لماذا تركتَ الحصان وحيداً يا صديقي .. (في رثاء أبو بكر الأمين محمد )

فكرتُ أنْ أكتب شيئاَ عن عزيزنا أبوبكر الأمين ومعرفتي به التى امتدت لعقود، وذلك خلال فترة مرضه الأخيرة ؛ واختمرت الفكرة فى ذهني حتى أنني اخترتُ لها عنواناً مثل: “شيئ من النوستالجيا … وأبوبكر”. على أنني نكصتُ على عقبّى، خفتُ أنْ أكتب شيئاَ يشبه النعي! نعم كنتُ، كما الجميع على ما أظن، نمني النفس بعودته سالماَ… “سوف يأتي باسم الثغر يلـوِّح بالأمانى…” يوزع القفشات ويعطّر جلسات الأصحاب بالأنس الجميل. ولعلني تمثـلتُ حينها المقولة السودانية الشهيرة : “الله لا جاب يوم شكرك”؛ هكذا نحن أهل السودان نبخل على بعضنا بالعواطف ورقيق الكلام إلاَّ عند المصاب الجلل، وحتى حينها لن تعدم من يزجرك إنْ رآك باكياَ. وحين رحل العزيز أبوبكر وجدتني أخاطب نفسي متأسياَ: هأنذا أكتب عنه بدلاَ من أنْ أكتب له (إذ كان يقيني أنه كان سيقرأ ما أكتبه له رغم اشتداد المرض). على كلٍ، قضى الله أمراً كان مفعولاً، وها نحن نحاول الاحتفاء بحياة الراحل العامرة بحب الناس والوطن علّها تضيئ نبراساً للأجيال الطالعة، أو تقدم لنا بعض العزاء.

تعود معرفتي بأبي بكر ? كما هو شأن الكثيرين فى كوكبة أصدقائه الكُـثـرُ ? إلى سبعينات القرن الماضي. كانت جامعة الخرطوم حينها فى قلب الحركة السياسية فى البلاد، تموج بالأحداث وتتعدد فيها مظاهر النشاط الطلابي ووجوهه؛ كان عودنا أخضر وأحلامنا خضراء ولا يحدّها أفق. كان مقهى النشاط حافلاً بنشاط لايهدأ من صحافة حائطية، ندوات سياسية، وأركان نقاش، أمسيات شعرية، أغنيات وردي ومحمد ألأمين؛ هذا فضلاً عن المواجهات المستمرة مع سلطة مايو ومحاولة الأخيرة اخضاع الحركة الطلابية للتنظيم الحاكم. كان أبوبكر بالطبع حزءاً من كل هذا، بل كان فى قلب هذا الحراك وأحد الفاعلين فيه. لا أدري أين ومتى التقيت أبو بكر للمرة الأولى، ربما فى أحد ندوات الجبهة الديمقراطية، وفي الغالب فى مقهى النشاط؛ عموماً هو من نوع الأشخاص الذى يعطيك انطباعاً أنك تعرفه “من زمان”، رغم أنك تلتقيه للمرة الأولى.

عدا العمل السياسي والطلابي، أظن جمعني بابي بكر شغف بالشعر وبالتاريخ، وبالطبع لكلانا ولع بالصوفية والمتصوفة، غير أنه شرّق وغرّب فى هذا المجال وأبحر بعيداً فى لجج التصوف، بينما ظللتُ أنا أداعب الأمواج على الشاطئ. أذكر كنا مرة في مقهى النشاط اياه، أبوبكر وشخصي وبعض الأصدقاء أذكر منهم محمد عباس محمد علي، وقتها ردّدتُ بيتاً لمحمد المكي ابراهيم من قصيدة أمتي الشهيرة، فرد على أبوبكر مباشرة بالبيت الذى يليه، وهكذا فضينا معظم الأمسية نرتّـل أشعار ود المكي مطارحة أوسوية وسط تشجيع الحاضرين. وقد لاحظتُ اقتباس أبوبكر لأبيات من محمد المكي ابراهيم في ما خطّه فى أواخر أيامه: “أمدد نحوكم كفي عريانيين إلاَّ من معزتكم…”؛ أسمح لي يا صديقي أنْ أضيف:
اليوم أقبض كل ذرات الحنان بلحظة مرّت
وفي هذا الشروق
وكل ما تنفك عنه شرانق الزمن الوهوب
هذي اعتذاراتي، ودفعات النزوع
وكل ما خطته أيامي الصغيرة فى الدروب
يسخو الفؤاد ويغتني فيضاً من البهج المريح
بساعة تحتاطني فيها سواعدكم
وأمدد نحوكم كفي عريانيين
إلاَّ من معزتكم وحب عيونكم
يا الله كم تشبهك هذه الأبيات يا أبا بكر.

