سيجىء الموت و ستكون له عيناك

اخترت ان يكون عنوان مقالى عنوان قصيدة الشاعر الإيطالى (تشيزارى بافيز و الذى مات منتحرا)
و السؤال هو لماذا ينتحر بعض المبدعون من الشعراء و الكتاب ؟ و يقول الشاعر المصرى حسن بيومى (يرحل عنا بأسرع ما يمكن أجمل الناس و أصدقهم و أحقهم بالحياة و كأن حياتنا لا تروق لهم ) . حقيقة حياتنا لا تروق لبعض المبدعين الذين إختارو العبور الى الضفة الاخرى و قد إختاروا الموت إنتحارا حبا و طواعية .القائمة تضم الكثيرين منهم د/درية شفيق و هى من رائدات الحركة النسوية المصرية و الشاعر اللبنانى خليل حاوى ثم الشاعر صلاح جاهين و محمد عبدالرحمن شيبون و الكاتب المصرى ادهم اسماعيل مؤلف كتاب ( لماذا انا ملحد ) و الذى اختار الموت غرقآ و اخرين .إن اشد ما يجذبنى الى هؤلاء المبدعون الكاتبة المصرية اورى صالح و الشاعر السودانى المبدع و المتميز عبدالرحيم ابو ذكرى و ذلك ربما يرجع الى ان جمعهم الموت تحليقا يفصل بينهما طابقين فقط , نحو افق اخر أجمل و أبعد و ربما اكثر حبا و طمانينة و إالفة , و هل للموت رائحة؟ و سيظل ذلك السؤال هو السؤال المؤرق و نحن ندور فى دوائر شائكة مليئة بالشكوك و الهواجس لماذا انتحر هؤلاء المبدعون ؟ .
أروى صالح او بأسمها الحركى هيفاء اسماعيل المناضلة الماركسية و كانت من ابرز النشطاء فى الحركة الطلابية فى السبعينيات, فهى إذاً إبنة الحركة اليسارية ذلك الجيل الذى كان شاهدا على هزيمة 67 و هو ايضآ ذلك الجيل الذى ملآ شوارع القاهرة بالثورة و الغضب إبان حكم السادات و كانت السمات الظاهرة لتلك الحركات هى الرفض و التمرد و الحلم بالحرية و العدالة الإجتماعية و تقدم الشعوب و مناصرة قضايا المرأة , فهى شابة واعية صادقة و مؤمنة بمادئها مفرطة الحساسية و هذه احدى إشكاليتها مع أبناء جيلها , مما أدخلها فى صراع نفسى و هى ترى ابناء جيلها و الرفاق الذين من حولها يتساقطون وحدآ تلو الاخر يتنكرون لمبادئهم و يتصالحون مع النظام .
قدمت أروى صالح كتابها المبتسرون و هو تقييم لتجربة ابناء جيلها من اليساريين و جلد للذات و الاخرين و كما يتضمن تحليلا جريئآ لأسباب سقوط المثقف الماركسى و الظروف التأريخية و الإجتماعية التى رسمت خطى جيل السبعينيات .
و بما ان اورى صالح كانت وقود الحركة الطلابية و مناضلة من الطراز الاول إلا انها لم تسلم من الظلم و إلاضطهاد و وضعها فى خانة المتمردة المنبوذة, فوصفت من المقربين اليها و رفاقها بانها مريضة نفسية مما اثر عليها سلبآ و ادى الى تدهور حالتها الصحية و فقدان توازنها الداخلى .
تتعرض اورى ايضآ فى كتابها المبتسرون عن إشكالية علاقة المثقف الماركسى بالمرأة و من خلال تجربتها الشخصية و معايشتها لهؤلاء المثقفين الذين من حولها , حيث عبرت عن ذلك قائلة ( ان المثقف فى سلوكه مع المرأة يكون برجوازيا كبيرآ او داعرآ و يفكر و يشعر بها كبجوازى صغير او محافظ مفرط فى المحافظة و ان المثقفين العرب الذين عرفتهم هم الوحيدون القادرون على أن يتكلموا عن القضايا و عيونهم على ذلك النصف الاسفل (من المرأة ) .
