ورحل صائغ الفاشر

الرأي24
ورحل صائغ الفاشــر …
المتوكل محمد موسي
نتوقف اليوم عن الإسترسال فى مقالات ممالك فى تاريخ دارفور ، إلا أننا لن نبتعد كثيراً عن أحاديث الملوك والممالك… فمن سنتناوله بالحديث اليوم هو أيضاً أحد ملوك دارفور… فهو ملك مملكة صنعة الذهب فى دارفور عموماً وفى مدينة الفاشر على وجه الخصوص ، إنه الصائغ ورجل الأعمال الأخ إسماعيل عمر ، الذى فُطرت المدينة برحيله الذى أدمى قلبها المثقل أصلاً بالأحزان وصروف الزمان وجائحاته.
يطول الحديث عن الأخ الراحل ، فقد كان من الرعيل الأول لرجال الأعمال و الإستثمار الذين أدخلوا صنعة صياغة الذهب وتشغيله الى مدينة الفاشر مع معلميّه الرائدين الصائغ ألياس شاشاتى والصائغ عبد الرازق التويم .. تلك المدينة التى أحبها وأحب أهلها ، فتجلى حبه لها ، نخوةً وكرماً وحلاوة معشر… لقد جعل من صنعته وحرفته جسراً عبر به الى قلوب أهل المدينة ، فقرائها وأغنيائها على حدٍ سواء ، لا يقصده ذو كربةٍ قط إلا وانقلب إلى أهله مسرورا.. مواقفه الإنسانية لا تُحصى ولا تُعد ، فقد آل على نفسه أن يقف معهم فى سرّائهم وضرّائهم… أسهم فى الحركة الوطنية والشأن السياسى بجهدٍ وافر فى مختلف المناسبات الوطنية ، وكان من قادة ثورة أكتوبر المجيدة عام 1964م وقد أُصيب برصاصة فى تلك الأحداث كادت تودى بحياته .
ولما كان النظام المصرفى آنذاك غير مألوفٍ للعامة من الناس ،كانت الأسر الكريمة فى مدينة الفاشر تتخذ من الذهب محفظةً لإدارة أموالها ومدخراتها فى صورة أشكالٍ مختلفة منه… وعندما يحتاجون إلى الأموال لإستقبال ما يستجد من أمر دنياهم ، فرحاً أو كرهاً ، كانوا يلوذون بهذه المحافظ ، فيهرعون بها إلى سوق الصاغة لإستبدال ما يُقابل إحتياجهم للمال .. فكان الراحل قبلة هؤلاء .. ففى كثيرٍ من الأحيان يحتفظ بالذهب كما هو فى خزنته لايتصرف فيه ويشير إليهم بأنهم عندما يحصلون على المال يمكنهم إسترداد ذهبهم ، وفى أحيانٍ أخرى يسلم صاحب الذهب المال الذى يحتاجه ويرد إليه الذهب الذى جاء لإستبداله على أن يُعيد المال إذا تحسنت ظروفه ، هكذا كان إسماعيل رفيقاً بأهله وعشيرته من أهل الفاشر ولذا أحبوه ، وقد كان رحيله إستفتاءً كاسحاً للمحبة التى يكنونها له ، فقد هرع العشرات من أهل الفاشر لتوديعه فى مقابر احمد شرفى فى أمدرمان وكانوا يعزون بعضهم البعض بإعتبار أن فقده الجلل فقدٌ لهم جميعاً ، فقد كان إسمه بسمةً فى شفاههم وذا موضعٍ فى قلوبهم ، عمرت المدينة إقتصادياً وإجتماعياً بجهوده مع آخرين لهم قصب السبق فى تشكيل حاضر المدينة اليوم وما رسخ فى أذهان زوارها والمنتقلين إليها من أقاليم السودان الأخرى عن طيبة أهل الفاشر وكرمهم ودماثة خُلقهم.
ولعّل لين عريكته وخفضه جناح الذل لأهله وأفراد مجتمعه مصدرها شخصيته المسالمة والمتصالحة مع ذاتها ، فقد كانت إحدى مميزاته الأناقة اللافتة فى المظهر والمسلك ، إذ كان ذو حسٍ مرهفٍ وطبيعةٍ تُعبر عن ذاك الإنسانٍ الفنانٍ الذوّاق الذى يقبع فى داخله .. كان يقتنى العصافير النادرة ويضعها فى أقفاصٍ متعددة فى فناء منزله وسط أشجار الفاكهة والزهور والورود الأكثر ندرةً .. فعندما تزور منزله تجد نفسك وسط حديقةٍ غنّاء وارفة الظلال تسمع فيها شقشقة العصافير وغنائها الطروب.. كانت لديه أيضاً هواية فى إقتناء الكلاب المميزة خاصة كلاب الصيد.. كنا ونحن صغار نتحين الفرص لزيارة منزله والإستمتاع بهذه الروضة الغناء والتملى نظراً فى عصافيره المدللة التى كان يطعمها الفاكهة وخاصة برتقال جبل مرة أبو صرة.. نُعزى أهل دارفور فى مصابهم الجلل ونخص أهل مدينة الفاشر التى كرّس لها الراحل جل وقته ، باراً بهم ومحسناً إليهم .. سائلين المولى عزّ وجل أن ينزله مُنزل صدقٍ فى عليين مع الشهداء والصديقين.