أمَّا مشترك التاريخ فقد كان فى فترة لاحقة، مطلع الثمانينات؛ كنت وقتها أعد لدراسة الماجستير فى كلية الدراسات العليا بالجامعة، وكان أبوبكر قد تخرج وتوظف فى دار الوثائق القومية . واذ كنت أعد أطروحتي حول سلطنة سنار فقد وجدت فى أبوبكر باهتمامته الموسوعية، فضلاً عن المهنية، خير محاور لتبادل الأفكار والمعلومات فضلاً عما كان يجود على به من وثائق أو تنبيهاً لبعض المظان. فيما بعد وأثناء فترة عمله فى صحيفة الميدان، كثيراً ما كنا نتبادل الأفكار حول امكانية نشر كتابي حول سنار “الفقهاء والسلطنة”. لذا فقد سررت كثيراً حين تمكنت من ايصال نسخة اليه من كتابي بعد أن أعيد نشره مؤخراً، ولكن بقيت فى الحلق غصّة أنني لم أوصل اليه هذا الكتاب إلاَّ فى الساعة الرابعة والعشرين، خلال مرضه الأخير. على أنَّ ما أفرحنى حقاً فى هذا المضمار هو ما عرفته مؤخراً من أبحاث أبوبكر حول “الأصول الرانكمية” للعربية السودانية، ها هو أبو بكر يقدم فتحاً عظيماً لتاريخ البلاد وحضارتها وليس هذا بمستغرب منه وهو المسكون بحب التاريخ والنظر فيما وراء الظواهر. وانني لأتطلع لليوم الذى نرى فيه كتاب أبو بكر الرائد هذا متداولاً ومثارا للنقاش العلمي ومحفزاً للمزيد من البحث المغامر.

أعجبني فى أبوبكر عنايته الفائقة باللغة، وقد لحظ ذلك كل من قرأ له؛ على أن ما يميز لغة أبوبكر سلاستها وانسيابيتها، فكثيراً ما يحدثك حديثاً يومياً عادياً ولكن بفصاحة تخلو من التقعر والاصطناع؛ ذخيرته من النوادر والحكايات لا تنفذ، لذا لايمل جلسائه الاستماع اليه يبحر بهم فى فضاءات متشعبة فالحديث معه دائماً ذو شجون. ومع ذلك لا أرى أنه استثمر تلك الخصلة الشهرذادية فى اجتذاب قلوب الحسان من بنات حواء؛ من يدري ربما كان وجد توأماً لروحه المتمردة من الجنس اللطيف. غير أنه ظل “العازب المطبوع” كأنه احدى شخصيات تشارلس دكنز، أو الطبري فى زمانه. والمشترك مع الطبري يتعدى العزوبية، رغم أن فقيدنا ? على عكس الطبري ? لم يخلف لنا مجلداً تلو الآخر، وان كان بمقدوره فعل ذلك، ولكنه حال السواد الأعظم من مثقفي البلاد اذ تهدر طاقاتهم وتتسرب سني أعمارهم فى هذا وذاك ولايخلفون ورائهم الا النذر اليسير مما يمكث فى الأرض.

خلال فترة اعتقاله الثانية أيام مايو (التى لم يخرج منها إلاَّ عند الانتفاضة)، كتب أبوبكر خطاباً من داخل السجن إلى خالٍ له، كتب فبه متفرقات ممتعة فى الاجتماع والأدب والتاريخ، ولستُ متيقناً إنْ كان كتبها ضمن خطة مسبقة أم خواطر عنت له فدوّنها، وإنْ كنتُ أرجّح الأخيرة. تم تهريب الخطاب من السجن. لا أدري حتى هذه اللحظة إنْ كان الخطاب قد وصل للمرسل إليه أم لا، لكن تم تداول الخطاب الذي كان فى الواقع عبارة عن كتاب (كان أبوبكر قد زيّله بعبارة: “يارب هل هذا خطاب أم كتاب”) على نطاق واسع؛ اعتبرنا ? رهط أبوبكر- أنَّ الخطاب يخصنا جميعاً وتداولناه كما كنا نتداول روايات ماركيز وحنا مينا، وأشعار محمد المكي وعبدالحي والمجذوب وقصص بشرى الفاضل وأشعاره؛ بل سمح الأديب الراحل علم الدين (رحل هو الآخر مؤخراً فى بلاد قصية رحمه الله) باضافة حواشي وتعليقات على دفتر أبوبكر، فتأمل! ما علق فى الذاكرة من ذلك الخطاب ? الكتاب ما كتبه عن المجذوب: ” قلت، رحل عن دنيانا المجذوب، وهى دنيا لم يكن عنها براض”. ها أنت الآخر تودع دنيانا يا أبوبكر، ولا أظنك كنت راضياً عنها؛ على أنَّ مرد سخطك على – ما أزعم ? لم يكن بسبب وظيفة اضطررت للبقاء فيها على كرهك لها، أو بسبب تباين روحك المتمردة الشاعرة مع محيطك الأسري والمجتمعي، إنَّـما بسبب ما آلت إليه أحوال بلد أحببته وضحيتَ من أجله، وها أنت تراه يزوي أمام عينيك مثل جسد أصابه مرض فتّاك. بلى، لا أظنك كنت راضياً عن ما آلت إليه الأمور فى بلادك، لكني آمل أن تكون قد رحلت راضياً عن نفسك حتى لو كان فى النفس شيئٌ من حتى.

