مقالات وآراء

فهم مغاير لكيفية تطبيق المصطلح القرآني (الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر)!

حسين عبدالجليل
[email protected]

بسم الله الرحمن الرحيم

مما هو معلوم للجميع أن الاديان السماوية تدعو أتباعها للألتزام بنوعين من التدين لايصح أحداهما الا باتباعه بالآخر, و أعني بالنوع الآول  العبادات الشعائرية مثل الصلاة و الصوم والحج (يمكن تسمية ذلك مجازا بالتدين الرأسي , العلاقة بالسماء ,  لكونه علاقة مباشرة بين العبد و ربه  ولاتنعكس ثمراته علي المجتمع) . النوع الثاني من التدين يمكن تسميته مجازا بالتدين الآفقي وهو انعكاس علاقة المتدين بمجتمعه,  وأعني بذلك مدي التزام  و ممارسة المتدين  لكل مكارم الاخلاق العملية التي تدعو لها الاديان السماوية مثل كفالة الايتام , الصدقة ,  الزكاة , أغاثة الملهوف ,اداء الامانة , عدم بخس الناس أشياءهم, و اماطة الاذي عن الطريق !

لاتتناطح عنزتان في أن سبب تخلف المسلمين اليوم يكمن في عدم التزام الغالبية منهم بالنوع الثاني من التدين (الذي أسميته مجازا بالتدين الآفقي) .  “ألأمر بالمعروف و النهي عن المنكر” هو من مصطلحات القرآنية  الشاملة  التي تنتمي للتدين الافقي و اعادة فهمها  فهما معاصرا سيؤدي لبعث جديد للتدين العملي – الأفقي .

لكن عندما   أفكر في مصطلح  “ألامر بالمعروف و النهي عن المنكر”  دوما ماتقفز لذهني الصورة الكاركتيرية لرجال هيئة ألامر بالمعروف و النهي عن المنكر بالسعودية وهم يتجولون في الاسواق بعصيهم و مساويكهم و وجوههم المتجهمة . ربما يكون الحال قد تغير الآن ولكن هذا مابقي في الذاكرة من سنين مضت.

هل هذا هو ماعناه القرآن الكريم في الايات :

“ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك هم الصالحين” .

“كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر”.

“الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر”.

“وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”.

“وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”.

لا أعتقد ذلك .

 ربما يتساءل المرء ويقول ان الدعوة للخير والامر بالمعروف “خشم بيوت” كما نقول في ثقافتنا السودانية.  فما أراه انا معروفا ربما لايوافقني عليه آخرون , ولكنني بعد تمعن شديد أصبحت مقتنعا بأن ماعناه القرآن “بالدعوة للخير و ألامر بالمعروف”  هو ما يسميه المفكر المسيحي سي أس لويس ب “القانون ألاخلاقي”  أو ماكانت تسميه العرب (قبل الاسلام) ب “مكارم الاخلاق”.

يقول سي أس لويس في كتابه Mere Christianity بأن القانون الاخلاقي Moral Law –  تعرفه و تدعو له كل الاديان السماوية و غير السماوية بما فيها أديان الهنود الحمر وسكان استراليا الاصليون وقدماء المصريين . فهذا القانون العالمي يدعو للعدل و نصرة المظلوم و رعاية المستضعفين من الارامل و الايتام و يحترم الصدق و الامانة و يحتقر الكذب و الخيانة ويضيف لويس بأن هذا القانون هو قبس من روح الله في قلب الانسان .

وللأسف نجد أن أصحاب الصوت العالي في الخطاب الديني الأسلامي حاليا قد أبتعدوا كثيرا عن الدعوة لمكارم ألاخلاق و ماينفع الناس و محاربة الفساد في الارض . فمثلا فلو تجولت في بعض اسواق عاصمتنا لوجدت بعض من يسمون أنفسهم بالدعاة يضيعون وقتا وجهدا كبيرا في تبيان مايرونه  ضلالات لبعض أئمة الصوفية , كنوع من أنواع النهي عن المنكر . يخطب ذلك الداعية و حوله في السوق أكوام من القمامة و الذباب و البعوض و المياه الراكدة , وهو لايري اي منكر في تلك القاذورات التي تتسبب في كثير من الامراض و لا يوجه أي أنتقاد لمنكر   المواطنين الذي يلقون القاذورات في الطريق أو  المحليات   التي تجبي رسوم النفايات ولا تقوم بعملها .

