مقالات وآراء سياسية

السودان وتحطيم الذات ودور النخب في إستعدال معادلة الحرية والعدالة

طاهر عمر

 

تاريخ الذهنيات وتاريخ الخوف أهم ما قدمته مدرسة الحوليات الفرنسية من فكر يمكّننا من إستعدال معادلة الحرية والعدالة إذاما إستوعب كفكر يمكننا من تحريك زوايا النظر لساحتنا السودانية لأنه يخلصنا من ضوضاء المؤرخ التقليدي السوداني وتأخّر فهم القانوني التقليدي السوداني لفكرة الشرط الإنساني المتبدي في الفلسفة السياسية وهي منذ قرن من الزمن في المقدمة وقد أبعدت كل من المؤرخ التقليدي والقانوني التقليدي.

عندما نقول أن القانوني السوداني تقليدي ولم يستوعب بعد فكرة الشرط الإنساني وهو أن الفلسفة السياسية هي التي تمنحنا القرار والإختيار للنظام السياسي في مجتمع ما بعد الثورة الصناعية وقد أصبح تاريخ البشرية لأول مرة في التاريخ تاريخ واحد لكافة البشرية وبالتالي يصبح القرار والإختيار لنظام ليبرالي ديمقراطي بعيدا عن النظم الشمولية كالشيوعية والفاشية والنازية وبعيدا عن الملكيات التقليدية وأشكال النظم العسكرية العربية التسلطية كما يريد السيسي إعادة بناءه في مصر اليوم.

لذلك عندما نقول القرار والإختيار للنظم السياسية وأقصد الليبرالية الديمقراطية وبالتالي الذي يقوم بالقرار والإختيار لتحقيق الشرط الإنساني هو السياسي المشبّع بالفلسفة السياسية وليس كما ساد وسط النخب السودانية جيل عبر جيل من ظن خاطئ في القانوني السوداني التقليدي وتدبيجه لوثائق دستورية فاشلة ليس فيها روح القوانيين وعندما نقول روح القوانيين أقصد الفكر السياسي وليس بمعناه المبتذل في ساحتنا السودانية بل نقصد السياسي المدرك للشرط الإنساني في زمن أصبح فيه السياسي مشبّع بعلم الإجتماع كما كان في روح القوانيين كعلم إجتماع لمنتسكيو.

وكذلك يكون السياسي متّشح بأنثروبولوجيا الليبرالية وأنثروبولوجيا كانط وفينومينولوجيا هوسرل وبنيوية كلود ليفي اشتراوس وجميعهن يسيل منهن التفكير النقدي لأن التفكير النقدي عصارة هذه التجارب الفكرية والإلمام بعلومهن مهم حتى تصبح نتيجته القدرة على التفكير النقدي.

ما أود قوله أن القرار والإختيار للنظام السياسي الديمقراطي يقوم به السياسي المشبّع بفكرة معادلة الحرية والعدالة ومدرك لكيفية هندسة المجتمع المتوازن سياسيا وإجتماعيا وعليه تأتي المرحلة الثانية وهي أن يحيط نفسه بالمشرعيين وأقصد السياسي المتشرّب للفلسفة السياسية يحيط نفسه بالمشرعيين لإنزال نموذج المجتمع الذي تسوقه معادلة الحرية والعدالة. وهذا عكس ما تقوم به النخب السياسية السودانية في أغلب مناشطها السياسية وفي لحظة إنقلاب الزمان يأتي القانوني السوداني التقليدي بوثيقة دستورية ليس لها علاقة بفكرة الشرط الإنساني وهذا هو سبب فشل النخب السودانية جيل عبر جيل فيما يتعلق بالتحول الديمقراطي في السودان.

ولتوضيح ذلك مثلا توكفيل عندما تحدث عن الديمقراطية الأمريكية وكيف تحققت في أمريكا ولم تتحقق في القارة الأوروبية العجوز كان يلعب دور السياسي الذي يفهم معنى الشرط الإنساني ثم جاءت إقتراحاته مدعمة بالتشريع في المرحلة الثانية.

