اتفاق جوبا : إهمال المنتج الصغير (5 – 8)

صديق الزيلعي
أرسل لي بعض القراء يسألون لماذا التركيز على دارفور والسودان كله مهمش ؟ نعك السودان كله مهمش ومتخلف اقتصاديا ، ولكن هذه المقالات هي محاولة لقراءة موضوعية لاتفاق جوبا . وشرح واقع التخلف في دارفور يساعدنا عندما نناقش نصوص الاتفاق وهل تملك حلا حقيقيا لمشاكل دارفور ؟ .
ناقشنا في المقالات السابقة الخلفية التاريخية لقضية التهميش ، وشرحنا ان منظور قراءة التهميش كواقع جغرافي او أثني هو منظور قاصر . ثم تعرضنا لدور كل الحكومات السابقة في تهميش دارفور. ننتقل اليوم الى جوهر القضية وهي اهمال المنتج الصغير ، وهو المواطن العادي ، الذي يجب ان يكون ما يناله من مكاسب ومن تحسين وضعه هو أساس أداتنا لقياس أي اتفاق ، ولتحديد موقنا منه ، وتقييمنا له.
كتب الدكتور محمد إبراهيم أبو سليم ، في كتابه الفور والأرض ص 51 ، عن أحوال المزارع خلال حكم سلطنات الفور يصف حالهم بهذه العبارات: “هو يكدح وينتج ويبذل عرقا سخيا ، لكن طرفا ضخما من انتاجه يذهب لمن لا يشاركه الإنتاج ، ولا يبذل مثله العرق . فصاحب الأرض وحاكم الإقليم والسلطان وغيرهم ممن يأخذون، يفعلون ذلك دون ان يؤدوا مهمة الإنتاج . لقد اضحى المنتجون في المزرعة والغابة والمرعى مهضومي الحقوق تحت طائلة الشريعة والأعراف والقهر . وتبعا لذلك كان وضع المنتج الزراعي في هذا المجتمع سبئا. وكان العلية الذين يعيشون على انتاجه ، أو بالأصح يعيشون عالة عليه ، في وضع اجتماعي أفضل. وهذا يفسر لنا لماذا ظل المزارع وضيع المكانة . ولماذا كانت الزراعة متخلفة وبدائية في بلادنا ، ولماذا كل الناس ينظرون للعمل اليدوي على انه امر رقيع لا يقوم به الا من هم من الطبقات الدنيا” .
الآن بعد قرون هل تغير حال المنتج الصغير (زراع ورعاة) عن ذلك الحال رغم تغير الأنظمة، والمسميات واشكال الاستغلال والجبابة . فقد احصت احدى الدراسات (التي أجريت خلال سنوات حكم الاسلامويين) 22 نوعا من الرسوم والجبايات والضرائب يدفعها من يقود ماشيته من دارفور الى سوق ام درمان ، وهي تشكل 27% من قيمة الحيوان المصدر . ولم يقف الامر عند الجبايات ، بل تشابهت كل العهود في الإهمال المتعمد لإقليم دارفور ، وحتى المشاريع التي نفذت ، مؤخرا ، تميزت بسوء التخطيط وعدم توفر النظرة الاستراتيجية وقلة الإمكانيات وضعف التنفيذ ، حتى صارت امثلة كلاسيكية على الفشل في تحقيق أهدافها . فقد اكدت الدراسات ان نسبة الفقر في دارفور (حضرها وريفها) قد تجاوزت 90% ، كما ان دخل الفرد هو الأدنى في كل أقاليم السودان.
وكان لسياسات التنمية التابعة دورها في تعميق ازمة دارفور وافقار الأغلبية الساحقة من أهلها ، من خلال توجيه النشاط الاقتصادي لتلبية احتياجات السوق العالمية (خاصة من الثروة الحيوانية) المبني على أساس التبادل غير المتكافئ. وحتى هذه الثروة الحيوانية يتم تصديرها حية ، مما حرم البلاد من القيمة المضافة ، وعطل عملية التراكم الرأسمالي في الإقليم ومن ثم إعادة الاستثمار داخل الإقليم . وقد ساهم في ذلك راس المال التجاري الذي قام بدور الوكيل المحلي المساعد لرأس المال المحلي والاجنبي العامل في التصدير والاستيراد.
وكما ناقشنا في المقالات السابقة ، تعرض الريف السوداني كله من الإهمال المتعمد من كل الحكومات المتعاقبة. وتركيزها على القطاع المروي والزراعة الآلية التجارية. وأدى ذلك الإهمال لقلة ، بل انعدام التمويل ، لمشاريع القطاع التقليدي ، رغم ان الأغلبية الساحقة من سكان السودان تعيش وتعمل في هذا القطاع والذي يساهم في تنويع الصادرات السودانية ويسهم في الناتج القومي الإجمالي.
لعبت الفئات الاجتماعية التي سيطرت على جهاز الدولة ، في اعقاب الاستقلال الوطني ، دورا أساسيا في استغلال وافقار المنتج الصغير في غرب السودان. وسنحاول هنا توضيح دور تلك الفئات على مستويين هامين هما: المستوى المؤسسي ومستوى السياسات.
