مبارزة بين البرهان وحميدتي في الخرطوم وسط قوى محلية وإقليمية ودولية تتنافس على مستقبل السودان

مرة أخرى يفشل الفرقاء في السودان بتوقيع اتفاق يقود إلى نقل السلطة من العسكر إلى المدنيين، وسط دعوات القوى المدنية والأطراف التي عارضت آخر اتفاق مع العسكر إلى التظاهر والاحتجاج.
وكان من المتوقع توقيع اتفاق يقود إلى نقل السلطة لقوى الحرية والتغيير التي تمثل المدنيين وبوساطة دولية، كما نص عليه الاتفاق الموقع في كانون الأول/ديسمبر وتعهد فيه العسكر العودة إلى ثكناتهم والتوقف عن التدخل بالسياسة وتركها للمدنيين، وهو ما برز في تصريحات قائد الانقلاب الجنرال عبد الفتاح البرهان في الآونة الأخيرة.
إلا أن بيان قوى الحرية والتغيير أرجع تأخر التوقيع في 1 نيسان/ابريل «للنقاشات داخل الجيش». وجاء فيه أن عمليات تغيير بنية الجيش أحدثت تقدما لكنها لم تتم. ولم تشر قوى الحرية إلى موعد توقيع الاتفاق الجديد. وفشل العسكر وممثلو المدنيين في اللقاء مرتين من أجل توقيع اتفاق يحتوي على تفاصيل الشراكة في السلطة حيث يتهم الجيش بأنه يستخدم أساليب التأخير. وكما بدا فإن السبب هو الخلاف المتزايد بين قائدي الانقلاب البرهان ونائبه الجنرال محمد حمدان «حميدتي» دقلو حول عمليات دمج القوات الخاصة التابعة للأخير وهي قوات الدعم السريع والمتهمة بقتل المدنيين المعتصمين أمام ثكنات الجيش في الخرطوم حزيران/يونيو 2019 ولم تتحق العدالة فيها للضحايا بعد. فالمشكلة الحالية تدور حول عملية دمج قوات الدعم في مؤسسة الجيش والتي يريدها القادة العسكريون أن تتم على مدى عامين، أما قادة الدعم فيريدونها على مدى عشرة أعوام. وهناك خلافات حول دور القيادة الموحدة للجيش بعد التوحيد. وفي نسخة حصلت عليها وكالة «أسوسيتدبرس» حول التفاصيل التي يتم النقاش حولها، تشير إلى خلق جيش سوداني غير متحزب وبعيد عن السياسة ولا يتدخل في الشؤون المدنية، في وقت يطالب فيه المدافعون عن الديمقراطية بإصلاحات أوسع في مجال القضاء والأمن.
وتساءل المحلل السابق في «سي آي إيه» كاميرون هدسون في تصريحات نقلها عنه موقع «ميدل إيست آي» (6/4/2023) «لماذا التأخير؟ أعتقد انه بسبب القضايا المتعلقة بالإصلاحات في القطاع الأمني والتي تعتبر الأصعب والأكثر استعصاء وتركوها حتى النهاية». وأضاف هدسون أن الموضوع لا يتعلق فقط بالجدول الزمني لدمج قوات الدعم السريع، بل وهناك عدد كبير من القضايا المزعجة وتغطي كل شيء من القيادة والتحكم إلى الرواتب والصفوف والتي لم يبدأ النقاش حولها بعد، كما قال.
وحسب المحللة السودانية خلود خير، مديرة مركز «كونفلونس أدفايزري» في الخرطوم «الإصلاح الأمني هو عملية الانتقال، ولهذا تمت مناقشة الموضوعات الأخرى، مع أنها ليست مهمة، في وقت أصبحت فيه الخلافات الأمنية في مركز الصورة، وتسببت بتأخير» وأضافت أنه منذ رحيل عمر البشير قبل أربعة أعوام، هذا الشهر حاول الجيش تجنب أو تأخير القضايا المهمة من أجل الحفاظ على السلطة. وعلق هدسون أن المواعيد الزمنية التي تم وضعها لم تكن واقعية وظلت عشوائية وبدون جوهر أو أساس «ففي العالم العادي فنحن بعيدون أشهر عن توقيع الصفقة وليس مجرد أيام». ووسط هذه الخلافات يؤكد الوسطاء الدوليون على أن الاتفاق سيوقع منتصف نيسان/إبريل ويشمل على تفاصيل المرحلة الانتقالية بما فيها حكومة مدنية جديدة ودستور.
