
في المرحلة الثانوية ونحن طلاب في السنة الثانية على التحديد لاحظنا أن زميلا لنا أعور له عين واحدة “وكل ذو عاهة جبار” له قدرات عجيبة في علم الرياضيات .. كنا نقول له اي رقم مضروب في رقم آخر مثلا ٧٨٩ مضروب في ٨٩٦ يعطيك الإجابة فورا وبدون تفكير .. أخبرنا بذلك أستاذ الرياضيات في المدرسة .. وللتحقق من الأمر جاء الأستاذ وجمع كل طلاب الفصل ووقف الأستاذ على مسطبة الفصل امام السبورة السوداء الكبيرة وأوقف بجواره الطالب “يونس” وهذا كان اسمه .. وقام الأستاذ بإعطاء كل طالب في الفصل ورقة وكان عدد الطلاب أربعون طالبا في ذلك الزمان مطلع ستينيات القرن الماضي كان ذلك سنين عديدة قبل عصر الكمبيوتر والأجهزة المحمولة والثورة التكنولوجية الرقمية التي نعيشها الآن ..
وأمر الاستاذ كل طالب أن يختار رقم ويضربه في رقم آخر ومراجعته جيدا والاحتفاظ بحاصل الضرب ..
.. وبدأ الأستاذ بسؤال الطالب في اول الفصل أن يعلن الأرقام التي عالجها ويونس واقفا مع الاستاذ اعطى الطالب الاجابة فورا وكانت الإجابة مطابقة تماما لما توصل إليه الطالب .. وهكذا حتى نهاية الفصل ماعدا طالب او طالبين وربما اكثر لا اذكر بالضبط طلعت اجاباتهم مخالفة لإجابة يونس وبعد المراجعة مع الاستاذ وبقية الطلاب اتضح أن إجابة يونس هي الصحيحة وأن الطلاب كانوا مخطئين ..
ولم يجد أحد منا بما في ذلك استاذ الرياضيات تفسيرا معقولا لهذه الظاهرة وظل ما يقوم به يونس من عمل غامضا ومدهشا لعقولنا الغضة ولم نجد له تفسيرا ونحن في تلك السن المبكرة من أعمارنا ..
وتمر الايام واختفى يونس فجأة من المدرسة ولم نسمع عنه بعد ذلك .. بعد ذلك بسنوات في السنة الرابعة ثانوي جلست مع دفعتي لامتحان الشهادة السودانية وأحرزت ما يعرف وقتها بالدرجة الثانية والتحقت بالدراسة الجامعية في الجامعة الاسلامية في أمدرمان .. وفي احدى العطلات توجهت الى مدني حتى اقضي كالعادة الاجازة مع اهلي في طيبة الشيخ عبد الباقي جوار مدني .. وصلت إلى مدينة ود مدني توجهت فورا الى حيث موقف الحافلات التي تذهب الى الاقاليم بما في ذلك قريتنا طيبة .. وهناك رأيت العجب في أحد اللواري التي تتجه إلى قرية “الكَبُر” وهي القرية التي ينتمي إليها يونس وجدت يونس يعمل ليس سائق اللوري وإنما “المُساعِد” الذي يجمع قروش الأجرة من الركاب المسافرين ..
هذا هو يونس الذي ترك الدراسة في السنة الثانية ُثانوي أكيد بسبب الفقر وشح الإمكانيات وقلة الحيلة ليعمل مساعد سائق في أحد اللواري حتى يكفل عيشا له ولأسرته .. يونس أحد العباقرة الذين سحقتهم ظروف الفقر المدقع ورمتهم في غياهب النسيان .. إنها قصة واقعية أغرب من الخيال تذكرتها وأنا أتأمل ما وصلت إليه أحوال البلد الآن في أتون هذه الحرب العبثية التي يقودها الجهل والغباء .. ولعل تلك القصة وأمثالها كثر تراكمت عواملها لتنتج هذه الأوضاع المؤلمة المأساوية التي نعاني منها ومن تبعاتها الآن ..
وبالرغم من كل الذي يحدث وحدث من هدر للإمكانيات استمع الى الشباب وآمالهم اردد ما لا امل من ترديده أن هذه أمة تستعصي على الموت .. ويحضرني هنا ما قاله المنتنبي متحديا :
لتعلم مصر ومن بالعراق
ومن بالعواصم أنى الفتى
واني أبيتُ وأني وفيتُ
وأني عتوتُ على من عتى
وما كل من قال قولا وفى
ولا كل من سيم خسفا أبى
ولا بد للقلب من آلة
ورأي يصدع صُم الصفا
ومن يك قلب كقلبي له
يشق الى العز قلب التوى
وبعد أن ينتهي “الغربال” من عمله “فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض”..
نعم لها علاقه حينما يتحكم في مصير شعبنا العظيم امثال حميتي و البرهان و كل المترديه و النطيحه و ما اكل السبع من قادة حركات انتهازيه و احزاب متهالكه لاترجو خيرا حتي تزال هذه الاجسام القميئه التي لاتمت لنا بصله