سيجارة

سيجارة
مهدي يوسف إبراهيم
كعادتي غادرتُ شقتي مبكراً صباح اليوم…. بدأت الدُّغْشَةُ تتراجعُ قليلاً أمام مواكبِ النور … عبرتُ الطريق إلى حيث تربضُ سيارتي قبالة متجرٍ ما … وقفتُ قربها متكاسلاً لدقيقةٍ دونما سببٍ معلوم.. فجأةً باغتني صوتٌ بدا وكأنه خرج من اللا مكان …” يا أخ ” …التفتُ، وعلى أضواءِ المصابيح البعيدة رأيتُ شاباً متوسط القامة والحجم. ، رأسُه أصلع كما بيضة دجاجة …له ساقٌ خشبية ويتوكأ على عكازة.. وقبل أن أرد سألني في عشمٍ لا متناهٍ ” ألاقي عندك سيجارة؟” .. ثم أردف سريعاً وكأنه يخشى أن أجيبه بالرفض ” سيجارة ضروري الله يرحم والديك.” … تحوّلت كلُ تفاصيل وجهه إلى عيون تعلقت بشفتيّ … قلتُ له معتذراً ” عفواً …ما بدخّن ” … ثم فتحتُ باب سيارتي و دلفتُ إلى داخلها …أدرتُ الماكينة و قررتُ انتظر لدقائق ريثما تدبّ فيها الحياةُ …نظرتُ يساري فوجدتُ الشاب يقترب ُمن رجلٍ ملتحي بدا أنه قدم للتو من المسجد المجاور ” يا أخ سيجارة لو سمحت” …أشاح الأخيرُ بوجهه دون أن ينبس ببنت شفة ثم أسرع في طريقه و كأنه يعدو من ذنبٍ يتقصّده ….مرت نصف دقيقة ..ثم رأيتُ صاحبنا يعرجُ إلى منتصف الطريق معترضاً سيارةً جاءت مسرعةً من جهة اليسار …و صاح هو يميلُ إلى الأمام قليلاً لعل صاحب السيارة يراه ” سيجارة لو سمحت ” …جاءني صوته محترقاً بالحنين …و لا أدري لماذا تذكرتُ عناق الجنود العائدين من ساحات الحرب لزوجاتهم بعد غيابٍ طويل … تفاده صاحبُ السيارة و هو يصيحُ ” ابعد من الشارع لا تسويلنا حادث “….لكن صاحبنا وقف في منتصف الطريق في عنادٍ عظيم …بدا لي و كأنه ينتظرُ ساقه الخشبية لا سيجارة ….تصورتُه ممسكاً بها بأصابع مرتعشة …و شفتاه تمتصانها في جوعٍ هائل…و شرايينُه تتواثبُ لاستقبال غيوم الدخان التي يدلفُ بعضها داخل دورته الدموية …بينما يخرجُ البعض الآخرُ من بين فتحي أنفه ببطء …مشكلاً سحائب سرعان ما تتلاشى في الحد الفاصل بين الأشياء و ظلالها ….
انطلقتُ بسيارتي ببطء …و عند الزاوية التي تربطُ شارع الستين الرئيس بالطريق الذي خرجتُ منه أدرتُ رأسي…هناك رأيتُ صاحبنا واقفاً في منتصف الطريق تماماً وهو يرفعُ يده مشيراً للسيارات المارة لعل أحد سائقيها ينفحه بما يريد …. انطلقت في طريقي إلى مقر عملي وقد بدا لي الكونُ كله متكئاً على ساقٍ خشبية ….
لم يغب عني مشهدُ الشاب بقية اليوم …غزت رأسي عشراتً الخواطر المتشابكة كان هو بطلَها: كلُنا له سيجارتُه الخاصة …سيجارةٌ قد تظمأُ لها بيادرٌ الجسد …و قد تهفو لها شفتا الروح …. قد تكونُ امرأةً طاغية الأنوثة ….وقد تكونُ شهادةً علمية…..وقد تكونُ صحةً مفقودة …وقد يكون مالاً وفيراً …و قد تكون سلطةً ونفوذاً ….و قد يكونُ وطناً بعيداً….و قد يكون بيتاً في الآخرة … يسلكُ بعضنُا طرقاً مشروعةً للعثور على سيجارتِه الخاصة … فيخطو كل خطوةٍ و عيناه معلقتان بعرش الرحمن ….ويحرقُ بعضنا آخرته من أجلها …يحرقُها حد مصاهرة الشيطان …و حد اللا عودة إلى ملكوت الغفران ….
