مقالات سياسية

اما البعير و اما الفقير …

مهدي رابح

*و لفظ الفقير و جمعها فقرا المذكورة اعلاه المقصود بها هو اللقب الدارجي الذي يطلق علي من علا شانه من زعماء التصوف في السودان و الذي قد تنسب اليه احيانا افعالا خارقة للطبيعة.

رغم ان مقولة الشيخ فرح ود تكتوك التي دبجت بها عنوان هذه الخاطرة، ذكرت في سياق الفعل الايجابي و اعلاء قيم العمل و الكدح ، الذي ميز حياة هذه الشخصية الفذة و الملهمة في تاريخ و ثقافة السودان ، الا انها ، اي الحكمة أو المقولة ، في تقديري المتواضع كان مصيرها الحزين ان تتمركز عميقا كقطعة مميزة من فسيفساء الوعي الجمعي ، لكن و للأسف الشديد في موقع يتماهى مع مقولات ود ابزهانة المأثورة و التي حثت و ما زالت علي الدّعة و الرضوخ و الاستكانة في انتظار أن تزول التحدّيات و المشكلات المختلفة ذاتيا او بفعل ما, ربما تخبّئه مقبل الأيام بدلا عن بذل الجهد , الكفاح و المبادرة .

و رغم ان القصة قد تكون معروفة للكثيرين ، لكن لا مناص من ايرادها بإيجاز اتمناه غير مخل … حتي يستقيم المعني لمن لم يسعفه حظه الاطلاع عليها بتفاصيلها الكاملة من قبل .

فقد ذكر الباحث الكبير الاستاذ الطيب محمد الطيب في كتابه ( الشيخ فرح ود تكتوك حلال المشبوك ) ، ان قبيلة الشكرية اهدت الامير أونسة , عاهل السلطنة الزرقاء , جملا اصيلا اعجب به حد الهوس , فكان يطعمه اللحم و التمر و يسقيه اللبن ,و ذات ليلة بهيجة , امسي و ندمائه يعددون كرامات الاولياء و الفقرا العجيبة المذهلة , بين سير فوق سطح ماء النيل و طيران في الهواء … الي اخر الاساطير المتداولة في تلك الحقبة من القرن السابع عشر الميلادي , مدفوعا بما ذكر له من خوارق اعمال , خطرت للأمير حينها فكرة تتمثل في أن يجترح الفقرا معجزة مماثلة و ان يشرعوا في تعليم الجمل العزيز الكلام و القراءة و الكتابة .

في اليوم التالي استجاب المقدم (*و هو بمثابة وزير) و جمع الفقرا في القصر و ابلغهم اوامر سيده , وان يردوا عليه في مهلة اقصاها يومين و الا نزل عليهم العقاب الشديد القاسي .

للخروج من هذه الورطة لم يجد الفقرا بدا من اللجوء الي الشيخ فرح ( فقير الترابلة و الرواعيّة , أي المزارعين و الرعاة ) , و الذي لبى النداء دون تردد و حضر مع الجمع . و حين سئل عن كيف سينفذ الأمر الاميري طلب مهلة اربعة سنوات مبررا الأمر بان هذه المدة هي ما يحتاجها لتعليم بشر ناهيك عن حيوان .. وافق الامير مضطرا بعد ان حوصر بمنطق الشيخ السليم , و ترك الجمل في عهدته مصحوبا بمؤونة كافية و خدم . و حين انفرد به الفقرا قلقين و متسائلين , رد عليهم الشيخ مرددا مقولته الشهيرة :

(تمضي هذه السنوات الأربع و ينفذ القدر , اما في الأمير , اما في البعير و اما في الفقير …)

و بالفعل توفي الأمير اونسة قبل انقضاء المهلة المتّفق عليها .

و المعني الحقيقي لقصة الشيخ كما وضح من السرد السابق, و بعكس المفهوم السائد الداعي للاستسلام في انتظار القدر , هو امكانية اجتراح حلول لمعضلات قد تبدو مستعصية تماما ، و ذلك بقراءة الواقع قراءة صحيحة و استشراف المستقبل و من ثم ابتداع مخرج لم يكن يخطر على بال من لا يتمتعون بسعة كافية من الخيال …. و هذا الحل العبقري هو ما دفع الناس لاحقا لخلع لقب( حلال المشبوك ) علي الشيخ فرح عن جدارة و استحقاق .

ما شدني لهذه الحكمة بجانب فكاهتها و التناقض السافر بين معناها الحقيقي و المفهوم السائد هو التقاطع الكبير بين القصة مع الواقع السياسي و الاقتصادي الحالي في البلاد.

فالبعير ، و رغم تفوقه علي كثير من المخلوقات ، و تطوره الفيزيولوجي الباهر و مقدراته الفريدة مقارنة بحيوانات اخري ، و اذا وضعنا جانبا تعقيدات تحليل مقدراته الذهنية و الجسدية بصورة علمية و ركنّا فقط الي المنهج التجريبي البسيط ، سنصل الي محصلة انه ، و حسب احتكاكنا بهذا النوع من الكائنات طوال الاف السنوات التي قضيناها نحن ال( Homo Sapiens) علي ظهر كوكبنا الازرق الصغير ، لا يمكن ان ننتوقع منه اي نتاج معرفي او فعل ادراكي يشبه ما استطعنا نحن بنو البشر تطويره لغة منطوقة كانت ام مرمّزة كتابة بحروف … مهما ابتدعنا من العجائب.

