حادثة (معبد الشعوب) … تفاصيل أكبر عملية انتحار جماعي في العالم

أعدها للنشر : محمد الاقرع
(غيانا) الدولة الصغيرة التي تقع بأمريكا الجنوبية لم تقئ رطوبة أجواءها من سخونة الأخبار الورادة منها وكارثيتها ، صبيحة الثامن عشر من نوفمبر من عام 1978م فجع الامريكان وبل العالم أجمع على أنباء تنفيذ أكبر عملية انتحار جماعي لاتباع رجل الديني المسيحي (جيم جونز) هذا الشخص الغريب الذي تحكي سيرته انه ولد عام 1931م ، والده جيمس ثورمان جونز كان ضمن الجنود المقاتلين في الحرب العالمية الأولى وأحد ضحايا غاز الخردل ، أما والدته ليناتا جونز كانت امرأة مستقلة و لم يلقَ جونز الرعاية من والديه، فوالدته كانت منشغلة في العمل ، وقد قال لرفقاءه ذات مرة بأنه لم يحصل على الحب، وأنه لا يعرف ما هو جحيم الحب!
(جيم جونز) المتسبب الاساسي في هذا الانتحار الجماعي بدأ حياة الوعظ الديني منذ صغره ، فقد كان يقدم خطبًا دينية في المدرسة ، وحسب وصف زملائه فقد كان واثقًا من نفسه على خشبة المسرح ، في تلك الفترة المح معاصيره الى انه كان غريب الاطوار مهووساً بالدين والموت و حكى أصدقاء طفـولته بأن جونز كان في منـاسبات كثيرة يُقيم جنائز لحيوانات صغيرة وبأنهُ قام بطعن قطّ بطريقة وحشية ، ايضاً عرف في بواكيره بانه كان قارئ نهم حيث قرأ بعناية لكل من جوزيف ستالين ، كارل ماركس ، المهاتما غاندي و أدولف هتلر .
في عام 1951م انضم جونز للحزب الشيوعي الامريكي ولكن هذا الكيان ما كان ليحقق له رغباته في الزعامة نسبة لحالة السخط التي يجدها في الشارع العام ، في العام الذي يليه انتقل (جونز) ليدرس كـ(قس) في الكنيسة الميثودية عام 1952م ، لكنه أراد أن يؤسس كنيسته الخاصة فقام بأنشاء كنيسة (الشعب) التي جذبت له العديد من الشباب الذين كانوا يحاولون أشباع رغباتهم عبر أجتراح طرق جديدة ومختلفة ، ( جيم جونز) استطاع ان يؤمن لهم ذلك المسلك خاصة وانه في تلك الفترة كان يتبنى آراء جرئية مثل المساواة بين السود والبيض في وقت كانت تغرق فيه أمريكا في اتون الكراهية والعنصرية كان خطابه هذا جاذباً خاصة في اوساط (السود) فهو يدعو لدمجهم في المجتمع ، خطى (جونز) درب جديد استند فيه على شيوعيته التنظيمية القديمة وشخصيته كرجل دين مسيحي فحاول المزج بينهما فكان المفهوم الذي عبر عنه صراحاً آواخر السينيات (الاشتراكية الرسولية) كان يقول لاتباعه مثلاً (أولئكَ الذين ظلّوا مخدّرين بأفيون الدين يجب عليهم إخراجهم إلى دائرة التنوير – والتي هي الإشتراكية) وايضاً من اقواله في هذا الاتجاه (إن كنتَ مولودًا في أمريكا الرأسمالية، العنصرية، الفاشية، فإنكَ إذن مولود في الخطيئة، ولكن إن كنتَ مولودًا في الإشتراكية فإنكَ لستَ مولودًا في الخطيئة!) كان (جونز) يرفع رايات السلام والمحبة التي حاول خلفها أخفاء شخصية تعاني صراعات نفسية ضخمة فالشواهد كانت تقول انه احياناً كان يدعي بانه (المسيح) واحياناً اخرى بانه (فلادمير لينين) وذكرت بعض المصادر انه آواخر ايامه كان قد ادعى صفة اللاوهية ، هذه الاضطرابات و التقلبات تعزز بانه شخص متنازع غارق في الاحلام والاوهام ورغم هذا شحد جماهير غفيرة من الامريكان الذين طالبهم فيما بعد للانتقال الى مزرعة شمال دولة (غيانا) بأمريكا الجنوبية التي عرفت بمدينة (جونز) او (جنة الله في الارض) هذا الانتقال كما صوره لهم ناتج عن فساد حياة البشر واقتراب نشوب حرب نووية او حدوث كارثة كونية لن ينجو منها سواء اتباعه في هذه المنطقة النائية (معبد الشعوب) ان ما سيحدث سيتمخّضُ عنه (الجنة الإشتراكية الجديدة) التي سيكون هم روادها وقوادها .
(جونز تاون) أو (معبد الشعوب) كانت عبارة المستعمرة البسيطة مكونة من بيوت خشبية ضيقة مع طبيعة مناخ صعبة الا انها شهدت توافد لاتباعه بكمية كثيرة تجاوزت الالف بهدف ممارسة الطقوس الدينية بحرية بعيداً عن أعين الحكومة وتهكمات المواطنين (كما يظنون) ولكن سرعان ما تحول لدى البعض هذا الظن الى يقين بتوريط انفسهم في القدوم الى هذا المكان البعيد والى اخفاقهم بتقييم شخصية (جونز) جيداً .