- في الاطار المؤسسي يتم حصار المنتج الصغير بالتشريعات (التي تصدرها الدولة) والمنحازة (حتى النخاع) لرأس المال وللاستثمار التجاري وتفضله على حساب صغار المزارعين والرعاة، وكأمثلة هنالك:
- قانون الأراضي غير المسجلة لسنة 1970م والذي يعتبر هذه الاراضي غير المسجلة ملكية حكومية ويلغي الحقوق العرفية لاستغلال تلك الأراضي.
- الغاء الإدارة الاهلية في 1970م ، بدون إيجاد بديل ديمقراطي مناسب ، أدى لإضعاف الآلية الرئيسية لحل النزاعات حول الأرض والمرعى على المستوى المحلي.
- قانون التعدي الجنائي لعام 1974 الذي يحد من حقوق الرعاة وصغار المزارعين في الوصول الى أراضي المراعي والزراعة التقليدية.
- قانون الزراعة الآلية لعام 1975 الذي يخول للبيروقراطيين سلطات تخصيص الاف الافدنة للأفراد والشركات بغرض الاستثمار التجاري.
- قانون تشجيع الاستثمار لعام 1990 والذي يحابي المستثمر الأجنبي ويمنحه مئات الالاف من الافدنة (وفي بعض الحالات ملايين) ويتم ذلك على حساب الزراعة التقليدية ومسارات الرحل الموسمية.
- لا يوجد تشريع قومي واحد ينظم الحراك الحيواني وكما ينعدم تماما التخطيط الشامل.
- أما في مجال السياسات ، فمثال واحد يكفي للتعبير عن موقف الحكومات الذي يتحكم فيه من لا يهتم بقضايا المنتج الصغير. أسست شركة الحبوب الزيتية كشركة عامة تعمل في مجال شراء الحبوب الزيتية وتصديرها وتحديد حد أدني للأسعار عند موسم الحصاد. ورغم النقد المبرر والموجه للشركة حول السلطات والمهام والأداء الا انها دعمت المنتج الصغير بقيامها بالشراء المباشر والالتزام بالحد الأدنى للأسعار وهكذا ساعدت في استقرار أسعار الحبوب الزيتية. الا ان الدكتور علي الحاج وزير التجارة في الديمقراطية الثالثة قام بإلغاء امتياز الشركة وإلغاء نظام الحد الأدنى للأسعار مما جعل المنتج الصغير تحت رحمة تجار المحاصيل الذين يشترون بابخس الأسعار في موسم الحصاد ( الفترة التي يكون فيها المنتج الصغير في امس الحاجة للمال). ولم تحرك الأحزاب الحليفة معه في الحكومة ساكنا مما يكشف عن رضاها عن القرار.
بعد هذا العرض للتهميش المؤسسي وعلى مستوي السياسات ، سنحاول عرض حجم الصعاب التي تواجه المنتج الصغير . اخترنا مثال الرعاة لأنهم أكثر فئة منتجة تعرضت للإهمال المتعمد وتركت لوحدها تواجه العديد من الصعاب والمشاكل والعقبات ، نورد هنا بعضا منها:
- استطالت فترات الجفاف مؤخرا مما أرغم الرعاة على إطالة انتشارهم بالقرب من المشاريع ، مما يعرضهم للمشاكل مع أصحاب تلك المشاريع (هناك حالات لتدخل الجيش لحماية المشاريع).
- فلة وتناقص موارد المياه بتأثير الجفاف، وعدم اهتمام الدولة بتوفير مصادر المياه، مما أدى لصراعات حادة حول الموارد المائية الشحيحة.
- التوسع الكبير وغير المدروس في الزراعة الآلية خاصة في الأراضي الطينية.
- انعدام الامن والاثر الكبير للصدامات القبلية في دمار المراعي ومصادر المياه.
- منع منتجو الصمغ العربي الرعاة من الرعي الشجري.
- الآثار الجانبية للصناعة النفطية التي أغلقت المراحيل الموسمية عن طريق شق الطرق وإزالة مساحات من الغطاء الشجري.
- قضية ما يسمى بزرائب الهواء حيث يتم حجز مساحات واسعة من المراعي بغرض استغلال الحشائش الموجودة بها واستخدامها كعلف او بيعها.
- صارت الزيادة الكبيرة في اعداد الحيوانات أكبر من طاقة المراعي، في ظل عدم الاهتمام بتطوير المراعي وتحسينها.
- قلة اهتمام الحكومات بالغابات والاحزمة الشجرية الواقية في ظل زحف صحراوي يبتلع المزيد من الأراضي كل عام.
- عدم وجود نظرة تكاملية تنسق بين الإدارات المختلفة المسئولة عن المياه والمراعي والتنمية الريفية حيث تعمل كل منها لوحدها بالإضافة للتغييرات المستمرة بتبعيتها لهذه الوزارة او تلك ، حيث يتم ( ركنها) ولا تنال التمويل الكافي رغم أهميتها للرعاة.
هذا باختصار ما يواجه الرعاة ، وصعاب مشابهة تواجه المزارعين. لكن اكبر تحدي واجه الرعاة والمزارعين هو التدمير الشامل للبنيات الاساسية (الضعيفة أصلا) جراء حرب الإبادة التي شنتها سلطة الاسلامويين ، وطرد السكان من أراضيهم واستجلاب قبائل من خارج السكان لتحلتها ، ويتم تغيير الطبيعية الديمغرافية للمنطقة.