و هنا بطبيعة الحال ، و بعين المنهج التجريبي ينطبق الأمر تماما علي تجربة نظام حكم ، ظل يحتكر بحد السيف المسلط علي الرقاب السلطة في دولة اسمها السودان ما يقارب الثلاث عقود و التي تمثل نصف عمرها القصير و الحزين .فمهما اجترح الفقرا من معجزات من الاستحالة ان تتحول هذه المنظومة السلطوية الي منظومة راشدة ,خيرة و منتجة , لأن العجز هو سمة في تكوينها الأولي التأسيسي ,الذي لن يستطيع احد تغييره مهما بلغ من قدرات خارقة , تشهد بذلك الأزمات المتلاحقة و التي تمسك بعضها برقاب بعض و نحن علي اعتاب العام الثلاثين من الحكم الجائر.

و لتوضيح وجهة النظر هذه دعونا نستشهد و نقارن بتجربة ناجحة لحكم راشد استطاع خلال فترة بلغت ثلثي عهد حكم الإنقاذ , نقل بلاد تشبه السودان كثيرا في تنوعها الاثني و الديني (18 ديانة بالتحديد) و ظرفها الاقتصادي المتدهور في بداية حكمها الي افاق الدول القوية و المتقدمة , و هنا نقصد دولة ماليزيا ..

فقد تسلم الدكتور مهاتير محمد ( و الذي ينسب تزلفا و نفاقا للفكر الأسلاموي ) الحكم في عام 1981 و ابتدره بالحفاظ علي اركان الدولة المدنية المبنية علي اسس المواطنة و الحرية و الديموقراطية (في اطار دولة ملكية انتخابية دستورية فيدرالية) ثم شرع في وضع خطة مدروسة ,علمية, واقعية ادت به الي تبني الانفتاح علي العالم , بدلا عن العمل دون تخطيط و تبني الانغلاق الذي لا بد ان يؤدي ال العزلة و الحسرة , ثم جعل مهاتير تطوير التعليم من اوليات برنامج حكومته و استقطع نسبة كبيرة من الميزانية تقارب ال 25% لهذا الغرض بدلا من تقليص ميزانيته و تدميره بالخصخصة و التعريب و التوسعة غير المنهجية , حارب مهاتير الفساد و ملا السجون بالمفسدين بينما انطلق سرطان الفساد ينهش في كل اوصال السودان حتي ارتبطت صفته عضويا بكل ما يمت للدولة بصلة , قاد ثورة زراعية و صناعية جعلت ماليزيا في مصاف الدول التي يحتذى بها ,بينما في عهد الأنقاذ دمرت مشروعات كبيرة كانت ترفد ميزانية الدولة بالعملة الصعبة و هرب اصحاب الصناعات الي دول مجاورة … تبني مهاتير مبدأ تضخيم و توسيع الثروة ( الكعكة) لتحقيق الوحدة الوطنية بدلا من تشريد الألاف بدعوي الصالح العام و وضع اصحاب الولاء مكان من يملك التأهيل و القدرة و النزاهة و العمل علي تمزيق النسيج الاجتماعي بأعلاء القبلية و الجهوية علي المواطنة و الاستحقاق .

حين سلم مهاتير السلطة في عام 2003 طائعا مختارا , و الأهم من ذلك مرضيا عنه و محبوبا من شعبه , دون تعديل الدستور لتمديد حكمه الناجح سنوات اخري, كان متوسط دخل الفرد السنوي قد قفز من 350 دولار الي ال 8,000 دولار , أي 23 ضعفا بالتحديد ..و الاحتياطي النقدي تصاعد من 3 مليارات إلى 98 ملياراً، و وصل حجم الصادرات إلى 200 مليار دولار, و تقلصت نسبة من يعيشون تحت خط الفقر من 70% الي 5%,و البطالة من 10 الي 4% و الأمية من 47 الي 10% .

بينما و نحن في خضم مناورات تمديد الحكم العضوض الي ما لا نهاية يقبع السودان في ذيل قوائم المؤشرات العالمية , من اكثر 10 دول فسادا ,و رقم 7 في سوء التغذية, 155 في مؤشر الأمن و السلام , 166 التعليم, 171 التنمية, 174 حرية الصحافة,176 حكم القانون, اكثر من 46% من المواطنين يعيشون تحت خط الفقر المدقع ,… الي اخر الخيبات التي لا تحصي.

هل يكفي هذا المنطق لأقناع من ينتظر تحت ظل الصبر الزائف و اللامبالاة حتي ينطق البعير ..؟

او كما قال السيد المنسدح حمد المنسدح و المعروف بود اب زهانة :
(اكان كترت عليك الهموم اتدمدم و نوم ,و الصبر ضل النبي ) …

“ملحوظة اخيرة : بعيد كتابة هذا المقال وردت الاخبار المدهشة بفوز تحالف الاحزاب المعارضة في الانتخابات، بقيادة مهاتير ضد الحزب الحاكم ( حزب مهاتير السابق) ناشيونال باراسيان ، و السبب كما صرح به هو ان القيادة الحاكمة بزعامة ربيبه و خلفته رئيس الوزراء نجيب رزاق فاسدة و إن ترك امر البلاد في يدهم فسيلقون بها للكلاب ..!
الم يسمع مهاتير بقوانين التحلل ؟
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..