عملية مجهضة
ومنذ الثورة الشعبية في نيسان/إبريل 2019 التي أطاحت بحكم البشير الذي حكم السودان مدة ثلاثة عقود، كان التحول السوداني نحو الديمقراطية واعدا وإن بطيئا حتى قرر قائد الجيش البرهان ونائبه حميدتي الانقلاب على عملية التحول واتهما القادة المدنيين بالعجز وقاما بانقلاب في تشرين الأول/أكتوبر 2021 ووضعا رئيس الوزراء الانتقالي في حينه عبد الله حمدوك تحت الإقامة الجبرية.
ورد السودانيون على تحرك الجيش بالخروج إلى الشارع في تظاهرات تتحدى الحكم العسكري وتطالب بالعودة إلى الحكم المدني. وردت قوات الأمن بالقمع حيث استخدمت الدوشكا وقنابل الغاز المسيل للدموع لقمع المتظاهرين. ولم يحظ حتى اتفاق العام الأخير بدعم القوى المدنية كلها، ذلك أن حركة المعارضة للعسكر تعرضت للانقسام في الأولويات بين من لا يريدون التعامل مع العسكر أصلا والداعين للحوار معه والتوافق على عملية نقل للسلطة. فاللجان الشعبية مع الحزب الشيوعي السوداني رفضت الصفقة مع الجيش فيما تحاورت قوى الحرية والتغيير معهم. وبالنسبة للجان الشعبية فهناك، ثلاثة خطوط حمراء لا يمكن اجتيازها: لا تفاوض مع العسكر، لا مشاركة مع الجيش في السلطة ولا شرعية للجيش. ونقل «ميدل إيست آي» (30/3/2023) في تقرير لمراسله محمد الأمين عن خالد محمود، عضو لجنة مقاومة شعبية إن الاتفاق لن يحل أي شيء. ويرى المحللون أن المشاكل العالقة كثيرة تجعل من الصعوبة توقيع الاتفاق في منتصف نيسان/ابريل.
خلاف شخصي
والمتفحص للأمور فإن المشكلة ليست في الشارع الذي لا يملك سلاحا سوى الاحتجاج بل بالخلافات بين العسكر أنفسهم، فقد وصل التنافس بين حميدتي والبرهان مرحلة لم يعد يمكن وقفها ويهدد مجمل الوضع الأمني في البلاد. واحتفظ البرهان وحميدتي منذ انقلاب تشرين الأول/أكتوبر 2021 بعلاقة صعبة.
ويعتمد كل منهما على مصادر للثروة والقوة وداعمين دوليين مختلفين. فكقائد للقوات السودانية المسلحة، يسيطر على قاعدة ومجمعات إنتاج عسكرية واسعة ويحظى البرهان بدعم من مصر، والرموز الإسلامية التي كانت في السلطة حتى سقوط البشير. أما حميدتي، فقد كان مرة زعيم ميليشيا الجنجويد، سيئة السمعة والتي لعبت دورا في جرائم دارفور في بداية القرن الحالي، ويسيطر اليوم على مناجم الذهب، فلديه بعض المؤيدين المؤثرين في الإمارات والسعودية. ويدعم الاتفاق الذي لم يوقع بعد، لأنه يحابيه.
ونظرا للخلافات بينهما ففي السودان اليوم سياستان خارجيتان، حيث يلتقي كل منهما بمسؤولين كبار من الحكومات الأجنبية بمن فيها الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل. كما ويستخدم كل منهما التهديد بالمواجهة بين الجيش وقوات الدعم السريع كوسيلة للحصول على تنازلات من المدنيين. ويشكل موضوع الإسلاميين داخل الحكم مجالا للخلاف، ففي الوقت الذي يقول فيه حميدتي إن الموضوع عولج، ينفي البرهان وجودهم داخل صفوف القوات المسلحة. وتظل الخلافات الشخصية بين البرهان وحميدتي ثانوية للمؤسسات التي يمثلانها ومصالحهما الأوسع، كما يقول هدسون، فهذا يصح على البرهان والقوات المسلحة التي يمثلها والتي تؤثر عليها القوى الإسلامية المتشددة والرئيس عبد الفتاح السيسي، رئيس مصر الحليف الأقوى للبرهان.