حين حلت حقبة التسعينات المعتمة تفرق العديد من جيل أبوبكر ورفاقه فى المنافي والمهاجر(ومنهم كاتب هذه السطور)؛ أمَّا أبوبكر ورهط من الأفذاذ الصناديد فقد ظلوا متشبثين بأماكنهم فى بلد هجرت فيه الطير اوكارها. نعم ظل أبوبكر مع الصامدين، وأصابه ما أصابه من عسف وبطش وبيوت أشباح، ولكن ظل ذهنه متوقداً رغم الحقبة الظلامية بكل ثقلها وساحات فداها وأعراس شهدائها ومشروعها اللاحضاري. وحين انفتحت كوة ما وبرزت بعض الصحافة المستقلة، سعى أبوبكر لأن يعيد علاقته مع القراء عبر مقالات الرأي وغيرها كما مارس الترجمة؛ لكنه ظل وفياً لاهتماماته الموسوعية كما تبدى لاحقا في كتاباته، بالأحرى فتوحاته ضمن مجموعة حضارة السودان.
حين عدتُ للسودان عام 2000 بعد غيبة تطاولت، بحثتُ كثيراً عن أبوبكر، وبمساندة أصدقاء مشتركين، ولكن لم نقف له على أثر حتى خلصت اجازتي وغادرت. هكذا كان حاله، كما قال لي ذات مرة الصديق عبد الرحمن أبو كرّوق، يختفي أبوبكر فجأة ولا يستطيع أحد الوصول إليه لا عبر الهاتف ولا غيره، ثم يظهر مرة أخرى أيضاً فجأة. وفي تقديري أنْ لا أحد يفكر فى سؤال أبوبكر أين كان ومن يسأل هذا “الدرويش المتجوّل” الذى لو سُئل ربما قال:
شحبت روحي، صارت شفقا
شعت غيماً وسنا
كالدرويش المتعلق في قدمي مولاه أنا
أتمرغ في شجني
أتوهج في بدني
غيري أعمى، مهما أصغى، لن يبصرني
فأنا جسدٌ شجرٌ
شيء عبر الشارع

