موبقات العقل الباطن السوداني

مُوبقات العقل الباطن السوداني

جبير بولاد
[email][email protected][/email]

بداية ، لابد من مدخل مفهومي تقريبي للأقتراب من هذا الموضوع ، و لمعالجة هذا المدخل دعونا نستدعي المدخل التقني حول طريقة عمل الكمبيوتر و كما هو معلوم لدينا بطبيعة الحال أن لجهاز الكمبيوتر ذاكرتين أحدهما تدعي بالذاكرة العشوائية و الآخري تدعي الذاكرة الأستدعائية .
الأولي تمثل مخزون ضخم جدا لكل معلومة صغيرة أو كبيرة حواه و سيحويها الكمبيوتر و الآخري تأخذ عند الطلب من المخزون و تقدم المعلومة المراد التعامل معها ، يتم هذا في أتساق و أحيانا يصيب هذا التنظيم خلل ما فلا تتم العملية كما هو مرجو منها . و لكن حتي في هذه الحالة بواسطة الخبرة يتم التوصل لنواة الخلل و العمل علي أصلاحها .
.. كان لآبد من استصحاب هذه المقدمة التقنية للأقتراب من توضيح واقع الحال السوداني في أضداد عقليه الواعي و الباطن .
فالعقل الباطن يمثل الذاكرة المخزونية الهائلة لكل الخبرات و التجارب البشرية ، و يتم التعامل مع أي حدث بواسطة أستدعاء هذه الخبرات للتعامل مع الحالة الماثلة و يقوم بهذه العملية العبقرية الغير مرئية العقل الواعي و هو كما شبهناها أعلاه بتقنية الكمبيوتر مع الفارق الكبير في الحس و الشعور و خصوصية الخلق الأنساني .
..نسوق هذه المقدمة في أطار بحثنا عن جذور المشكلات السودانية ، علي المستوي الثقافي و الأجتماعي و السياسي ، بمعني هل لعقلنا الباطن و خبراته علاقة بمشكلاتنا أم لا ؟؟!
للأجابة علي هذا السؤال ، يجب الأخذ في الأعتبار أن هذا التحليل يمس الشخصية السودانية في كافة أنساقها المختلفة ، المثقف ، النخبوي ، التقليدي ، القواعد ، القيادات ، الرموز، ….الخ .
كثيرا ما يحار المرء في الأختلال الواضح في المواقف و ردود الأفعال لأنُاس مؤثرين جدا في مسيرة الحياة الأجتماعية و الثقافية و السياسية السودانية ،هذا الأختلال الذي لا تستطيع أن تفسره من خلال تتبعك لخطهم الفكري و تحقيقاتهم الأكاديمية و بذلهم للأفكار و الأراء النظرية التي كثيرا ما تتفق معها ، ثم في مفترق محدد ما تأتي مواقفهم غير متسقة البتة مع مسار هذا التتبع الذي كان من المفترض أن يقيهم عند المحن شرور المواقف المخاتلة و الصادمة لكثير من الناس أصدقاء كانوا أم حلفاء .
في أعتقادي أوعبر فرضية هذا المقال تستطيع أن تصل الي أن جل السودانيين يفكرون بعقل و يمارسون بعقل آخر !! نعم ، العقل الواعي فيهم يمثل تقاطعات الوعي مع العالم و النشاط الفكري و النقدي و يحسم الأمور علي المستوي النظري لصالح منطق عقلاني محدد ، يتسق مع الحالة المعينة و لكنه ذات العقل يستند في محنه و كبريات أموره الي عقل باطن حاسم في النهائيات ، يحوي مخزون هائل من المواريث السالبة ، المعطونة في بؤر الخوف و الطمع ، والعُقد و مركبات النقص ليكون في نهاية المطاف هو المسيطر النهائي علي المواقف عبر تاريخ طويل من التنكب و الأخطاء القاتلة .
عقل يباشر معارك فكرية عالية و لكنه عند الهزيمة يستدعي مواريث العقل الباطن السالبة فيتقهقر ليحتمي بالعنصر و القبيلة و الطبقة الأجتماعية . نحن نفكر و نعقلن الثقافة و نشحنها بالمفاهيم المتقدمة من أمثال المساواة و البحث الدائم عن العدالة الأجتماعية و نحميها بجهاز قيمي ضخم من الأمثال و الأغاني علي المستوي الشعبي و لكن في أول منحني تاريخي تبرز سمات مخزون العقل الباطن ضد مكتسبات العقل الواعي ، فتتراجع المفاهيم و تتبدل المواقف و يتم التخلي عن الحلفاء في الموقف و الفكرة أمام سطوة قاع مخزون العقل الباطن و شحنته الأجتماعية التي تبحث عن تمجيد الذات فينا في سياقات الأنا و الأسرة و القبيلة ضد ذات القيم التي جهرنا بها في أزمنة و أمكنة آخري كانت النصرة المجيدة فيها للعقل الواعي في تقاطعاته مع عالم متحضر تقاس فيه المعاني و المقامات بأقترابها من قيم المساواة و الحرية للآخرين و العدالة الأجتماعية و أحترام الآخر ، بل نذهب أبعد من ذلك في الحنث بكل ذلك نصرة لعقلنا الباطني الموجه لمجمل خيبات حياتنا السودانية لنحتكر الفرص التي تميزنا فيما بعد عن الآخرين المشتركين معنا في نفس الوطن و القيم و الوجدان .
