مدافن الكرو.. الحضارات الدفينة تحت أنقاض الهياكل في الشمال

الكرو ? زهرة عكاشة (الكرو) منطقة أثرية تاريخية تبعد “15” كيلو متر عن كريمة في شمالي السودان. وتحوي المدينة أحد أهم المقابر الأثرية التي تؤول إلى الأسر الملكية الكوشية، وتعود للحقبة التاريخية “700” ق.م، حوالي “2700” سنة قبل الآن، منذ عهد ملوك الأسرة الخامسة وقد تم اكتشافها بواسطة عالم الآثار الأمريكي جورج أندرو ريزنر. قسم ريزنر المنطقة تضاريسياً إلى ثلاثة أقسام، ويبدو أن المنطقة المركزية في الوسط هي الأقدم لاحتوائها ذاك الوقت على شواهد قبور وركام يعود الى ما قبل الحضارة الكوشية، وأن أقدم هذه القبور يعود إلى حقبة الفرعون شيشنق “850” ق.م، لكن العلماء المعاصرين مثل تيموثي كاندال وحكيم ولازلو توروك يعتقدون أن هذه القبور تمتد إلى أبعد من ذلك بكثير وتحديداً إلى فترة الرعامسة اي الى العام “1070” ق.م، وقد تراجع كاندال عن هذا الرأي مؤخراً والتزم بنظرية ريزنر. طبيعة الموقع بحسب المكتشف ريزنر، فإن الجزء الأعلى من المدينة يضم “4” قبور، وإلى الشمال عبر الوادي الشمالي توجد “6” أخرى، وإلى الشرق يوجد صف من ثماني إهرامات، وفي أقصى جنوب هذا الصف يوجد هرم الملك كاشتا وجثمان زوجته الملكة باباتشما، وأمام هذا الصف يوجد صف آخر من الإهرامات يحتوي على قبور الملوك تهارقا وشباكا وتنوت أماني على التوالي، والى الشمال من هرم الملكة بابا تشما توجد إهرامات الملكات نبرا، وخينسا وكلهاتا وارتي. وفي الشمال الغربي من الهرمين توجد “4” صفوف من القبور بطول “120” متراً، تحتوي على جثث للخيول، وقد دفنت بصفوف منتظمة وهي اربعة خيول ثم ثمانية ثم اربعة على التوالي، ويعتقد أن القبور الأربعة الأولى تعود لعهد الملك تهارقا في حين يعود الصف الثاني لعهد الملك شباكا والصف الثالث لعهد الملك شبتكو والصف الرابع للملك تنوت أماني وقد تعرضت هذه القبور للنهب، لكن ما تبقى منها من زخارف ورسومات على الحائط كافياً للتأكيد بأن الحضارة الفرعونية بدأت من هنا. إهمال متعمد من المؤسف أن لا يتبقى من تلك الحضارة سوى جُدر فقط، يحاول خفيرها العم علي عوض الكريم، الذي ظل يحرس موقع الكرو الأثري منذ العام “1966”م، المحافظة عليها بقدر استطاعته رغم السور المتهالك و القفل (الطبلة) المتواضع. الناظر للمكان يجده خالياً من أي احتياطات تأمينية، وعندما تلج مقبرة الملك تنوت أماني، تصاب بالحسرة كونها فارغة إلا من رسومات تعبر بدقة عن معتقدات الحقب الكوشية في العودة الى الحياة الابدية بعد الممات. و رغم قيمة المكان التاريخية تكاد الجهات المسؤولية لا تبذل الحد الأدنى من الجهد من أجل الحفاظ عليها، سيما وأن المقبرة المجاورة هدمتها مياه الأمطار لافتقارها الحماية اللازمة، وتركها نهباً للعوامل المناخية تفعل بها ما تشاء، خاصة سور المنطقة الاثرية المتهالك، أولم يكن ممكنًا استبداله بآخر ذو قيمة بحجم قيمة المكان التاريخية. بالنسبة لي زيارة مقبرة الملك تنوت أماني كان أمراً غريباً ومدهشاً سيما النزول تحت الأرض لرؤية تاريخ عريق يؤسس لأصولنا وحضارتنا. النظر لجمال الرسوم التي تعبر عن الطقوس الجنائزية للملوك، وخطت بدقة متناهية وبالوان قوية لم يستطع مرور الآف السنين