فالسياسيي المدرك للشرط الإنساني متقدم على القانوني التقليدي ومتقدم على المؤرخ التقليدي وهذا ما أريد أن تفهمه النخب السودانية فيما يتعلق بالتحول الديمقراطي في السودان وكذلك لزيادة التوضيح لأهمية السياسي المدرك للشرط الإنساني ومتقدم على القانوني التقليدي نذكر تجربة روزفلت بعد مرور مئة سنة من تجربة توكفيل وأقصد تجربة روزفلت في مواجهة الكساد الإقتصادي العظيم برز روزفلت كسياسي وقدم فكره السياسي والإقتصادي لإعادة التوازن الإقتصادي والإجتماعي ولإنزاله على أرض الواقع جاءت الخطوة الثانية وهي أحاطة نفسه بالمشرعيين لتحقيق فكرة معادلة الحرية والعدالة.

فعلى السياسي السوداني أن يقدم فكره السياسي المجسد لفكرة الشرط الإنساني ثم تأتي في المرحلة الثانية إحاطة نفسه بالمشرعيين وليس العكس كما هو سائد وسط النخب السياسية السودانية الآن.

في بداية المقال تحدثت عن تاريخ الذهنيات وتاريخ الخوف وبالمناسبة يعتبر تاريخ الذهنيات درة تاج مدرسة الحوليات الفرنسية في إبعادها للوثيقة التاريخية المقدسة وبدلا عنها قدمت إمكانية دراسة التاريخ الإجتماعي والتاريخ الإقتصادي وما يخصنا من تاريخ الذهنيات في السودان لإعماله يوضح لنا أنه يكون بسبب شخصية تاريخية تتحدى تاريخ الخوف المترسب في أعماق عقلنا الجمعي وتحديه والتغلب عليه بتقديم فكر جديد غير مألوف وغير مطروق ولا يستطيع تقديمه غير عباقرة الرجال.

وبالتالي تستطيع الشخصية التاريخية كسر طوق العقل الجمعي التقليدي والشب عنه بفكر جديد يتحدى تاريخ الخوف ويتحدى العقل الجمعي التقليدي الذي يقف كجبار الصدف بيننا وبداية مسيرة حياة بفكر جديد. مثلا مارتن لوثر عندما قدم فكرة الإصلاح الديني كان شخصية تاريخية تحدى تاريخ الخوف المتراكم من التراث اليهودي المسيحي وأصبح عقل جمعي كاسد لذلك جراءته تمثلت في تحدي عقل جمعي كاسد يجب كسر حلقاته والشب عنها ولا يكون ذلك باليسير بغير تحدي تاريخ الخوف وهذا ما تحتاجه النخب السودانية فيما يتعلق بتحدي تاريخ الخوف.

وبالتالي ينبغي أن تدرك أي النخب السودانية بأنها وفقا لتاريخ الذهنيات أن عقلنا الجمعي السوداني تقليدي كاسد ويجب كسر حلقاته والشب عنها بفكر جديد يجسد فكرة الشرط الإنساني. وبالمناسبة نسبة لغياب أفكار تفكك تاريخ الذهنيات في السودان فقد إنتشر تاريخ الخوف وأصبح أكبر مساعد لسيطرة العقل الجمعي الكاسد وقد أصبح في سرمديته بسبب غياب شخصية تاريخية تعلن نهايته.

وبالتالي في ظل تاريخ الخوف أصبحت النخب السودانية تجيد الإنكفاء والإلتواء ويتهددها أي فكر جديد لذلك تجد النخب السودانية في حالة ميوعة فكرية تصيبك بالدوار فتجد أحدهم في هذا أسبوع يكتب مقالاته بروح كوز كامل الدسم وفي الأسبوع القادم يتحدث لك عن عبقرية عبد الخالق محجوب بخفة اللفيف الذي لا يجسد غير سيطرة تاريخ الخوف على أفقه في غياب معرفته بتاريخ الذهنيات الذي يتحدى العقل الجمعي الكاسد.

لذلك إذا ما تمكنّا من بسط أفكار تاريخ الذهنيات في ساحتنا السودانية وأبعدنا تاريخ الخوف يمكننا أن نؤسس لمرحلة يتقدم فيها السياسي المدرك للشرط الإنساني ويبتعد فيها القانوني التقليدي السوداني الممتلئ بتاريخ الخوف ونتيجته عبر سبعة عقود لم تأتي وثائقه الدستورية إلا كتجسيد لتاريخ الخوف وغياب للقرار والإختيار لنظام ليبرالي ديمقراطي يصبح فيه الفكر الديمقراطي بديلا للفكر الديني مثل قرار وإختيار نهرو للهند كل من الديمقراطية والعلمانية والتقنية والعلوم الحديثة.