في العشرية الأولى من هذا القرن تكررت لقاءاتي بأبى بكر فى معظم زياراتي للسودان. كان لقاؤنا الأول بعد تلك الغيبة الطويلة فى مكتبة عزة، وبالصدفة المحضة؛ ثم تكررت لقاءاتنا بعد ذلك، أحيانا بمعية عبدالرحمن أبوكرّوق، ساعتها أجد نفسي محاطاً بسخرية لاذعة من الأثنين ومن كل شيئ. وفي أحياناً يتوفق المسعى للاجتماع مع ابوبكر وبصحبة مجموعة طيبة من الأصدقاء من الصامدين شأن أبوبكر نفسه، منهم منتصر الطيب، الأمين محمد عثمان، عبدالرحمن الكاروري، جاد الله آدم الرضى، محمد عبدالمنعم فوكس؛ والتحق بهم بعد العودة للسودان يوسف أحمد آدم (سوس)، خالد الزين، والرجل النادرصاحب القلب الكبير صلاح محمد ادريس، وبالطبع يكون أبوبكر زينة المجلس وسامره؛ التعازي لهم جميعاً. وعن طريق أبوبكر تعرفت إلى مجموعة طيبة أخرى، هى مجموعة الترجمة (الأساتذة الأجلاء محمد عمر، محمد الخاتم، عصمت محمود الشهيربـ ود محمود، وعبد الرحمن أبو كروق) والتي تسمى “البوتقة”، وقد عرفتُ أصل التسمية مؤخراً من أبي كروق وهوالمكان الذى تلتقي فيه المجموعة، وفى رأيي أنَّ التسمية تشبه أبوبكر تماماً، رغم أنه ليس صاحبها ذلك بأنه يأتيك دائماً بالغريب والطريف دون تكلف أو عناء.
وأخيراً التقيته اللقاء الأخير خلال مرضه وأثناء تواجدي بالبلاد فى يناير الماضي. لطالما اسعدني وآلمني في آنٍ ذلك اللقاء. على أنني أشعر ببعض العزاء حين أستحضر التفاصيل، وأذكر كيف كان أبوبكر هو أبوبكر الأسطوري نفسه يتحدث بحيويته المعهودة ولغته المتميزة. حين دخلت عليه وجدته محاطاً بثلة من الأصدقاء وأثنان من اخوته، وحال جلوسي بينهم قدمني للجميع وقدمهم لي فرداً فرداً وبتفصيل دقيق لا يحسنه إلاَّ أبوبكر، مركزاً على مأثرة ما، لكل من الجالسين، وكان بينهم كامل مجموعة “البوتقة”.
——————
نعم، عنوان هذه القطعة مقتبس من قصيدة درويش ? ملحمة الرحيل ? ” لماذا تركت الحصان وحيدا” ولكن بشيئ من التصرف، وهى القصيدة التي يقول فيها:
لماذا تركت الحصان وحيدا؟ً
لكى يؤنس البيت، يا ولدى،
فالبيوت تموت اذا غاب سكانها …
من يؤنس وحشة امكنتك الأثيرة بعد رحيلك يا صديقي؛ من يؤنس مجالس سمارك وخلّانك … من يملأ الفراغ الذي خلفته؟ هل يا ترى سقطت عن صهوة جوادك بغتة، أم ترجلت طوعاً وتركته يعود إلينا وحيدا؟ً
لك المعزة والود المقيم ياصديقي. سائلين المولى أنْ ينزل عليك شآبيب الرحمة والغفران، وجميل الصبر لوالدتك ولأحبائك جميعهم.

عبد السلام سيد أحمد / بيروت
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. شكراً لك يا دكتور عبد السلام.
    مقالة رائعة، زاخرة بالمغزى وحسن القول. بالفعل فإن المرحوم أبو بكر الأمين قد ترك فراغاً فاغراً في وجداننا المشترك.
    حتى بالنسبة للذين لم يزاملوه في دراسة أو عمل، بحكم فارق السن مثلاً، يحملون عنه انطباعاً راسخاً بأنه سوداني بسيط، سلس، محبوب. قادر على تجسير الهوة بين الأجيال، عارف عميق المعرفة بالشخصية السودانية ومرتكزات تاريخها وفسلفة ذلك التاريخ. لذلك فقد كان موجوداً بيننا، وغير موجود! من هنا فقد استملحت كثيراً وصفك له بالدرويش المتجول.
    فشكراً لك على هذه الإضاءة الحافلة بالمعنى. ونرجو ألاّ تحرمنا من كتابات رفيعة من شأنها أن تجمل حديقة حياتنا التي صوحتها الإنقاذ وعمدت إلى نشر الحشائش الضارة بين أرجائها!!
    ياسين حسن ياسين، الرياض

  2. شكراً لك يا دكتور عبد السلام.
    مقالة رائعة، زاخرة بالمغزى وحسن القول. بالفعل فإن المرحوم أبو بكر الأمين قد ترك فراغاً فاغراً في وجداننا المشترك.
    حتى بالنسبة للذين لم يزاملوه في دراسة أو عمل، بحكم فارق السن مثلاً، يحملون عنه انطباعاً راسخاً بأنه سوداني بسيط، سلس، محبوب. قادر على تجسير الهوة بين الأجيال، عارف عميق المعرفة بالشخصية السودانية ومرتكزات تاريخها وفسلفة ذلك التاريخ. لذلك فقد كان موجوداً بيننا، وغير موجود! من هنا فقد استملحت كثيراً وصفك له بالدرويش المتجول.
    فشكراً لك على هذه الإضاءة الحافلة بالمعنى. ونرجو ألاّ تحرمنا من كتابات رفيعة من شأنها أن تجمل حديقة حياتنا التي صوحتها الإنقاذ وعمدت إلى نشر الحشائش الضارة بين أرجائها!!
    ياسين حسن ياسين، الرياض

  3. شكرا دكتور عبد السلام … نحن نحتاج بالفعل الى مثل هذه المقالات من حيث الموضوع واللغة وزيادة الوعى والمعرفة…

  4. شكرا دكتور عبد السلام … نحن نحتاج بالفعل الى مثل هذه المقالات من حيث الموضوع واللغة وزيادة الوعى والمعرفة…

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..