نأتي من رحم الغيب ضعفاء دونما حيلة …نأتي بذواكر بيضاء كما حمائم ترفرفُ في سماوات السكينة…..و بقلوب نقية كأمواه المطر … ثم رويداً رويداً تشتدُ أعوادنا.. و تسوّدُ ذواكرُنا و أفئدتُنا ….فيبارز ُبعضنا الله …..يتحداه حدّ قتل النفس التي نفث اللهُ فيها من روحه … قبل أن نرتدَ إلى ضعفنا ثانية …فنُوارى في جوف أمنا الكبرى …وتسيرُ فوق رؤوسنا الأحقاب والأقدام
للمتصوفة في حلقات الذكر سيجارتهم ….يشعلونها من زفرات الوجد و قناديل المحبة …و يضيئون بها دروبهم صوب السماء …
لمرتادي الكنابي سيجارتُهم …يطاردونها في قنانيّ الخمور و جلسات الأنس ….تحفها المعازف و الآهات …و تضئُ لهم طريق العودة إلى بيوتهم في أواخر الليل … متقاربي الخُطى …
للطغاة سيجارتٌهم ….سيجارة ملعونةُ قد تدفعُ أحدهم لتدمير عاصمة بلاده و تهجير ساكنيها و سرقة أموالهم و انتهاك أعراضهم لقاء حكم سنوات تعدُّ على أصابع اليد …سيجارةٌ تعدُّ غالباً في الكليات الحربية …و تُغذّى بمناهج مختلة و رؤى خبيثة …
للخونة سيجارتٌهم …سيجارةٌ تدفعُهم لبيع تواريخ بلدانهم.. وأناشيد نيلها الخالد …و تصفيق أمواجه لأصوات الصيادين.. و روائح شوارع امدرمانها المعطونة في التاريخ …و عبق جسورها …و نداء باعة عاصمتها …و حنو بيوتها فوق أكتاف بعضها البعض …
للمهووسين سيجارتُهم …سيجارةٌ تصوّر لهم أنهم ظلُ الله في الأرض وأنه سبحانه لم يهدِ سواهم …فيستأثرون بالمال والسلطة ..و يقتلون من يعارضهم و يذلون من لا يرى ما يرون …يصبحون فوق القانون و المساءلة …و يصرّون على تحويل لون الوطن و طعمه و رائحته لتصير وفق ما تراه أخيلتهم المريضة …
لكل منّا سيجارته …فأرني سيجارتك ….أقل لك من أنت!!
…….
جدة
[email protected]
قولا واحدا …انت سجارتك …تكاد تقارع سجارة فيدل كاسترو …في رصانة الفكرة والتعبير …اذهب بعيدا في طريقك….شكرا لك
شكراً ليك …
صادق امتناني و تقديري ….
الحبوب، مهدي.
كل عام وانتم بخير.
حتي السيجارة الوطنية المحلية فرت من البلاد… وحلت محلها “الترامادول”.
كان طبيبا شابا، دعاني لشأن يخصه إلى المستشفى الحكومي، رأيته فور دخولي يهرول مع مجموعة من الرجال والنساء يحملون عجوزا نحو غرفة في اخر الرواق. خرج بعد زمن ترافقه طبيبات وممرضات شابات. أشار إلي أن انتظر حتى يأتيني.
بقيت قرابة الخمس ساعات ثم هاتفته ولم يرد. ذهبت لبيتي دونما غضب ووجدت له العذر.
الآن، ها هو أمامي ما يزال نايما في لحاف على الأرض ويده على كيس تمباك كبير في إحدى موانئ المدن النفطية.
خضراء