محوها غاية في الروعة، وهنا قال العم علي عوض الكريم، وهو يشير بيده الى مكان يفترض أن يكون مرسوماً فيه تابوت الملك تنوت أماني: “يفرش تابوت الملك باجمل واغلى قماش في ذلك الزمان يُرقد عليه الملك وتوضع بجانبه هدية”، وتابع: لان معتقداتهم تقول من يموت يعود إلى الحياة مرة أخرى في حياة ابدية بعد التأكد من صلاح أعماله. ولأن المياه غمرت المكان وهدمت مدافن ومحت رسومات عدد منها، إلا أنها لم تمحُ إلا قليل من هذه المقبرة التي بحسب العم علي بُنى مدخلها في العام “1924”م بطوب أحمر مقاسه “30”سم بنوه الإنجليز حتى لا تدخلها مياه الأمطار. وقال: (حتى لا تنخر الأمطار الطوب وتتسرب المياه الى الداخل نضع عليه غطاء من “الزبالة” كل عام حفاظاً عليه). المسيرة الجنائزية استطاع العم علي وصف المسيرة الجنائزية للملك حتى يعود للحياة مرة اخرى ان كانت اعماله جيدة، وقال: (الجزء العلوي من حائط المقبرة عند المدخل رسمت شمس وحولها نجوم كثيرة، وعلى الجانب الأيسر من المدخل يوجد تابوت الملك تنوت أماني يحرسه إلهان، لكن مسحته المياه، بعدها يظهر إلهان وهما يقودان الملك الى الحساب). وأشار بيده لحشرة رسمت على الجدران مرفقة بكتابة باللغة الهيلوغروفية. وقال: (هذه “جعرانة” “كربيت” كتبت عليها تعويزات وهي مقدسة لديهم ويعبدوها، توضع مع الملك في التابوت، بعدها نجد الآلهة يقفون استعداداً لمحاسبة الملك أمامهم “طائر” يرمز لـ”روح” الملك الذي تحولت بعد مماته الى “طيرة” وبينهما “قلب” ويرمز لـ”قلبه” وضع على ريشة ميزان للمحاسبته، وتابع: يظهر في الصورة ان الطيرة “الروح” تميل على القلب وتقول له “لا تتحدث عني بالسوء يا قلبي أنا بسقي العطشان وأطعم الجيعان وأحسن على المحتاج)، ويظهر في الرسم الإله حورس واقفاً ينتظر نتيجة الحساب، فاذا كانت أعماله سيئة تأخذ الطيرة روحه إلى السماء وتنتهي حياته، إما إذا كانت حسنة ترجع له مرة أخرى. إلاله أونبيذ ولأن الملك تنوت اماني كان حكيماً وعادلاً أعيدت له روحه مرة أخرى ليحياة الحياة الأبدية. وقال العم علي: “بعد إعادة روحه الى جسده من هنا تبدأ حياته الابدية، ويظهر هنا آلهة قرود رافعين أيديهم يعبدون الشمس، بجانبهم الكلب الإله أونبيذ، وفي التابوت مدت اليه العافية حتى ترد روحه، ويظهر الملك ينظر الى نفسه في المرآة بعدها أخذ آلهة الحياة أبناء الإله حورس حتى يعيدوه للحياة الأبدية خارج المغبرة. ولفت إلى أن هؤلاء الملوك كانوا يتخذون من جبل البركل سكناً والكرو مدافن لهم. ساتر حماية وبعد أن خرجنا مع الملك للحياة مرة أخرى أشار العم علي إلى أن المكان يخلو من الزوار في فصل الصيف لسخونة الجو خاصة في المقبرة لأنها تحت الأرض ولا يوجد بها تهوية، إنما يحرص المهتمون رغم بساطتهم زيارة المكان في الشتاء. وقال: (يغلب على الزوار الأجانب، وفي ديسمبر من كل عام يأتي المنقبون والباحثون الأجانب)، أما السودانيون فوصف عددهم بالقليل يأتون من الخرطوم وبورتسودان. وأضاف: (السنة الماضية اكتشف الأجانب أربع غرف تحت هذا الجبل الذي يقع شرق مقبرة تنوت أماني، لكنهم لم يكملوا التنقيب لأن حجارة الجبل سقطت عليهم فلم يتمكنوا من إكمال الحفر وقرروا التوقف والعودة مرة أخرى بعد تجهيز ساتر للحماية
اليوم التالي