مناقشة نقد الصادق المهدي للوثيقة الدستورية

عادل إبراهيم حمد
يقول السيد الصادق المهدي في نقده للوثيقة الدستورية (كان ينبغي أن يتم النص على أن الإسلام هو دين أغلبية السودانيين , وأن لدعاته الحق في التطلع لتطبيق تعاليمه , بشرط الالتزام بحقوق المواطنة المتساوية وحرية العقيدة لكل الأديان والالتزام بالنهج الديمقراطي) .. فلماذا ألحق المهدي بدعوته إلى النص على إسلامية الدستور شروطاً شارحة لا تتضمنها في العادة الدساتير , حيث يتميز الدستور بنصوصه القصيرة الجامعة ؟
الشروط تكشف بوضوح إقراراً من المهدي بأن النص على الإسلام في الدستور لا يفهم منه تلقائيا فهم واحد محدد , الشيء الذي يعني أن الاكتفاء بنص دستوري مثل (الإسلام دين الدولة) أو (الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع) يمكن ـ بسبب اختلاف مفاهيم تحكيم الإسلام ـ أن يهدد حقوق المواطنة وحرية الاعتقاد والنهج الديمقراطي , ويهدد حقوق المرأة ويحرّم الفنون ويبيح السبي والاسترقاق , ما لم تلحق بالنص الدستوري الديني ملاحق وشروح وتوضيحات و ضمانات , هي في الحقيقة مبادئ ديمقراطية واضحة الدلالة يكفي تضمينها في الدستور كمبادئ دستورية أصيلة ـ لا ملاحق تزيل اللبس والغموض عن نص دستوري مبهم . و يبرهن حرص المهدي على إضافة هذه الشروط أن في النص ثقوباً بل وفخاخاً خطيرة . و هو ما لا تكون معالجته بوضع شروط وشروح , بل بطرح فكري عميق يفند فكرة الدولة الدينية, فتسقط تلقائيا هذه المخاوف ؛ لكن يبدو أن المهدي لم ينج من التباس يقع فيه العوام وكثير من المتعلمين . أما العوام فلهم فهم معمم عن (كمال) الدين ينقلهم تلقائياً إلى فهم خاطئ أن للإسلام بكماله رؤية محددة لإدارة الدولة , مثل تحديده المفصل لكيفية الصلاة . و عليه يجب على المسلم أن يلتزم بتصور الدين للدولة حتى لا يخالف أمراً دينياً .
وتطابق جماعة متعلمة بين النبوة المقدسة التي تقابل تعاليمها بالتسليم , و الخلافة كتجربة بشرية غير ملزمة للمسلم ؛ فتجعل المطابقة بين النبوة و الخلافة, الدولة الدينية بذات قداسة النبوة . ويتعامى أهل هذا الرأي عن رؤية أخطاء شنيعة صاحبت الدولة الإسلامية بما فيها دولة الخلافة , عل التعامي يحفظ قداسة مدعاة لتجربة ما بعد النبوة . يكشف هذا الخلط أن هؤلاء المتعلمين المتوهمين وجود (مثال) واحد للحكم هم ضحية لمنهج فكري غير صحيح . وقد كانت ومازالت المناهج المدرسية سبباً في تكريس هذا الخطأ حيث يتلقى التلميذ درس السيرة النبوية بالتقديس المستحق , ثم ينتقل لدرس الخلافة بذات الفهم وكأن الخلافة تحتفظ بقداسة وعصمة النبوة .
استغلت نخبة سياسية الارتباك الفكري المشار إليه فعمدت إلى الترويج لهذه المفاهيم المغلوطة حتى تضفي على برنامجها الحزبي العادي قداسة دينية , تحصنه من المناقشة و التقييم , و (تفرضه) كأمر إلهي ؛ إلا أنني لا أركز في هذا المقال على هذه الفئة الأخيرة , بل على الأولى والثانية باعتبارهم ضحايا ضحالة فكرية يمكن تصحيحها , وهي حالة لا تتلبس الصادق المهدي وحده , فقد ارتبطت الدعوة للدستور الإسلامي بتنظيمات سياسية مصنفة ضمن قوى الوسط , بما فيها الحزب الوطني الاتحادي الذي صُنف بعد استقلاله عن الطائفتين كمعبّر عن تيار الوسط المستنير ؛ لكنه لم يكن بالتفوق الفكري الذي يؤهله لإدراك خطر الدعوة المعممة لدولة إسلامية .
افتقاد قوى و رموز وسطية عديدة ـ غير الصادق المهدي ـ للعمق الفكري جعل الدعوة للدولة الدينية تبدو واجباً دينياً . وعليه أبقت جماعات الإسلام السياسي على هذه الدعوة حتى تبعد عن الدين ما تتوهمه نقصاً , و اعتمدت خطة إبقاء و استمرارية الدعوة للدولة الدينية, على ظهور جماعة جديدة كلما فشلت تجربة للإسلام السياسي , فتتهم الجديدة أصحاب التجربة الفاشلة بأنهم قد شوهوا الإسلام وأن الجدد هم أصحاب الفهم الصحيح للدولة الإسلامية . و قد نجحت هذه الخطة القائمة على منهج اعتذاري أو تبريري في الإبقاء على فكرة وجوب المناداة بدولة الإسلام, رغم أن أصحاب الفكرة لا يملكون لهذه الدولة تصوراً محدداً .
هذا التيه الفكري يضاعف مسئولية قوى الاستنارة في بث الوعي حول حقيقة الدولة الدينية . وقد يكون أنسب المداخل للتعريف بأسباب رفض الدولة الدينية هو أن هذه الدولة لا تُرفض لما تحمله من احتمالات التمييز السلبي لغير المسلمين في الوطن فحسب , بل ترفض و لو كان كل سكان السودان مسلمين , ذلك لأن الدولة ـ كفكرة سياسية ـ تتعدد أشكالها و تختلف مضامينها . هذه الحقيقة تحتم وجود مفاهيم , و من ثم تيارات و تنظيمات مختلفة في المجتمع ـ و لو كان كله من المسلمين . و لا يحق لأي من هذه التيارات أن يصف نفسه بأنه إسلامي و لو أكد على كل المبادئ الديمقراطية ؛ فغيره ممن يصف نفسه إسلامياً أيضاً يرى تعارضاً بين الإسلام و الديمقراطية, و ثالث يوائم بين الإسلام و الاشتراكية و رابع يرى الاشتراكية كفراً , و خامس يرى أن تحريم الفنون و سبى النساء و استرقاق الرجال من أركان دولة الإسلام المجاهدة .. لذا يصبح ضرورياً عدم إلحاق الصفة الإسلامية بالدولة أو ببرنامج الحزب لأنها لا تفيد معنى محدداً . فإذا كانت تعني المبادئ الديمقراطية فإن ذكر الإسلام يكون تزيُداً . و ترفض صراحة أية دعوة للنص على الإسلام في الدستور إذا قصد به دولة الدكتاتورية أو دولة السبي و الاسترقاق . وعليه يصبح من الضروري إبعاد مصطلح لا يفيد إقحامه غير البلبلة والإرباك , والاكتفاء بالنصوص الديمقراطية الصريحة الواضحة الكافية, و تجنب مصطلح الإسلام حمّال الأوجه , بدون الوقوع في فخ مصطلح العلمانية المختلف على تفسيره .
الصادق اذا كان هو الوحيد الذي كلف بكتابة الدستور في الليل وعرض عليه ما كتب في الصباح لوجد ما يعترض عليه , الترابي وتابعه الصادق لهم اآراء معارضة في شرع الله ناهيك عن الدستور .