يمكننا استنتاج التالي من آيات الامر بالمعروف و النهي عن المنكر :

– رغم أن كل العبادات في الاسلام هي عبادات فردية و مسئولية الحساب يوم القيامة هي مسئؤلية فردية الا أن الامر بالمعروف و النهي عن المنكر هو مسئولية لاتقع علي عاتق الفرد  بالنص القرآني ولكنها مسئولية جماعة من أفراد المجتمع/الامة (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) يقومون بها سويا . أي انها عمل جماعي منظم .

– هذا التكليف ليس قاصرا علي جماعة الرجال ولكنه بالنص القرآني واجب علي جماعة من الرجال و النساء من المؤمنيين (و يشمل ذلك المسلمين و أهل الكتاب)

لن أكون مغاليا ان فهمت بان الآيات القرانية أعلاه تدعو لقيام مجموعة من النشطاء و النشيطات activists لانشاء نوعين من التنظيمات الطوعية:

– تنظيمات تحض (تأمر) علي فعل الخير(المعروف) . يمكن أن يركز كل تنظيم طوعي علي نوع واحد أعمال المعروف كرعاية الايتام  أو مساعدة المعاقين   أو كفالة الطلبة و الطالبات الفقراء …الخ .

– تنظيمات تناهض (تنهي عن) أنواع محددة من الظلم و الباطل(المنكر)   قولا و فعلا. ويخطر لذهني هنا تنظيم طوعي أمريكي يسمي “مشروع البراءة”  سأتناوله لاحقا بالتفصيل .

كما و يمكنني فهم كون أن “ألامر”   و “النهي”    يشملا  الفعل  و الدعوة للفعل- العمل  علي تشكيل رأي عام يساند الامر بالمعروف و ينهي عن المنكر  . (كقوله تعالي “وأمر أهلك بالصلاة و اصطبر عليها ”  – فانت ان لم تكن تؤدي (فعل) صلواتك لما أمكنك أمر(دعوة) اهلك لها .

ربما يشكك متشكك ويقول لو كان هذا هو الفهم الصحيح لمبدأ الامر بالمعروف و النهي عن المنكر , فلماذا لم يعمل به الرعيل الاول من صحابة المصطفي عليه السلام . ولهؤلاء أقول بانه لم توجد آنذاك آلية لتنظيم المشاركة الجماعية الطوعية في مثل هذا الفعل .

ثم أن القرآن الكريم هو نص ثابت ذو فهم متجدد- متطور . ففهمنا بعد أكتشاف أن بصمة الاصبع/البنان هي متفردة لكل انسان منذ خلق آدم وحتي قيام الساعة يجعلنا ننبهر بالآية القرانية “أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ  بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ”  ونفهمها فهما أدق واصح من فهم صحابة المصطفي لنفس الآية . فمن باب أولي اذن أن يتطور الفهم لهذا المبدأ الاسلامي – بالامر بالمعروف و النهي عن المنكر- و ان يستصحب في معيته المقدرة الانسانية المعاصرة  في زمن الانترنت والهاتف الجوال والحريات المتزايدة – علي التنظيم و الحشد والمشاركة في صنع القرار وتشكيل الراي العام.

لنأخذ مثالا لتنظيم أمريكي يقاوم المنكر حسب فهمي المعاصر لكيفية مقاومة المنكر . هذا التنظيم اسمه “مشروع البراءة”  Innocence Project وموقعه علي الانترنت هو http://www.innocenceproject.org/  . هذا التنظيم الطوعي غير الحكومي هدفه هو (العمل علي انقاذ بعض الابرياء الذين يقبعون في السجون الامريكية لسنين طويلة وتمت أدانتهم ظلما بجرائم لم يرتكبوها ) . يقوم مشروع البراءة  بتحمل تكلفة أجراء فحص البصمات الوراثية DNA الباهظ التكاليف لهم وتخصيص محامين مهرة ,  دون اي تكلفة مالية للمساجين الذين هم في الغالب من الفقراء السود – وذلك بغرض اعادة محاكمتهم وتبرئتهم وفق ادلة جديدة يتحصل عليها بعد فحص البصمة الوراثية التي كانت متواجدة في مكان الجريمة,  ذلك لأن البوليس الآمريكي يجمع من مواقع الجرائم ادلة كثيرة تحتوي علي البصمة الوراثية DNA للجاني كعينات من شعره-دمه-سائله المنوي …الح , ويحتفظ بها لفترات طويلة . ويستخدم مشروع البراءة هذه العينات لاخراج الابرياء من السجون .