وبمناسبة إختيار نهرو للديمقراطية والعلمانية للهند ها هي الآن تهئ الهند ومعها الصين للدخول الى مستوى إنتاج الدول الصناعية الأوروبية وبالتالي هذا الإضطراب والأحداث المتسارعة للعالم الآن بسبب أن هناك دول مثل الهند والصين قد أصبحتا في مستوى الإنتاج الصناعي للدول الغربية وهذا يوضح لنا أن الإنسانية تاريخية ومفهوم الإنسان تاريخي.

ولنر ماذا قال إيمانويل تود كانثروبولوج فرنسي وإقتصادي ومؤرخ ماذا قال عن تسارع أحداث العالم بسبب أن الهند والصين قد أصبحتا في مستوى الإنتاج الصناعي الغربي. إيمانويل تود قال أنه لأول مرة بعد الثورة الصناعية وبسبب نهضة الصين والهند الصناعية يدرك الغرب الأوروبي بأن زمن خيانة أوروبا للتنوير وقد تبدّى في نهب موارد العالم الثالث منذ حقبة الإستعمار وما بعدها قد إنتهى بلا رجعة.

والآن قد أدركت أوروبا وأمريكا بأن مرحلة إستغلال موارد الشعوب الأخرى قد إنتهت وهذا ما يجعل أوروبا وأمريكا الآن تدخلان في مرحلة إضطراب قد أدت لإنتخاب ترامب وصعود اليمين الأوروبي المتطرف في كثير من الدول الأوربية وهذا الفهم الجديد لإيمانويل تود بأن أوروبا وأمريكا لأول مرة قد أدركتا بأن هناك شعوب غير أوروبية قد دخلت الى مستوى الإنتاج الصناعي الغربي كالهند والصين وبالتالي قد إنتهى زمن خيانة أوروبا للتنوير بالإستعمار وكذلك بنهب موارد الشعوب الإقتصادية في العالم الثالث بسبب أنها لم تدخل الى حيز الدول الصناعية لهذا السبب سوف تنتظر أوروبا وأمريكا حقبة حماية إقتصادية ربما تستمر لثلاثة عقود حتى تعيد فيها بناء صناعاتها الوطنية من جديد لكي تواجه عالم قد أصبحت فيه مسألة إستغلال موارد الشعوب الأخرى غير ممكنة فهلا أدرك المثقف السوداني التغير الهائل الذي يحصل في عالمنا اليوم وإستعد للتعامل مع عالم سوف تزيد إضطراباته في العقود القادم؟ .

نرجع لعنوان مقالنا ومسألة تحطيم الذات عمانويل تود تحدث أن أوروبا وأمريكا في الثلاثة عقود الأخيرة قد أعملت كل مناشطهما لتحطيم ذاتهما وكان ذلك بتحطيم قيمهما البروتستانتية التي تبجّل التعليم والعمل الشاق والقيم الأخلاقية التي أرست مجتمعات مزدهرة ماديا من أفراد يؤمن كل فرد بسبب عقلانيته وأخلاقه بأنه متساوي مع الأخريين ومؤمن بحرية كل فرد في مجتمعه وبسبب النيوليبرالية كديناميكية فقد حطّمت أوروبا وأمريكا نفسيهما ومارستا التحطيم الذاتي.

وبالمناسبة التشظي السياسي والإجتماعي في السودان وحربه العبثية بين جيشه الكيزاني وصنيعته الدعم السريع ما هو إلا تحطيم ذاتي يمارسه السوداني بسبب غياب شخصية تاريخية تبداء تاريخ جديد مع عالم جديد أدركت فيه كل من أوروبا وأمريكا بأن مسألة إستغلال موارد الشعوب الاخرى قد إنتهت بلا رجعة أو كما يقول إدغار ألن بو ليس بعد اليوم أبدا.

 

[email protected]

تعليق واحد

  1. وكما قال الكمساري لفلنقاي آخر متنطع متفيقه من طلاب المركز الاسلامي الافريقي : “صدق الله العظيم” !!

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..