مقالات وآراء سياسية

اللغة و القرآن و التاريخ (5)

زين العابدين حسن

قبل الاستمرار انوه إلى أن الاتفاق بين المؤرخين جرى على أن المصحف الذي لدينا الآن كُتب في عهد الخلافة الراشدة و كل المخالفين و الذين لديهم روايات عن تعديلات أو خطأ النسخ حججهم ضعيفة .

مر بنا أن مرجعية اهل السنة للسيرة هي سيرة ابن هشام المنقولة بتصرف من سيرة ابن اسحاق ، لكن للشيعة قولا آخر ، يدّعي الشيعة أن تاريخهم أقرب و أصح لأن أحد من يعتمدون على تأريخه هو سليم بن قيس الهلالي و له كتاب عند الشيعة باسمه أي (كتاب سُليم بن قيس الهلالي) و هو مولود في السنة الثانية للهجرة في الكوفة ، لكنه لم يصحب الرسول (ص) لذا يُعد تابعي ، و كان قد زار المدينة في خلافة سيدنا عمر بن الخطاب و سأل الصحابة عن أحداث و أخبار الرسول (ص) و أعمال المسلمين ، لكنه لم يسجل الأحداث إلا مؤخرا لأنه كان من الممنوع تسجيل شيء خلاف القرآن . غير أن كتاب سليم بن قيس مختلف عليه ، فالسنة يرون أنه مدسوس عليه ، رغم أن الجميع يتفق على أنه كتب كتابا في عهد الخليفة علي بن أبي طالب ، لكنهم يختلفون في نسبة الكتاب المتداول عند الشيعة إليه … لا بد من الإشارة إلى أنه من المفترض أن الروايات الشفهية كانت كثيرة قبل التدوين و لعل من أقدم من أرخ و دون (معاصرا لابن اسحاق) حسب هادي العلوي هو أبو مخنف لوط بن يحيى (توفي 157 هـ ، مقارنة بابن اسحاق الذي توفي 151 هـ) ، لكن لم يصلنا شيء من مدونات أبو مخنف ، و يمكن الافتراض أن الكثيرين نظروا في كتاباته كالطبري (224هـ/839 – 28 شوال 310هـ/923) و اليعقوبي (لم يُؤرخ لميلاده و وفاته بين 284 هـ و 298 هـ) و الواقدي (130 ــ 207 هـ) و ابن سعد (168 ــ 230 هـ) ، كما نظروا في كتاب ابن اسحاق . نرجع لابن اسحاق و نتساءل : متى بدأ في تدوين سيرته ؟ الراجح انه كان يحفظ في البداية ثم لما بدأ التدوين اعتمد على ما اختزنته الذاكرة . أما متى و اين بدأ تدوينه فالراجح ايضا أنه بدأ ذلك في خلافة الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور  استجابة لطلبه عندما كلّفه بتأليف كتاب تاريخ ما حدث منذ آدم حتى ذلك الوقت ، و ذلك لولي عهده ، ابنه محمد المهدي(تولى المنصور الخلافة في نهاية عام 136 هـ) . لا شك أن الخليفة أبو جعفر كان متأثرا بما يجري في العراق الذي غالبية أهله حتى ذلك الوقت مسيحيون (لم تنقلب موازين السكان إلا بعد و في أثناء الحروب الصليبية التي يُؤرخ لبدايتها سنة 1095 م “488 هـ” و امتدت حتى 1492 م “897 هـ” ، ظلت غالبية سكان مصر و الشام و العراق مسيحيين حتى عهد الحروب الصليبية و لأسباب يطول شرحها تحولت الغالبية للإسلام بعد ذلك) ، و لأن الانجيل يحكي عن تاريخ البشرية منذ آدم حتى ولادة المسيح و صلبه حسب ادعاءهم)  أراد ابو جعفر أن يكون للمسلمين روايتهم الخاصة ، و كان المشهور عن ابن اسحاق أنه ملم بالتاريخ (من اكثر ما عرضه للنقد و التجريح اعتماده في كثير مما روى على أهل الكتاب) .

السؤال : متى بالضبط طلب ابو جعفر المنصور من ابن اسحاق أن يكتب السيرة ؟ يدعونا ذلك  لتناول أحداث تولي ابوجعفر للخلافة و متى كان من الممكن له ان يتفرغ لهذا الطلب .

جاء في (سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي) : ” ولما مات السفاح زعم عبد الله (عم السفاح و ابو جعفر)  أنه ولي عهده وبايعه أمراء الشام وبويع المنصور بالعراق وندب لحرب عمه صاحب الدعوة أبا مسلم الخراساني فالتقى الجمعان بنصيبين فاشتد القتال وقتلت الأبطال وعظم الخطب ثم انهزم عبد الله في خواصه وقصد البصرة فأخفاه أخوه سليمان و سلمه للمنصور بعد أن اعطاه : (أمان الله و رسوله و أمان أمير المؤمنين) و لكنه غدر به . جاء الدور على أبي مسلم الخراساني الذي دعاه و أعطاه الأمان (أمان الله و رسوله و أمان أمير المؤمنين) ! … كان عازمًا على قتله غدرًا ، وبالفعل وهو يكلمه آمنًا انقض عليه مسلحون بعد إشارة من أبي جعفر فقتلوه رغم توسله لأبي جعفر أن يبقيه سيفا في وجه أعدائهما ، و أنى له ذلك .

تبقى للمنصور خطر آخر يخافه أشد الخوف ، كان بنو هاشم في أواخر عهد بني أمية انتخبوا للخلافة محمد بن عبد الله بن الحسن بن زيد الملقب بالنفس الزكية وبايعوه بها ، و كان ممن بايعوه أبو جعفر المنصور ، بالطبع بعد قيام دولة بني العباس لم يعد في إمكان أبي جعفر الوفاء ببيعته … لم يبايع النفس الزكية أبا العباس السفاح ولا أبا جعفر .. اختفى محمد (النفس الزكية) وكان أبو جعفر مهموما بالبحث عنه ، لما لم يعثر عليه اعتقل أباه وصادر أمواله بل و اعتقل كل من وجده من أهله ، و تمادى في تعذيبهم ومات أكثرهم في الحبس فقرر محمد الظهور بالمدينة (أول رجب 145هـ) ، حتى ظهوره هذا كان بمكر من أبي جعفر ، فقد كتب إلى محمد على ألسنة قواده أنهم يدعونه إلى الظهور. كان أبو جعفر قد أرسل منديل الأمان للنفس الزكية (أمان الله و رسوله و أمان أمير المؤمنين) ! فرد عليه النفس الزكية : ” أي أمان ؟ أمان أبي سلمة الخلال أم أمان عمك عبد الله أم أمان أبي هبيرة أم أمان أبي مسلم الخراساني .” .. لم يعد أحد يثق في أمان أمير المؤمنين … قُتل النفس الزكية بعد معركة غير متكافئة في المدينة و قُطع رأسه و أرسل إلى أبي جعفر المنصور (رمضان 145 هـ).

 

زين العابدين حسن

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..