* لقد مضى أكثر من عام على مايُسمى إستراتيجيه دارفور التى ابتدعتها الحكومة لحل أزمة دارفور.. دون أن تُثمر شيئاً حتى الآن رغم الزخم الإعلامى الذى حُظيت به والأقاويل التى قيلت فيها ، ليصدق على الحكومة المثل القائل: أسمع جعجعةً ولا أرى طحناً.. كنا قد نبهنا على أن الحكومة ظلت ومنذ اندلاع الأزمة تنتهج نهجاً متخبطاً فى محاولاتها لحل الأزمة.. وأن هذه الإستراتيجية لاتغدو أكثر من حلقةٍ فى مسلسل الفشل الذى يُلازم نهجها وهى تحاول حل الأزمة ، فهى تهتم فقط بكسب الوقت وإحداث المزيد من الشروخ فوق جدران الأزمة المتصدعة أصلاً ، لقد حوت الإستراتيجية على عدة مرتكزات هى الأمن وعودة النازحين وإحداث نقلة نوعية فى التنمية فى دارفور.. فأى من هذه المرتكزات قد تم تنفيذه؟ ، كنا قد كتبنا عدة مقالات لحظة ميلاد هذه الإستراتيجية وعرضها على الرأى العام ذكرنا فيها مراراً وتكراراً ان أهم الأسباب التى ستجعل هذه الإستراتيجية تفشل فى حل الأزمة أن القائمين على أمرها قد أقصوا الآخرين من الإسهام فى وضعها والتشاور حولها ، وها هم يقصونهم من الإسهام فى تنفيذها رغم علاتها ، الأمر الذى جعلها معزولة وعاجزة عن خلق واقعٍ جديد فى دارفور وقد أثبتت الأيام صدق قولنا هذا ، فهاهو عامٌ يمر ولا يذكرها أحد إلا البعض لماماً ، فى الوقت الذى تراوح فيه الأزمة مكانها .
* أصدر الرئيس عمر البشير يوم الأربعاء 30من مارس الحالى ، مرسوما جمهوريا بإجراء الاستفتاء الإداري لتحديد الوضع الدائم لدارفور ، وقد جاء فى المرسوم أن الوضع الدائم لدارفور يتحدد من خلال استفتاء يجرى في وقت متزامن في ولايات دارفور الثلاث على خيارين إما الإبقاء على الوضع القائم للولايات أو إنشاء إقليم دارفور المكون من ولايات ، وحدد المرسوم المفوضية القومية للانتخابات لتنظيم الاستفتاء والإشراف عليه، وتحديد القواعد والإجراءات المنظمة له.
تقول إتفاقية سلام دارفور فى المادة 6 ( 51 ،52 ، 53 ، 54 وحتى البند 60 ) ما ملخصه : يتحدد الوضع الدائم لدارفور من خلال استفتاء يجري في وقت متزامن في ولايات دارفور الثلاث. وأن يجري الاستفتاء على وضع دارفور في وقت لا يتجاوز اثني عشر شهرا بعد إجراء الانتخابات في دارفور التي سوف تنظم بالتزامن مع الانتخابات الوطنية كما نص على ذلك الدستور القومي الانتقالي، على أن لا يتجاوز ذلك بأي حال شهر يوليو 2010، تقوم مفوضية الانتخابات الوطنية بتنظيم الاستفتاء على وضع دارفور والإشراف عليه. ويحدد قانون الانتخابات الوطنية القواعد والإجراءات المنظمة للاستفتاء. ويخضع الاستفتاء للإشراف الدولي. لتثور فى الذهن عدة أسئلة هل تم دمج الإتفاق من أصله فى الدستور حتى يتم إستنباط القوانين التى تنظم الإستفتاء ، يُفهم من سياق الإتفاق أن الإستفتاء هو آخر فصول تطبيق إتفاق أبوجا التى بعدها يُسدل الستار عليه ، فهل تم تطبيق كل بنود الإتفاق التى يُفترض أن تسبق الإستفتاء ؟ وهل سيخضع الإستفتاء المزمع قيامه للإشراف الدولى كما نص إتفاق أبوجا ، أم أن إتفاق أبوجا ليس معنياً به ؟ وهل حقق الإتفاق الأهداف التى من أجله أُبرم ليُختم بإجراء الإستفتاء ؟ ولعَل ذروة سنام الأسئلة هو هل إتفاق أبوجا من الأصل موجود وسارٍ ؟ فإذا كانت الإجابة بنعم فكيف يكون هناك إتفاق ما.. يسرى وأحد موقعيه قد نفض يديه عنه ، وبصورةٍ أكثر دقة فإن كلا طرفيه قد نفضا أيديهما عنه ؟؟ وهكذا كلما حاولنا قراءة الأمر كلما حاصرتنا الأسئلة التى لانجد لها إجابات شافية .
[email protected]
الصحافة