ويصحو سكان الخرطوم كل يوم على إشارات جديدة عن التوتر بين الجيش وقوات الدعم السريع. وأثارت التطورات قلق البعض من مواجهة مباشرة بين الطرفين.
فقد شهدت الأسابيع الماضية انتشارا كثيفا لقوات الجيش وإجراءات أمنية مشددة وإغلاق ثم فتح للجسور وبناء جدار حول مقرات الجيش في الخرطوم. وأقيمت نقاط تفتيش صارمة في العاصمة ويتم فحص القادمين لمطار العاصمة بدقة. ووسط هذه الأجواء المشحونة، زاد كل طرف من لهجته في محاولة من البرهان وحميدتي الحصول على الدعم الدولي والإقليمي. ففي كانون الثاني/يناير زار البرهان تشاد، ووصل حميدتي في اليوم التالي إلى نفس البلد. وقال حميدتي إنه لم يبلغ عن زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين. وفي شباط/فبراير أرسلت القوات السودانية المسلحة طائرة مساعدات وإغاثة للمنكوبين في زلزال سوريا وتركيا، وبعد أسبوع أرسلت قوات الدعم السريع طائراتها من المساعدات. وعندما دعا البرهان في آذار/مارس إلى دمج قوات الدعم السريع بالجيش، رد حميدتي بالتعبير عن الندم لمشاركته في انقلاب تشرين الأول/أكتوبر مع البرهان. وقادت القوى الغربية إلى جانب السعودية والإمارات وقوى الحرية والتغيير جهودا للتوسط بين الطرفين. وقال دبلوماسي غربي إن عملية الوساطة مستمرة نظرا لعدم اتفاق الطرفين على كيفية دمج قوات الدعم السريع والجدول الزمني لها وأمورا فنية أخرى.
وحسب موقع «ميدل إيست آي» يريد البرهان تشكيل «المجلس الأعلى للجيش» حيث يتيح له عزل حميدتي من منصبه كنائب له. ويشير الموقع إلى أن النزاع الداخلي على السلطة، وجد دعما من التنافس الخارجي بين روسيا والغرب وكذلك مشاركة دول الخليج ومصر. وكشف الموقع عن وجود مرتزقة شركة «فاغنر» في السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى في وقت تم فيه تصدير الذهب من المناجم إلى روسيا لدعم آلة الحرب في أوكرانيا. وقال محلل سياسي إن قوات الدعم السريع تدعم روسيا في السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى أما الجيش فيقف مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية. وقال المحلل إن هذه الدول تعطي أولوية لطرد المرتزقة الروس وشركات الذهب من السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى وليبيا أكثر من اهتمامها بالعملية السياسية. وألقى الجيش القبض على 60 روسيا واتهمهم بتهريب الذهب من ولاية النيل.
وأضاف موقع «ميدل إيست آي» أن عنصرا جديدا دخل على النزاع بين البرهان وحميدتي، باتفاق الجيش السوداني مع حركات دارفور كجزء من مفاوضات رعتها قطر. وضمت الجماعات زعيما سابقا للجنجويد وهو موسى هلال، الذي سجنه منافسه حميدتي عام 2017 وصادر منه مناجم الذهب، في شمال دارفور وأعطاها لزعيم قوات الدعم السريع. وأفرج عن هلال من سجن في الخرطوم في آذار/مارس 2021 وقال متمرد سابق إن الإفراج عنه جاء من أجل الضغط على حميدتي، في وقت نفى فيه الجيش تجنيد مقاتلين من جماعة هلال.