و أيضا فى حديثها عن تناقضات المثقف الماركسى تقول (ان الفتاة التى تواعد مثقفآ ماركسيأ لا تمنى نفسها بنزهة فاخرة إنما تتوجه معه إلى مقهى كئيب يسقيها شايآ مغليآ و يبيعها احلامآ تقدمية لا تكلفه سوى ارخص بضاعته …الكلام …كلام لا لم يعد هونفسه يعرف أين استقر موقعه الاخيرمن روحه و تتطلع هذه الفاتة البرجوازية الصغيرة إلى عدالة حيث تحاصرها كل صنوف القهر و أحيانآ المهانة …او تكون فتاة برجوازية تجرب التمرد , ويتكلم المثقف عن أشياء كثيرة أهمها الحب الحر الذى لا يحتاج امولآ و لا مسئوليات لذلك يندفع المثقف بثبات يعوزه فى مواقف لا تقل أهمية …و لكن المسئولية الشخصية كما يتضح فى اخر القصة القصيرة غالبآ فيتحملها طرف واحدهو المرأة فتدينها بيقين جلسات المثقفين الخاصة لتحولها فى أحكامهم إلى (مومس ) ,اما مسئوليته هو تنفض فى النهاية عن إنجاز اخر لفحولته …فيتيه برجولته) .
و كانت قبل موتها بيوم قد إتصلت بالدكتورة نوال السعداوى حيث ذكرت لها ( أن موتى هو سلاحى الوحيد ضد المبتسرين و ناقصى التكوين )
أما عبدالرحيم أبو ذكرى ذلك الشاعر الجميل و الذى عاش وحيدآ و مات وحيدآ و نستشف ذلك من خلال تلك الابيات (
“الأصدقاء القدماء
يدفعوننا للاحتضار..
وأصبحوا لا يلهموننا الرغبة
والصمود
وعبثاً نخدعهم بالابتسام
وبالعيون الضيّقات ملؤها الشرود
صاروا مساكين
مضيّعين دونما أسرار
نضغط زراً فإذا الضحكة
نفسها..
القصة نفسها
النظرة نفسها
والانكسار”
كان شاعرآ جميلآ و رقيقآ من مؤسسى جماعة ابادماك الثقاقية بعد مؤامرة حل الحزب الشيوعى. كتب قصديته (امير ألمؤمنين ) و التى أتهم فيها بالكفر و الإلحاد, بعدها غادر الى الاتحاد السوفيتى و هناك عانى غربة الروح و الجسد ,, عاش فى اخر أيامه فى عزلة تامة بعد ان انفض من حوله الاصدقاء و الرفاق و ابدع فى وصف تلك الفترة فى كلمات غاية فى الروعة و إلابداع الانسانى (و هنا نموت على الرصيف بلا صديق
من غير دار ……من غير نار
غير المسا و البرد و العطش الغزير
غير الحصار……
و هناك قصيدته الرائعة الرحيل فى الليل و التى تغنى بها المبدع مصطفى سيد احمد ( أيها الراحل في الليل وحيدا
موغلا منفردا
انتظرني ..انتظرني
فأنا أرحل في الليل وحيدا ضائعا منفردا
****
في الدهاليز الغصيات انتظرني
في العتامير وفى البحر .. انتظرني .. انتظرني
في حفيف الأجنحة وسماوات الطيور النازحة
حين تنهد المزارات و تسود سماء البارحة..
انتظرني .. انتظرني
وثق الاستاذ كمال الجزولى للشاعر ابو ذكرى فى كتابه (ابو ذكرى و نهاية العالم خلف نافذة ” في الكتاب الصادر عن دار تراث ودار العلوم عام 2005 حين قال ” لقد ظل ابوذكرى مشدوداً دائماً، وبقوة روحية هائلة، إلى الأعالي بكل ما فيها وما يحيط بها من مفردات ومعاني ، إلى السماوات و الكواكب والفضاءات اللامحدودة التي كانت تشكل لديه المعادل الموضوعي (للإنعتاق) أو حلم (الوجود المغاير) الذي عاش يتحرق توقاً إليه ) .