..أننا نتحدث كرموز عن تحولات كبري في مفاهيم قواعدنا و لكن لا نريد لهذه القواعد أن تتقدم قيد أنملة ، لأن هذا يهدد مستقبل بقائنا رموز لهم ذات قدسية ، نريد الأحتفاظ بكل هذه المكتسبات لسلالتنا التي نمهد لها الطريق لتخلفنا في طريق “الرمة دون حراس” و لتمشي الهوينا علي رنين أيقاع خطواتنا المخاطلة ، و الماهلة لسرقة أزمنة التاريخ و اجياله من تعيسي الحظ من أبناء الوطن المشترك .
نتحدث عن الأستنارة و لكننا نبث أدخنة الظلام في أول أمتحان لواجبات الأستنارة و مطلبيتها ، نفشل في أن نكون المثال و القدوة و القيمة المعاشة روحا و جسدا و عقلا واعيا يهزم و يهذب و يشذب موبقات الباطن الموازي .
.. نحن أزاء عقلين متضادين ، لم نستطع تغليب المتقدم منهم و المستنير و الحامل لقيم الحداثة و التنوير . أننا نتعلم كنخب أفضل تعليم ، في أرقي الحواضر العالمية و نعود لممارسة دور شيخ القبيلة و الطائفة بكل نرجسية الذات القديمة المنبعثة من عقلنا الباطن الحاوي صغائر الفضائل و المكتنف بتخاليط التاريخ الأجتماعي السوداني ، حيث ظلامات الممارسة و التي تؤدي الي عدم الأعتراف بالقصور و الفشل في أنجاز ثورة ثقافية حقيقية تخرج الوطن من كبواته .
..يظل الحال هكذا الي أن نلتفت حقيقة لفض هذه الأنشوطة العويصة و التي أعقدت العقل السوداني من أنجاز بناء دولة تحوي أمة متجانسة ذات وجدان واحدمشترك يقينا شر التمزق و الحوجة الدائمة و التشرد و التعايش المُر مع كوننا شعب محتقر بين شعوب الأقليم ..أي درك أسفل ساقنا اليه هذا العقل ذو الموبقات العظام ؟!!.
..الي متي يظل عقلنا الواعي أسير و مكبل بسلاسل مخزوننا الباطني الآسن ، الذي يمارس علينا دوما خوفنا من بعضنا ، خوفنا من تبني مواقف جدية في مسار التغيير و أحداث الثورة السودانية الحقيقية ، ليست ثورة تغيير الحاكم في المركز فقط و لكن ثورة التغيير الحقيقي في أنعتاقنا من موبقات العقل الباطن الأجتماعية و الثقافية و السياسية ، لابد من الخلاص منها تلك الموبقات التي آخرت قاطرة التحدث و الحداثة في واقعنا السوداني .نحن لم نكن أبدا ضحية فقط للمؤامرة و المستعمر و أجندة الخارج ، نحن ثمرة طبيعية و منطقية لطريقة تماهينا في مأزق عقلنا الباطن و أملاءته التي تتحكم في وعينا و في أتخاذ قرارتنا الصايبة و ما لم يتم الأعتراف بهذا الأمر و معالجته فلن يبقي جسدا البتة أسمه السودان ليمارس حتي الترنح بين العقلين .
..أخيرا لابد من وقفة متأملة عميقا ، وقفة تنظر للأمام و الخلف ، تنظر للخلف لتري ما قطعنا من شوط و تصحيح خطي هذا الشوط المقطوع بغير تدبر و لا حكمة ، و كذا لابد من نظرة للأمام لنري بعين العقل الواعي ماذا ينتظرنا من خطوات أعقدنا عنها مكوثنا الهزالي في تلك الموبقات من طرائق التفكير و الممارسة .
هذه عبرة مستخلصة من حاضر واهن ، بلغ به الهوان أن نظام كامل يتداعي أمام أعيننا ، بعد أن جرد الوطن من أي فضيلة و بعد هذا ما يزال يترنح في خشبة المسرح السوداني و الكل حضور متفرج يداعب خياله بأهازيج المخزون الباطني الخائب و يستبعد الحقائق الجديدة علي الأرض لأنه ببساطة أدمن العمل و التحليل من خلال موبقاته التي ما قدمت شبر في تاريخنا الحديث ..حقيقة ما أكثر العبر و ما أقل الأعتبار .

