مملكة القانون

*(الرجال أقوياء بمقدار ما يدافعون عن
فكرة قوية، ويصبحون في حال من العجز منذ
تحولهم إلى معارضتها..).
– سيغموند فرويد –
.. حين مات الملك، أعلن الديوان الملكي الحداد. فارتفعت الأعلام السود في سائر أنحاء المملكة، وحزن من في البلاد من العباد. للحقيقة هم لم يحزنوا، لكن الأوامر والفرمانات الصادرة كانت صارمة بأن كل شخص يضبط متلبساً بوجه منافٍ للحزن لن يحظى بأية رحمة أو شفقة. ذلك أن الحدث جلل، ولا تشهده المملكة إلا في فترات متباعدة. فمن غير المعقول أن تشهد البلاد كل يوم أو شهر أو حتى سنوات موت ملك. وآخر مرّة مات فيها ملك في هذه البلاد كان منذ قرابة الستين عاماً خلت.
امتثل الجميع للأوامر وارتدوا قناع الحزن. حتى إنه لم يجرؤ أحد على خلع هذا القناع أمام أقرب مقريبه خوفاً من وشاية أو نميمة لواش أو بصاص.
بعد انقضاء مدة الحزن، ُتوَّج وليّ العهد ملكاً جديداً على البلاد. فأقيمت الأفراح في جميع المدن والقرى والدساكر. وأيضاً كانت الأوامر صارمة بإعلان البهجة على وجوه جميع المواطنين من مختلف الأعمار والشرائح والطبقات. وُخلِع قناع الحزن القديم، ورُكّب القناع الجديد المليء بالبهجة والانشراح. وأكثر ما كان يخيف بعض الأمهات والآباء أن يبكي لديهم رضيع، لم يتعود بعد على الانصياع للأوامر والتعليمات.
بعد انتهاء الفترة المحددة للأفراح وما رافق ذلك من التهاني والتبريك للملك الجديد والدعاء له بطول العمر وإسباغ كل ما في الكون من صفات حميدة على شخصه المبجل، وما صاحب ذلك من تدبيج قصائد المديح من الشعراء المتكسبين، أقول بعد انتهاء تلك المراسم، فقد أقفل ذلك الملف، لأن جلالته يريد التفرغ لشؤون الرعية وإدارة أحوال المملكة.
في أول جلسة رسمية ضمت الملك مع وزير الميمنة ووزير الميسرة وباقي الوزراء الذين يجلسون حسب الشواغر، وأيضاً بحضور كاتب الضبط، أي رئيس الديوان الملكي، إضافة إلى بعض الأعيان. وبعد أن استقر المجلس، كل في مكانه المرسوم، وكالعادة المتبعة طلب وزير الميمنة من الملك الإذن بالكلام. وبعد الحصول على الإذن فتح الوزير نفسه وقال مخاطباً صاحب الجلالة: جلالتكم كيف تريدون أن تحكموا المملكة؟
صمت الملك هنيهات، ثمّ تفرس في وجوه الحضور، وجهاً وجهاً، ثمّ صمت هنيهات إضافية وقال: أنا لن أحكم البلاد.
ساد صمت، ثم قلق وحيرة وارتباك. فعاد صاحب الميمنة يسأل بخوف ووجل: إذن من سوف يحكم يا صاحب الجلالة؟
قال الملك بهدوء وحزم وثبات: القانون هو من سوف يحكم البلاد، وكلمته هي الأولى في أرجاء المملكة، أما أنا وأنتم فسنكون شهوداً وحماة لهذا الحاكم العادل. أي القانون، الذي لا يفرق بين مواطن وآخر، وكل الرعية لديه سواسية.
حينئذ اغتسل كل من في القاعة بعرقه البارد. واستعاذ بالرحمن من الشيطان. وتيقن أن عهد العز والجاه والتحكم بالعباد وارتكاب الصفقات وتكريس الأموال، كل ذلك ذهب وولىّ. وكل واحد من هذه البطانة الملكية كان يسأل نفسه بعصبية وألم، دون أن يجرؤ على إظهارها: من أين نبق لنا هذا الذي اسمه القانون؟!
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. القانون حقيقة يفرح العامة ويحزن الخاصة
    وكما ذكرت سابقا فان تطبيق العدالة يغنينا عن وجود رئيس ومستشار ووزير وووووو،،،،،،،،،،
    لك التحية أيها اليعقوبابي.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..