نحو دولة مدنية حديثة

مما لا شك فيه أن أمتنا العربية والإسلامية تمتلك رصيد معرفي عملاق من منتوجها الثقافي والفكري والوجداني مما تنوء بحمله الجبال وما يعجز نخبتنا المثقفة (من أقصى اليمين إلي أقصي اليسار)عن إبرازه وتبيان جماليات ما إحتواه لتكون عوامل بناء في مشروع النهضة الشاملة التي ننشدها، بيد أن النخبة المثقفة بما تحمله من أيدلوجيات متباينة لا يضاهي منتوجها الثقافي والفكري ذلك الرصيد المعرفي الموروث كما أنه يقتصر على التنظير ومحاكاة الغرب فلم يكتسب تنظيرها تجربة علمية عملية ذاتية تستوفي شروط النهوض العلمي وترسي قيما للتقويم والمراجعة تمكننا من إصلاح المسير و الإنتصار لقيم الحق والجمال. ورغما عن إقتصار تجربة النخبة المثقفة في التنظير فقط إلا أنها نصبت من نفسها حارسا أمينا علي موروثاتنا الثقافية والإجتماعية وإستعلت علي الجماهير العريضة فلم تشركها في مشروعها الوطني الهادف للتنمية المستدامة والسلام.
وحتي لا نظلم النخب المثقفة في بلداننا العربية فإن هنالك جملة من العوامل المتعددة التي أثرت إيجابا لصالح عزلها عن قواعدها وإبعادها عن مراكز إتخاذ القرار ودوائرالتأثير المعرفي في البناء وتنمية القدرات وإزدهار الثقافة والفكر مما ألجمنا بلجام الإنحطاط والتخلف عن ركب الحضارة الإنسانية المعاصرة التي تفوقت علينا في كل شئ التعليم والصحة ومستوي دخل الفرد الخ.
أولا: أهم هذه العوامل وأخطرها المؤسسات العسكرية ففي كل بلدان الدنيا وُجدت الجيوش لحماية الأوطان وتأمين ثغورها وبقية واجباتها وطرق تدريبها معروفة ومدروسة فهي قوات تتحلى بالضبط والربط والكفاءة للقيام بما أوكل إليها من مهام غير أن الجيوش في بلداننا ولأسباب غير مقنعة تتعاطي السياسة وتخوض معركة إدارة الشأن العام وهي بذلك تهدم من حيث تدري أو لا تدري عوامل البناء والنهوض لأن السياسة فعل بشري يهدف لقيادة الأوطان قيادة رشيدة وحكيمة وهذا لا يتأتى إلا في جو معافى من الحرية والأمان.
ولئن كان تدخل العسكريين في الشأن العام مرفوض أولا لتأثير ذلك علي الآداء المهني للدور المنوط بهم فإنه مرفوض ثانيا لأنه يكرس للشمولية وحكم الفرد فيضيق علي الحرية ويحتكر الإعلام ومؤسسات الإنتاج الثقافي والفكري.
فالجيوش عندما تعتلي عروش الحكم تسمي عملية إغتصابها للسلطة ثورة وتستمد مشروعيتها من هذه الثورة لتعتقل الخصوم والمخالفين في الراى وتحارب الأصلاء من النخب المثقفة المستنيرة التي كان بمقدورها تنزيل علمها وإنتاجها النظري لواقع يثري تجربتنا العملية ويمكننا من أن نخطو خطوات في طريق التنمية والرفاه كما أن التجريب يمكننا كذلك من إيجاد بدائل مناسبة في حالة الإخفاق حتي لا تتوقف مسيرة النهوض.
ثانيا: النخب المثقفة ذات نفسها فمتي ما إستولي العسكر علي السلطة بدلا من أن تحاول الإتصال بالجماهير وتبصيرها من خطورة القادم تنقسم حول نفسها الي ثلاث أقسام فمنهم من يهتف للإنقلابيين لأنهم يحملون شعارات تتناغم مع ما يعتقدون من فكر و أيدلوجية فتستميله السلطة فيصبح عرابها مثل حال(محمد حسنين هيكل مع ناصر والسادات)، ومنهم من يؤثر مبدأ السلامة لنفسه فينزوى في ركن قصي ولا يتعاطي مع الشأن العام ،ومنهم من يختار طريق الكفاح والنضال ضد السلطة الغاشمة فينال أبشع أنواع التعذيب والتنكيل ويتهم بالعمالة وخدمة أجندة الأعداء وقد يفقد حياته في طريق الكفاح المرير ،وما كان ليحدث له كل ذلك لولا حالة الإنفصام التي تعيشها النخب المثقفة عن الجماهير في بلداننا، فالشعوب بطبيعتها لا تبحث عن القيادة ولكن في مسيرتها الثورية تتولد منها قيادة رشيدة تخرجها من حالة الأزمة لحالة الأمن والإستقرارفعلى نخبنا المثقفة الإلتصاق بالجماهير ومخاطبة وجدانها عن كثب لتوقظ ضميرها الجمعي المتطلع للحرية والتنمية المستدامة والسلام.