تعليق واحد

  1. مقال رائع وذكى يشخص بوضوح وعلمية داء السودان, وأعجبتنى كلماتك الهادئة الرصينة فى وصف داء إنفصام الشخصية السودانية, رغم فداحة نتائجة علينا, وأدهشنى عدم تفاعل قراء الراكوبة مع هذا المقال الهادف, ولا أجد تفسيراً لذلك سوى أن المقال تعرية للذات السودانية بموضوعية ودون شطط, ونقد الذات هو أكبر “تابو” فى عقلنا الباطن, والذى يصور لنا أنفسنا بأننا خير أمّة أخرجت للناس, فياويلنا من جهلنا..

  2. هذا مقال تشريحى تم فيه اعمال الفكر ، العقل السوداني
    المنحدر بسرعة الصوت ، هذا العقل المرتبط بالسابق والراهن
    السياسي ربط عضوى لم يستبطن سوى الفشل الزريع فى
    باطنه لمدة 56 عاما هى عمر الاستقلال او بالاصح (الاستغلال)
    (فالعقل الباطن يمثل الذاكره المخزونيه الهائله لكل الخبرات والتجارب
    البشريه ) مقتبس من المقال .
    وهذا صحيح بشكل عام ، لكن فى حالتنا السودانيه الاساس
    قام على فشل سياسي تام وبالتالى اذا تم استدعاء اى شى
    من هناك فسيكون الفشل عينه ، – المقدمات الخطأ سوف
    تقود الى نتائج خطا .

  3. (أننا نتحدث كرموز عن تحولات كبرى في مفاهيم قواعدنا ولاكن لانريد لهذه القواعد ان تتقدم قيد أنمله ،لان هذا يهدد مستقبل بقائنا)

    هذا المجتزي من المقال يشخص المحنه السودانيه
    ففشل السودان الدوله تكمن في عجزه عن أنتاج نخب ورموز مستنيره

    فلنخب المستنيره هي عقل مجتمعاتها المناط بها رفعها الى مصاف الفعل الأنساني بعيدآ عن عقلية القطيع
    سنظل ندور في أفكارنا الكريهه هذه حتى تكون لنا نخب تستطيع خلق أفكار تلحقنا بالحضاره الأنسانيه
    مقال جميل العزيز بولاد لاكن وهذا اظن وحد من الأسباب التي جعلة قراء الراكوبه يعزفون عن التفاعل معه انو نخبوي

  4. وفقك الله يا أستاذ بولاد

    تحليل ذكي و عميق، و موضوعي و بسيط في غير نقصان. و لكن ليتنا، كسودانيين، ننتبه إلى أن المشكلة الحقيقية موجودة في بنية وعينا و عقلنا، و ليست في أي شكل من أشكال الحكم أو بنية السياسة! في نظري ليس الإخفاق في كل مناحي الحياة، و السياسة من ضمنها، إلا نتيجة مباشرة للإنحراف الخطير الذي ألم بالعقل السوداني و أنماط تفكيره.

    هذا قد يفسر عدم الإنفعال و التفاعل مع هذا المقال من قراء الراكوبة! فلو كان المقال يدور في فلك الكورة أو الغناء، أو حتى الشأن السياسي العام، لما تمكنا من إكمال قراءة المداخلات، لأن الموضوع سهل و ينسجم مع حالة التخدير التي يعيشها عقلنا السوداني. و لكن حين يكون الكلام (علمياً) و على قدر من نقد الذات، فهذا أمرٌ آخر!

    أكاد أجزم أنه لو أُتيحت لي الفرصة للنظر داخل عقول السواد الأعظم ممن قرأوا هذا المقال فسأجد التعليقات الآتية:

    (موبقات؟!! هو كمان العقل فيهو موبقات؟؟ آخر زمن!!)

    (أها جونا المثقفين ديل للتنظير!! ياخ ما تشوفوا لينا مشاكلنا اليومية دي نحلها كيف!)

    (شبكتنا عقل باطن و عقل ظاهر!! دي مشكلتكم يا أهل الصوفية…..!!!)