كانت المزرعة عبارة عن سجن كبير فهي محيط بالغابات المترامية ذات القرار المجهول ، كانت عملية الخروج منها مسألة شبه مستحيلة ما لم يأذن لك (جونز) بذلك والذي في غالب الاحيان يرفض خروج أي شخص من هناك فضلاً على انه كان يرغم اتباعه في العمل الشاق وما ان يعود للعمل حتى يجبرهم للاستماع الى محاضراته .
هذا المكان واخبار ظروفه المزرية كانت تشغل الرأي العام الامريكي وقتها مما جعل السيناتور في الكونغرس الامريكي (ليو رايان) ان يقود وفد استقصائي الى هناك مصطحباً معه وفد من الصحفيين و مجموعة من ذوي المنظمين الى تلك المستوطنة الجديدة ، وتقول تواترية الاحداث …في الوهلة الأولى، بدا لـ(ليو رايان) ان كل شيء يسير على ما يرام و أنه لا شيء يدعو للقلق، و لكن في تلك الليلة و أثناء طقس تعبّدي يتخللّه رقص و غناء هستيري تسلّم أحد الصحفيين المرافقين للسيناتور (ليو) ورقة صغيرة مكتوب عليها أسماء من يريدون المغادرة و الذين كانوا يكتمون رغبتهم خوفاً من غضب (جونز) و هنا اتّضح لهذا الأخير أنه فعلاً هنالك أشخاص محتجزون هنا رغماً عن إرادتهم.
في اليوم السابق لـ(18) نوفمبر 1978، أعلن السيناتور (ليو رايان) نيّته في اصطحاب الراغبين في المغادرة نحو الولايات المتحدة ، و لكن لم يستجيب سوى بضعة أشخاص و امتنع البقيّة خوفاً من ردّة فعل زعيمهم (جيم جونز)…صعد الراغبين في المغادرة على متن شاحنة جاء بها السيناتور و الذي بقي في المؤخّرة و الباب الخلفي للشاحنة مفتوح و ذلك حتّى يتأكّد من انه لا يوجد شخص آخر يريد المغادرة أيضاً ، بعدما أقلعت الشاحنة و على حين غرّة تفاجأ السيناتور بأحد أتباع الجماعة يقفز عليه من حيث لم يره و يحاول ذبحه بساطور ضخم ، و لكنّه يفشل في الوصول إلى الرقبة و يقع متدحرجاً على الطريق ، سارعت الشاحن في الوصول للمطار لكن أحبطوا عندما وجدوا بان جميع الطائرات قد اقلعت علامات الخوف والقلق ارتسمت الى السيناتور (ليو رايان) الذي أمر مرافقيه ان ينتظرون ريثما تصل طائرة جديدة ولكن قبل ذلك توقّفت سيارة رباعية الدفع و ترجّل منها أشخاص مسلّحون فتحوا النار على الشاحنة ، فقُتل خمسة أشخاص على الفور بينهم السيناتور (رايان)
في تلك الاثناء كان (جونز) يعقد لقاء عاجل مع جميع اتباعه ويخطب فيهم قائلاً : (تيّقّنوا يا أبنائي و أحبّائي أن العساكر الأمريكية قادمة لا محالة، و عن قريب سترون الطائرات الأمريكية تقصف ضيعتنا الآمنة و تقتل حتّى صغارنا و أطفالنا ، الحلّ الوحيد أمامنا هو اللجوء إلى عملّ بطوليّ ثوري لم يُشهد له سابق في التاريخ و طبعاً هذا العمل “البطولي” هو الانتحار الجماعي) ، يقال ان احدى السيدات حينها حاولت معارضة الفكرة لكن وجدت سخط شديد من البقية الذين استطاع (جونز) السيطرة على ادمغتهم تماماً .
عندما وصل خبر مقتل السيناتور إلى مسامع (جونز)، أصبح أكثر إلحاحاً و عجالة من ذي قبل و صرخ قائلاً : (أتعلمون ما الذي ينتظركم عند نزول المظليين على أرضنا ؟ سوف يعذّبونكم عذاباَ شديداً، سيعذّبون أطفالنا الصغار أمام أعيننا و سيسلخون عجائزنا أحياءاً و نحن نسمع صرخاتهم و تأوّهاتهم…لم نسمح بحدوث هذا ) .
جُلبت أوعية كبيرة و عبئت بخليط قاتل من سمّ السيانيد و حامض الفاليوم ثمّ وُضعت عند مدخل المعبد، بدأ تسميم الأطفال الصغار أوّلاً، تمّ استعمال الحقن لحقن الخليط السامّ في أجسادهم الغضّة الطريّة، ثم جاء الدور على الأمهات التي انتحرن بنفس الطريقة التي قُتل بها صغارهن، ثم توالى الدور على البقيّة و إن فكّر أحدهم في مخالفة الأوامر فسيجد المسدسات و السواطير وجّهة صوبه…استغرقت الوفاة بهذه نحو الطريقة نحو خمسة دقائق ، خمسة دقائق خلفت وراءها أكثر من (900) بينهم (200) طفل لم يتنجو منها الا افراد لا يتجاوزون اصابع اليد ليحكوا لنا عن تفاصيل حادثة أكبر عملية انتحار جماعي في العالم .