تغيير الجمهور يقتضي تغيير مستوى الخطاب

عمود : محور اللقيا

تغيير الجمهور يقتضي تغيير مستوى الخطاب

د. عمر بادي
[email protected]

التواصل Mass Communication صار علما قائما بذاته في دول الغرب خاصة في أمريكا , حيث يدرّس في الجامعات كفرع من فروع المعرفة , شأنه في ذلك شأن الإقتصاد و الإجتماع و السياسة و الأدب , و صارت له كلية يتخرج منها الطلبة بدرجة البكالوريوس . التواصل و ليس الإتصالات إن صحت ترجمتي للمصطلح الإنجليزي , يعني فيما يعني التخاطب و العرض و التقديم و الإقناع و الترويج في مجال المؤسسات و الشركات و الأفراد عن طريق الحاسب الآلي و الإنترنت و الإعلام .
الخطاب الجماهيري يدخل في نطاق التواصل , و لديه قاعدة هامة لا بد من مراعاتها و هي : ( تغيير الجمهور يقتضي تغيير مستوى الخطاب ) ! لكي أوضح المعنى سوف أقتبس لكم بعضا مما ورد في أدبنا العربي عن الشاعر العباسي بشار بن برد . قيل أنه كانت له جارية تصنع له الطعام , فأراد أن يقرظها شعرا فقال :
ربابة ربة البيتِ تصب الخل في الزيت
لها عشر دجاجات و ديك حسن الصوت
و كان أن لامه النقاد على شعره ( المبتذل ) هذا و إستنكروه , و أشاروا عليه كيف يقول هذا الشعر و هو القائل :
إذا ما غضبنا غضبة مضرية هتكنا حجاب الشمس أو مطرت دما
إذا ما أعرنا سيدا من قبيلةٍ ذرى منبرٍ صلى علينا و سلما
و كانت إجابة الشاعر بشار : (( أجل , و لكن لكل شيء وجه و موضع ! فالقول الثاني جد , و الأول قلته في ربابة جاريتي , و أنا لا آكل البيض من السوق , و ربابة لها عشر دجاجات و ديك , و هي تجمع لي البيض , فهذا عندها أحسن من : ( قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل ) عندكم )) ! أخرج من إقتباسي هذا بمقولة بشار الواردة ( لكل شيء وجه و موضع ) , و على نفس المعنى أورد المقولة التي يرددها المثقفون : ( لكل مقام مقال ) ! و هذه أراها قد ذكرتني ببيت الشاعر أبي الطيب المتنبي :
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضرٌ كوضع السيف في موضع الندى
و القصد هنا هو التفريق متى تكون الشدة و متى يكون اللين , لأن الخلط في ذلك ضار , و قس على ذلك الخلط في مواضع عدة ..
إن تغيير الموضع أو المقام يحتم عادة تغيير الجمهور . مثلا إذا كان الموضع أو المقام خارج السودان , و الجمهور قد تغير من الجمهور السوداني إلى الجمهور العربي أو الأجنبي , نجد أن وجه المقال أو الخطاب يتغير أيضا من اللغة العربية العامية إلى اللغة العربية الفصحى أو إلى اللغة الأجنبية , و من الإهتمامات الذاتية الضيقة إلى الإهتمامات العامة . اما إذا كان الموضع أو المقام داخل السودان و الجمهور كلهم سودانيون تنوع وجه المقال أو مستوى الخطاب بناء على تغير ذلك الجمهور . مثلا إذا كان الجمهور من الإنتلجنسيا و المثقفين و المستنيرين يكون الخطاب موضوعيا و منطقيا و مخاطبا للعقول . أما إذا كان الجمهور من العامة و الدهماء و محدودي المعرفة يكون الخطاب متحديا و بارزا للعضلات و ( للرجالة ) و مهددا بالويل و الثبور و مخاطبا للعواطف . لقد إستوعب و أجاد الحكام الشموليون مخاطبة العواطف في العامة لأنهم قد إستعاضوا بها عن مخاطبة أهل العقول من المثقفين و المستنيرين الرافضين لهم و لأسلوب إستيلائهم على الحكم بقوة السلاح , و كأنهم بذلك يكسبون شرعية هم في دواخلهم فاقدون لها . لذلك نجد دائما أن الحكام الشموليين يركزون على الإلتقاء بالمواطنين العاديين و حشدهم و مخاطبتهم بما يروق لهؤلاء المواطنين العاديين سماعه من تمجيد للقوة و للشجاعة مع تقديم بعض الوعود الخلبية لهم لتحسين مستوى حياتهم .
هكذا وردت عند القادة الإنقاذيين كل تلك الألفاظ و التعابير الموغلة في العامية و التي يتداولها عادة المتخاصمون من الطبقات الدنيا في صراعاتهم , بينما ( يتفرج ) عليهم الآخرون و ينتشون و يشيدون بمن يكيل السباب أكثر . من منكم لم يسمع بالألفاظ و التعابير ( إياها ) مثل : ( تحت جزمتي ) و ( يموصها و يشرب مويتها ) و ( يلحس كوعه ) و ( اليشرب من البحر ) و ( الضحك شرطهم ) و ( الداير يشيلنا يلاقينا في الشارع ) و ( الزارعنا غير الله اليقلعنا ) و ( قبل ما نجي الشعب كان زي الشحادين ) و ( والله كديس ما نسلمه ليهم ) و ( الحشرة الشعبية ) .. و ما إلى ذلك . المشكلة هنا أن مراسلي وكالات الأنباء و الفضائيات صاروا متواجدين في كل بقاع العالم , و هم عادة ينقلون الخطب الرسمية التي تخاطب العقول في المحافل المختلفة و ليس في ذلك غضاضة , و لكن قد إمتد ظل تلك الوكالات و الفضائيات بواسطة مراسليها النشطاء الذين صاروا ينقلون أيضا تلك الخطب ( الخاصة ) التي تخاطب عواطف جمهورها المنتشي , و إذا تعذر وجود هؤلاء المراسلين النشطاء تم النقل رأسا من القناة السودانية القومية !
هكذا ظهرت على قنوات العالم الفضائية خطب تحتوي على أنواع من المفردات و التعابير شكلت إلتباسا في ترجمتها حرفيا , و بعد الإستعانة بالسودانيين لشرحها , شكلت أسفا و إمتعاضا عند فهمها !

تعليق واحد

  1. قُلِ اللَّـهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..