    و لكن الكارثة الحقيقية تكمن في النوع التالي من التعليقات:

    (هذا العقل السوداني الذي تتحدث عنه قد أنجب مثقفين و مفكرين من أمثال الطيب صالح و محمد أحمد المحجوب و غيرهم ممن شهدت الأمم على عبقريتهم. من أنت حتى تحكم على هؤلاء؟!!)

    و هكذا، في دائرة شيطانية مفرغة، نتيجتها نراها رأي العين اليوم في تفتت البلاد و ذهاب أمر العباد، و لكن لا يوجد من يستوعب العلاقة المباشرة بين ما قيل في هذا المقال و ما يحدث من كوارث على الأرض!

  5. الحق يقال مقال في غاية الروعة والابداع واعتقد ان قراء الراكوبة قد دهشوا من هذاالطرح وبساطته لدرجة جعلتهم عاجزون عن التعليق عليه لانه ببساطة تشخيص واعي للمشكل السوداني والعقلية الرجعية التي حارب البعض بكل الوسائل للحفاظ عليها فقط لتحقيق مصالح ذاتية . ولان المورث السوداني الذي اطلق عليه الكاتب العقل الباطن يحتاج فعلا لمراجعة وتمحيص بل وعلاج حتى نتمكن من العودة لجادة الطريق ومحاولة اللاحاق بركب الامم . لان تأخرنا مع كل هذه الامكانات المادية لم يكن وليد الصدفة.

  6. صديقنا العملاق ..
    جبير بولاد..
    الأخوات والاخوان
    تحية الشوق الممدود,,,,
    لقد تطرقت أخي العزيز لموضوع في غاية الأهمية والخطورة ..وأعتقد الاستنارة وحدها..هي التي قادتك إلى ( الطريق غير المطروق ) فيما تعانيه المفردة السودانية من معضلة شائكة وإشكالية متفاقمة أقعدتها عن النمو والتطور الطبيعي الذي هو حق وجودي للكائن البشري .. بيد أن ما أسميته ( موبقات العقل الباطن السوداني ) استطاع ان يتلاعب بذات المفردة السودانية ويقيد من حركتها التقدمية المفترضة , بعد ان غيب سؤال المعرفة الأول: لماذا ؟! فأصبحت الحالة السائدة هي حالة الغياب وعدم الشعور بالضدية والتناقض في القول والعمل , والخلل البائن في الأولويات , وسوء التقدير , وعدم المبالاة عند حلول الطوام العظام , فآلة الحرب التي يقودها أفراد حصدت مئات الآلاف من مستضعفي هذا الشعب.. ومن لم يشارك فلا يبالي بغير داء الصمت ! والوطن عينه تمزق وأنقسم كأنه لم يكن , كل ذلك لم يحرك ساكن تلك المفردة المغيبة المقيدة بتلك الموبقات…
    هذا بالطبع يجعل الحالة التي قام المقال وبإيجاده تامة بفضحها وكشف الغطاء عنها ليست بحالة طارئة ومحدودة , وإنما حالة أصيلة متفشية وممتدة داخل أروقة المفردة السودانية المكبلة بذات الركام من الموبقات !!
    الموضوع كبير لا تكفيه هذه العجالة …
    مع مودتي
    محترق القصيم

  7. مقال جيّد ..
    ولكنّ تسليط عين الوعى على غياهب العقل اللّاواعى أو “اللّاملحوظ” هو أشبه بنكش عُشّ الدّبابير، بل هى أخطر من ذلك بكثير، إنّها المُفاصلة بين الوعى الفردى والوعى الجمعى، حيث ﻻوجود حقيقيّاً للوعى الجمعى إﻻّ فى عقل الفرد، وهى بداية التّحرّر الفعلى للكائن البشرى باتّجاه تحقيقه للهدف من وجوده، أمّا التّحوّل فى العلاقة بين الوعى الجمعى والوعى الفردى فﻻ يحدث بشكلٍ “ثورى” لدى مجموعات كبيرة من البشر فى المُجتمع الواحد، وإنّما يحدث بشكل “تطوّرى” لدى أفراد يزداد عددهم مع مرور الوقت، وهو ما أراه يحدُث اﻵن بين الشّباب فى مُجتمعات عُرفت بالتّمسُّك بما لم يعُد مُمكناً التّمسّك به من الموروثات.

  8. هذا تحليل للشخصيه السودانيه جدير بالتامل واهديه اولا للنخب السودانيه لنتجاوز مرحله الاحباط وانتظار المجهول من جهه وجلد الذات فى الجهه الاخرى لان الاشكال فى اعتقادى ينطلق من مكنون الذات وتربيتها وليس من اللون او الدين للزين يتحجرون فى ازمه مفتعله باسم اللون او تمظهر متخلف وانتهازى لفوبيه باسم الدين

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..