وهناك ايضا دكتور بشرى الفاضل ساهم ايضا فى التوثيق للراحل أبو ذكرى و قد كتب (بخصوص علاقتي بالشاعر الراحل فقد سمعت اسمه لأول مرة على غثر صدور ديوانه الرحيل في الليل. وقبل ان اقرأ قصيدة له سمعتها سمعت شعره بصوت ليلى المغربي في امسية بالون اوتو لعل من أقاموها من بينهم فضيلي جماع أو مبارك بشير لست اذكر لكننا حين جئنا لجامعة الخرطوم برالمة كانا هما من قادة العمل الثقافي في الكلية .قرأت ليلى المغربي قصيدة هدهدة ومنذ تلك اللحظة اصبح أبوذكرى من اهم الشعراء السودانيين عندي .اقتنيت الديوان ولم أتعرف عليه شخصياً وحين جاء إلى مصلحة الثقافة للعمل مع عبدالحي أصدرا معاًواخرون عديدون من بينهم تشكيليون مجلة الثقافة السودانية.في تلك المجلة نقرأ إنتاج ابي ذكرى بخلاف الديوان ومن ذلك قصيدة العصافير تتعلم الطيران وتلك المقابلة الشهيرة التي اجراها الراحل مع المجذوب.في عام 1976م ذكرت ان أبذكرى درسنا كورس ترجمة وأمتحننا في ذلك الكورس ثم ذهب للدراسات العليا . ابتعثته مصلحة الثقافة لدراسة الفلكلور في رومانيا لكن الأمر لم يرق له وفضل أن ينطلق من رومانيا إلى روسيا حيث كان قد درس بها بجامعة الصداقة عقب تركه للدراسة بجامعة الخرطوم لاسباب فصلهاالاخ كمال الجزولي في كتابه عن الراحل) .
إذآ الموت عند كل من أروى صالح و عبدالرجيم أبو ذكرى لم يكن طارئآ, كان حقيقة يعيشها كل منهما فى حياته اليومية و دلت على ذلك كتابتهما الموغلة فى الوجع و الكأبة و الابداع الانسانى و التى كانت تدل على النهايات الحتمية حيث الاختيار الاخير .
سوزان كاشف
[email][email protected][/email]
ببساطة الفكر الماركسي غريب علي مجتمعات عربية او افريقية مختلفة الثقافة والتكوين – مما يجعل معتنقه في غربة شخصية اشبه بأنفصام الشخصية والباقي تحصيل حاصل – الدكتور جون قرنق وضع المبضع علي الجرح السوداني في عبارة واحدة – يجب التصالح معا سودانيتنا لانها المخرج الوحيد للازمة – تحياتي للكاتبة
الاستاذه سوزان كاشف…مرهفة بطبعها…وموغلة في الحساسية…احيانا يخاف عليها من فرط هذه المشاعر الدفاقة…في هذا المقال واضح انها اخذت من زاوية حساسة! عبدالرحيم ابو زكري واروي صالح ذهبوا في افاقهم السامية وتبقي الذكري واجترار المسببات والندم…فكيف العفو؟؟
التحية لك أستاذة سوزان كاشف و شكراً لهذا المقال الرائع؛ عن الإبداع والمبدعين، الشاعر أبو الذكرى رحمه الله كان صوفياً متسع الرؤية، معطاءاً كأنة سليل الفراديس النيل نبلاً موفق الإنسياب؛الموت والفناء القسري وليد شرعي للإبداع المدهش والعبقرية الشفيفة..والروئيه الثاقبة لديهم، هؤلاء المبدعين بمنظور آخر وبعشق متصوف درويش جوال..بلسان الفيتوري يصدح أشعارا:
دنيا (لا يملكها من يملكها)
أغنى أهليها سادتها الفقراء
الخاسر من لم يأخذ منها
ما تعطيه علي إستحياء
والغافل من ظن الأشياء..هي
الأشياء..!!
تاج السلطان الغاشم تفاحة
تتأرجح أعلي سارية الساحة
تاج الصوفي يضيء على / سجادة قش
صدقني يا ياقوت العرش
إن الموتي ليسوا هم هاتيك…..
فالإمتلاك لم يقتصر في تقديري علي الأشياء التي ليست هي الأشياء!!؟ بل تجاوزها إلي الروح..التي لم تتوق الزيف والخداع والتلون فمضت سريعاً بمكانيزم الذات المهجسة. دمتي
شكراَ لكاتبة المقال الشفيف . و التحية لأرواح هؤلاء المبدعون اللذين لم ترق لهم طريقة حياتنا و فوضى التعايش في بلدانهم, و لم تتوائم مخيلتهم مع زخم التناقضات المترامي.. عاشوا بيننا لنكون مثلهم , ولما إستعصى عليهم الأمر قرروا رسم النهايات وفق رؤاهم المرهفة .أتمنى أن تدهشنا كاتبة المقال و نتابع معها هذه السلسلة و تكشف لنا أسرار هؤلاءاللذين عاشوا في دنيانا و غادرونا في صمت لنزدرد الحزن عنوة.
This is great Article , thanks Suzan