حرب أم ديمقراطية؟
وتساءل مراسل صحيفة «نيويورك تايمز» (6/4/2023) ديكلان وولش عن جنرالين سيطرا على بلد، فهل سيجلبان له المزيد من الحرب أم الديمقراطية؟
وقال إن الجدار في قلب العاصمة الخرطوم خلافا لجدار برلين أو الجدار على الحدود الجنوبية الأمريكية وجدار الفصل الذي بنته إسرائيل في الضفة الغربية، بات يعلم الانقسامات في بلد متشرذم. وعلق أن فترة الحماس التي تبعت خروج البشير من السلطة (الآن في سجن على النيل) وقرار جنرالين السيطرة على السلطة وكفاحهما من أجل تأكيد سلطتهما، تبعتها فترة صراع مر بينهما. وقال إن القوى الغربية كانت تأمل بتسليم السلطة بحلول 11 نيسان/إبريل، في الذكرى الرابعة للإطاحة بالبشير، لكن مشهد الدبابات يوم الأربعاء الذي انتشر على منصات التواصل الإجتماعي قاد للتساؤل عن مسار البلد وما يخطط له الجنرالان، هل الحرب أم السلام؟
وأضاف أن رئيسين ليست فكرة جيدة، وفي السودان كانت كارثة، وما بدأ كنقد خاص بين البرهان وحميدتي قبل عام انفجر إلى نزاع مفتوح، فقد أطلق الرجلان تهديدات مبطنة ضد بعضهما البعض، ويقومان بموضعة قواتهما وسط شائعات مستمرة في الخرطوم والتي يقوم سكانها بمتابعة ما يدور على منصات التواصل الاجتماعي لقياس درجة حرارة العلاقة بين الرجلين التي وصفها دبلوماسي غربي بـ «زواج خال من الحب ويكرهان بعضهما البعض حتى النخاع».
وتبدو العاصمة ساحة لمعسكرين نشر فيه كل واحد جنوده ويتحفز للهجوم، مثل مباراة رياضية تتحول فيها الصرخة لطلقة نار. وعلقت الصحيفة أن انقلاب الجنرالين كلف البلد غاليا، من الدعم الأجنبي وشطب الديون وانقطاع الكهرباء المتكرر وانهيار العملة حيث حمل كومة من العملات النقدية لتشتري وجبة طعام. وأشارت الصحيفة لانتشار الجريمة التي كانت نادرة في العاصمة. وأصبح الجدار رمزا للانقسام داخل الجيش نفسه إن لم يكن بين الجنرالين، فعندما بدأ العمل به قبل عام رأى فيه الثوريون محاولة من الجيش لقتل منجزهم، لكن ليس الآن.
ونقلت الصحيفة عن عبد الرحمن دقلو، أخ حميدتي، ونائبه في قوات الدعم السريع قوله «بنى البرهان الجدار لحماية نفسه» و«لا يهتم بما يحدث في الخارج، ولا يهمه ان احترق البلد». وقال وولش إن حميدتي لا يخفي الآن نواياه لقيادة البلد وهو يصر مع إخوته على أنهم حماة الديمقراطيين والداعمين للانتخابات. وقال «كل ما نفكر به هو حماية الديمقراطية». وتحالف حميدتي مع قوى مدنية اعتبرته في الماضي عدوها، ولكن الكثيرين يرون أن طموحات الجنرال يجب أن تتوقف عند مقبرة جماعية على حافة العاصمة.
مقبرة جماعية
وكشف الباحثون في الموقع المكتشف عام 2020 عن 50 جثة لمحتجين قتلوا عام 2019 في واحدة من أسوأ المجازر في السنين الماضية. وقال شهود إن القتلة هم عناصر الدعم السريع، وقال بعضهم إنهم شاهدوا أخ دقلو في المكان. وأوقف انقلاب 2021 جهود الولايات المتحدة للكشف عن الحقيقة في الموقع حيث استعانت بخبراء أنثروبولوجيين في الفحص الشرعي من الأرجنتين ومشاركة كلية القانون في جامعة كولومبيا لفحص المكان وصلوا عام 2020. وقال طيب العباسي المحامي الذي يقود التحقيق «لا توجد إرادة سياسية» و«هذا هو ثمن الانقلاب». ويرى وولش أن المبارزة بين الجنرالين المتناحرين هما الأبرز وسط مجموعة محيرة من القوى منهم: متمردون وثوريون، إسلاميون وشيوعيون، رجال أعمال وأنصار الرئيس المخلوع، وكلهم يتنافسون على مستقبل السودان، ولا تنسى المصالح الخارجية التي تدعم كل طرف، مصر والإمارات والسعودية، إلى جانب الولايات المتحدة والدول الأوروبية الداعمة للديمقراطية ومواجهة التأثير الروسي.
القدس العربي