وقد نجح “مشروع البراءة”  في أخراج مساجين سجنوا ظلما لعشرات السنين . ويمكن قراءة قصص بعضهم المأسوية علي موقع المشروع المذكور أعلا. هؤلاء النشطاء الذين يعملون في هذا المشروع النبيل يقومون باداء فريضة النهي بالفعل و القول معا عن منكر ظلم الابرياء وادنتهم في جرائم بشعة لم يرتكبوها . أشد انواع المنكر هي ظلم الابرياء والحالة الوحيدة التي أجاز فيها القرآن “الجهر بالسوء من القول”  هي للمظلوم و ذلك في قوله تعالي: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما )

الدعوة للخير دوما ماتكون أسهل من مقاومة الشر فالنهي عن المنكر أشد وطاءة  للنفس من ألامر بالمعروف .وفي المجتمعات ذات النظم الدكتاتورية  ربما يفقد المرء حياته بسبب ذلك.  روي أن الخليفة الاموي عبدالملك بن مرون خطب يوما وقال: الله لايأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه .لذا فقد جاء حديث المصطفي ليفسر  للفرد  كيفية المشاركة الجماعية  في النهي عن المنكر و أعني بذلك قوله عليه أفضل الصلاة و السلام (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ).

والتغيير  باليد  لايعني بالضرورة الاستخدام الحرفي لليد اليمني أو اليسري ولكنه يعني “المشاركة العملية في النهي عن المنكر”  ربما تكون هذه المشاركة في شكل تبرع – مساهمة مالية سنوية لتنظيم يقاوم نوع من أنواع المنكر أو الظلم أو بالانخراط في عضوية هذا التنظيم بالجهد و طباعة المنشورات ….الخ .

والمساهمة في أزالة المنكر باللسان تشمل فيما تشمل الكتابة و المدافعة عن مثل هذه التنظيمات . اما مناهضة المنكر بالقلب فهي عدم الخضوع و القبول به  حتي و لو كان ذا سطوة جماهيرية وكان ذلك المنكر هو موضة العصر. 

مما يثلج الصدر , أن هنالك طلائع للفهم الصحيح لهذا المبدأ الاسلامي الهام بدأت في الظهور مؤخرا في سوداننا الحبيب: كشباب شارع الحوداث , و آخرون يقدمون وجبات أفطار مجانية لبض التلاميذ من الاسر الفقيرة و آخرون يستخدمون مواقع الانترنت لتنظيم حملات لكفالة الايتام .

ما أهدف لقوله في هذا المقال  هو الدعوة لاعادة فهم هذا المبدأ الاسلامي الهام وفق التطور الهائل في سبل الاتصال والتنظيم الجماهيري وعدم تركه للسلطات الحاكمة . كل فرد يمكنه أن ينحاز لمجموعة تفعل مايلائم طبعه من ألامر-الفعل للمعروف/الخير,   او مايلائم طبعه و ذوقه وامكانياته من  (مناهضة-نهي بالقول والفعل و المال   لنوع من انواع المنكر او الظلم ). هذه   دعوة للعمل الجماهيري المنظم الدؤوب والمستمر مدي الحياة  والموجه نحو هدف دقيق .نحو نوع واحد من انواع المعروف او المنكر .

و بالله التوفيق و السداد .

مدونتي:
https://hussein-abdelgalil.blogspot.com 

‫2 تعليقات

  1. بهذا الفهم العميق …..لعلك تقصد مضمون الاية التالية :
    لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾
    شكرا لك …مع اكيد متابعتي لك بكثير من الشغف

  2. الأخ حسين قبل قراءة كامل المقال لاحظت أنك كتبت الآية الأولى على أنها آية واحدة ولكنهما آيتان من سورة آل عمران 113و114 وقد نبهني إلى الخلل تصريفك الخاطيء لآخر الآية الثانية حيث ختمتها بعبارة (وأولئك هم الصالحين) وهذا غير جائز في كتاب الله، إذ لو كانت المفردات صحيحة فيجب أن تكون الجملة (وأولئك هم الصالحون). فبالتدقيق وجدت أن الخاتمة الصحيحة للآية هي (وأولئك من الصالحين)، فانتبه ياخي لترقيم الآيات وذكر سورها لأن الآيات المتشابهات كثيرة، وإلى موضوع المقال ما لم يوجد خطأ آخر في الآيات.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..