار التي تنشرها في الأسواق، ضِغْثاً على ابَّالة..

* سبق وأن كتبتُ عن عقيدة الصدمة The Shock Doctrine وذكرتُ أن عقيدة الصدمة هذه يتم تطبيقها بحذافيرها في السودان حالياً.. وأن الدول الغربية والشركات متعددة الجنسيات تؤيد بحزارة لتطبيقها في السودان.. وذكرتُ أن الاقتصادية الكندية اليسارية ناعومي كلاين ألفت كتاباً عن هذه العقيدة تحت عنوان
The Shock Doctrine, ”
The Rise of Disaster Capitalism ”
كشفت فيها أن هدف ( نظرية الصدمة بالكوارث) هو فتح العالم الثالث المُحكَم الإغلاق لتزحف عليه جيوش الرأسمالية الغربية بحيث تدمر البنى الاقتصادية والاجتماعية المحلية المقفولة و تجتثها، وتجبر الشعب على قبول ما لم يكن ليتقبله سوى عبر الصدمة (الاقتصادية) .. و أن ذلك هو الطريق الوحيد لاقتحام العالم الثالث المُحكَم الإغلاق كي تدخله الشركات العابرة للقارات بلا عوائق حيث أن أي انفراج طفيف للأزمات سوف يعتبره المصدومون انفراجاً لا انفراج أكبر منه..

* والشعب السوداني، بكل فئاته، يعيش وطأة (العلاج بالصدمة) حالياً.. وينجبر على قبول كل ما كان يرفضه في السابق.. فيدفع للسلع والخدمات، عن رضىً، أضعاف ما كان يدفعه للسلعة أو الخدمة.. ويفرح فرحاً طفولياً، عند عودة التيار (مدفوع الأجر) وتنبض الحياة في المعدات الكهربائية.. ويفرح متى حصل على اسطوانة غاز بأسعار خرافية من نقاط البيع الرسمية أو من السوق الأسود.. ويحكي، بفخر، عن (جهاده) للحصول على كمية من جوالين الجازولين أو البنزين.. وتستمر أفراحه بعد حصوله على دواء منقذ للحياة معدوم في الصيدليات.. وما أكثر السلع الأساسية والمنقذة للحياة المعدومة في السودان!

* لو كانت قحت أتت بأي خبير اقتصادي، يميني أو يساري، ذي رؤى لا تتعارض مع برامج البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، كواقع لا مفر منه، لإختلف أمر المشقة الحياتية، شيئاً ما.. وأضرب مثلاً بتصريح الخبير الاقتصادي د.صدقي كبلو، زميل دراستنا بجامعة الخرطوم، والذي يقول فيه:- “يجب أن نفاوض المؤسسات الدولية من منطلق سيادتنا الوطنية. السودان نفَّذ جميع شروط الصندوق، ويجب أن يحصل على المقابل. أمَّا المواقف التي ترفض التعامل مع المؤسسات الدولية، فغير واقعية”.

* نعم، إن رفض التعامل مع تلك المؤسسات رفض غير مبنيٍّ على الواقع المفروض علينا.. لكن السيادة الوطنية يجب أن توضع في الاعتبار عند أي حوار مع المنظمات الدولية والشركات متعددة الجنسيات.. وليعلم المسئولون أن حاجة السودان المُلِّحة إلى الدول الرأسمالية للعون الاقتصادي تقابلها حاجة تلك الدول إلى السودان من الناحية الجيوسياسية المميزة التي يتمتع بها وتنافس الدول الكبرى على تثبيت أقدامها لإحتواء ما فيه من خيرات في باطن الأرض وعلى ظهرها.. فلا داعي لإظهار الضعف ب(الكبكبة) أمام الدول والمنظمات الدولية والمؤسسات الدولية والشركات متعددة الجنسية..

يبدو أن إظهار ذاك الضعف هو ما جعل من السودان ‘صيدة سهلة’ لبرامج البنك الدولي .. وسوف يكون ‘صيدة سهلة’ أمام المنظمات الدولية الأخرى التي أشار د.صدقي كبلو إلى التفاوض معها من منطلق سيادتنا الوطنية لتلافي سلبيات لا يمكن تفاديها إلا بالتفاوض، بل والتفاوض بثقة تبلغ مستوى تفاوض الند للند، دون انكسار!

كفاية انكسار، من فضلكم!

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..