ثالثا:الشعوب- إن المتأمل والناظر والباحث في تاريخنا الحديث يجد سطور ناصعة تحكي عن الجسارة والكبرياء والشموخ التي تتحلي بها شعوبنا ، فتاريخنا العربي والإسلامي يروي قصصا من البطولات النادرة الحدوث في مجتمعات غير مجتمعاتنا صاحبت حركة التحرر وذلك لما نملكه من رصيد معرفي روحي وفكري خلاق فالشعوب تمتلك إرادة التغييروالقدرة علي إنفاذها خصوصا إذا ما إتصلت بها النخب المثقفة والمستنيرة وتولت أمر قيادتها(كما حدث في إكتوبر)، لكنها تركن وتستكين حينا من الزمن محسوب قرونا من التخلف والإنحطاط ثم تنتفض ثائرة بعد مغالبة أسباب القعود والإنكسار التي مكنتها شمولية العسكر.
ثم تدور دورة الأيام ودولتها علي عروش الظالمين في سرعة رهيبة فتنكشف حقائق الأشياء ونجد أن الأنظمة الشمولية التي تسمي نفسها ثورة(ثورة مايو- ثورة يونيو ?ثورة يوليو ? ثورة الفاتح من سبتمبر) قد تركت تركة مثقلة من الخراب والدمار والفقر والديون الخارجية ونهب الثروات وإيداعها في بنوك الغرب والحروب الأهلية والنزوح والقائمة تطول، نحن في غنى عن كل ذلك لو تواثقنا علي صيانة وحفظ الديمقراطية التي فيها تكون الحرية مكفولة والشورى أوعيتها منصوبة والحوار أعلامه مرفرفة فيزدهر منتوجنا الثقافي والفكري والروحي الهادف للنهوض بالأمة و إعتلاء مكانتها المرموقة المتقدمة في قيادة البشرية.
ختاما لا يمكننا النهوض بمجتمعاتنا العربية إلا بإرساء دعائم الدولة المدنية الحديثة وهي دولة تقوم السلطة بها على الاختيار بالإنتخاب والشورى ، والسلطان فيها أجير للشعب، ومن حق الشعب ـ أن يحاسبه ويراقبه، ويقَوِّم إعوجاجه كما يجوز إسقاطه بسحب الثقة منه وإختيار غيره من أهل الكفاءة والإقتدار،إن الشمولية العسكرية غيبت شعوبها في غياهب الجهل والخمول والعطالة وأورثها تجربة مسخنة بالجراحات العميقة ، ولا يمكننا زحزحتها إلا بتوحيد رؤيتنا للمستقبل شعوبا ونخبا مثقفة لكيفية النهوض بأوطاننا وإخراجها من حالتها المأزومة؟ ولنمكن مؤسساتنا المتنوعة وأجهزتنا المختلفة من أن تؤدي دورها بتناقم وتناسق فريد فتدورعجلة الإنتاج زراعة وصناعة وتجارة الخ ويقل الإنفاق علي تأمين السلطة لأن الكل راضون عليها ومراقبون لآدائها بغية التصحيح والتصوب فينصلح الحال وتتحقق الآمال في مشروع النهوض الحضاري المنشود.
أحمد بطران عبد القادر
عزيزي أحمد مطران: لم أقرأ المقال حتي الان… لكن استفزتني كلمة حديثة في العنوان…
أنوه سعادتكم بأننا حاليا في فترة ما بعد الحداثة… و أن الحداثة نفسها لم تعرف الا في اطار نقدها… و أنه ليس بالضرورة للدولة المدنية أن تكون حديثة… و حتي تعم الفائدة يمكنك مراجعة النظرية النقدية… و لك العتبي حتي ترضي…
عموما حتي الدولة الدينية أو الاسلامية يمكن أن تكون حديثة… لأن للحداثة أوجه كثيرة و ليس لها وجه واحد…