عبقري

بروين حبيب

انطفأ في الثامنة والثلاثين من عمره، بعد أن أصيب بمرض نادر هو السل في الدماغ، ما يسمى بالتهاب السحايا السُّلِّي الذي يصيب الأطفال عادة، ونادرا ما يصيب الكبار، وفي ظرف أسبوعين تغلّب عليه المرض وحمل روحه إلى خالقها.
مثل نجم ساطع مرت غيمة مفاجئة وأخفته. إنه توماس وولف الذي تحتفي به نيويورك في هذا الخريف بفيلم يروي أهمّ مرحلة من حياته. كاتب مجنون أصيب بلوثة الشعر والنثر، وظلّ يكتب بنهم فريد من نوعه حتى آخر لحظة من حياته، حظي بلقب «العبقري» من طرف «نيويورك تايمز» آنذاك، أمّا عبقريته هذه فيمكن فهم بعض منها إن تابعنا الفيلم الذي يحتفي به ويروي علاقته بناشره ماكسويل بيركنز وتفاصيل أخرى ستبدو لأهل الأدب نقاطا مشتركة في حيواتهم المختلفة.
في شهر أيلول/ سبتمبر 1938 كان يحتضر في أحد مستشفيات ماريلاند، ويعيش آخر أيامه بين الغيبوبة وشبه الغيبوبة، بعد أن تورّم دماغه وصعب القضاء على المرض.
لكنه كما كتب بيركنز في مذكراته استطاع أن يترك له رسالة بخط يده يعتذر فيها عن عنجهيته وإساءته له قبل مرضه. بين سطور تلك الرسالة التي نصغي إلى كلماتها بصوت «جاد لو» الذي أدّى دور وولف في الفيلم سينزف الدمع حارًّا من كل كلمة كتبها ندما على علاقة عمل وصداقة لا مثيل لها.
في قمة عنفوان الشباب غادر الحياة تاركا أربعة كتب ضخمة يروي فيها سيرته الروائية، تاريخ عائلته بمنظور طفل لم يشأ أن يكبر. صحيح أنه عاش عمرا قصيرا مليئا بالضجيج وأنواع عجيبة من الصراخ، إلاّ أنّه كان محظوظا، لأنه حظي بكل ما يمكن أن يحظى به كاتب، من دون أن يبلغ أرذل العمر، ومن دون أن ينزل عن القمة التي بلغها بدعم من بيركينز، ومن دون أن يفقد شغف الكتابة الذي ينتاب الكتاب في فترات من حياتهم. كانت ظروفه كلها جيدة مقارنة مع كتاب آخرين أمثال إرنست همنغواي الذي كان يمقته، وسكوت فيتزجيرالد صاحب رواية «غاتسبي العظيم»، الذي عانى من مرض زوجته وصراخ جارته.
كان يعرف ما يريد، على الأقل حين حدّد أمام عينيه هدف نجاحه على مستوى الكتابة. لم يبحث عن الزواج، ولا عن علاقة مستقرة من أجل بناء عائلة، كان الأدب والشعر يستحوذان على مخه بالكامل، ولكنه وجد الشغف المتجدد، في علاقات عابرة? في الأماكن التي كانت تشعل جذوة عشقه للسرد، والاحتكاك الدائم بالأوراق والأقلام.. نعم كان أنانيا، لكن من هم مشاهير العالم الأقوياء إن لم يكونوا أولئك الأنانيين الذين شقوا طريقهم بين جثث أصدقائهم ومحبيهم والمتطفلين عليهم.
حتى معجبوه كان يفلت منهم مثل طير لا يحتمل أن يدخل قفصا. مقارنة مع فيتزجيرالد الملتزم بواجباته كزوج، المهذب في علاقته مع من حوله، المحترم أكثر من وولف، كانت النتائج الجيدة لصالح وولف، إذا ما عرفنا أن الأول كان بالكاد يجد وقتا ليكتب مئة كلمة في اليوم، فيما الثاني يكتب أكثر من خمسة آلاف كلمة وأحيانا تبلغ العشرة آلاف!
هل كان ماكنة؟
روايته الأولى التي أحضرها في ربطة ضخمة من الأوراق لم تكن شيئا أمام أربعة صناديق من الرزم الضخمة من الأوراق. كان يكتب وهو واقف، وهو شبه نائم، وهو يسافر في قطار، وهو يأكل، وينام و في رأسه الكثير من القصص القديمة والذكريات التي تريد أن تخرج في هيئة كلمات. هذا النوع من الكتاب يملكهم الأدب أكثر مما تملكهم الحياة نفسها، وأكثر مما يملكون أنفسهم. ولا بأس في أن نعتقد أن وجودهم العابر لحياة طويلة مقارنة مع غيرهم ليست أكثر من حاجة لجعلها أجمل.
لقد قال وولف نفسه إن الحياة بحاجة للشعر. وقام بما يراه صائبا، وكتب الكثير من الشعر في رواياته، مع أن أغلبه ذهب شطبا بقلم بيركنز، لكن الرجل لم يغضب، لقد حافظ على غزارته في الإنتاج، أمّا الحظ فقد جاءه مع بيركنز الذي أعاد صياغة جمله وتهذيب تلك الأدغال المجنونة من الشعر والنثر وهي تخرج من رأسه.
ترى هل يحتاج الأدب فعلا لمن يهذبه؟
هل لدينا الجرأة لنواجه كاتبا عربيا بأن رواياته الضخمة «إسهال» لا فائدة منه، وأن أغلب الروايات الضخمة يمكن اختصارها إلى النصف وأحيانا إلى الثلث؟
هذا موضوع آخر، لكن الناشر إن لم يكن لديه من يقرأ النصوص ويتمحصّها ويشطب منها زوائد الكلام فما الفرق بين وظيفته وبياع البطاطا؟ وما الفرق بين كاتب يريد أن يشغل العالم بأدبه وكاتب يؤمن بنبوَّته وتمنعه عظمته من تغيير كلمة واحدة من «كلامه المنزّل?آمين»؟
من الصعب أن نقرأ حياة كاتب غربي ولا نجد فيها صخب الحياة التي عصرته وعجنته وخبزته وحمّصته. تصعقنا مغامراتهم مع الأدب والحياة، وتصعقنا أيضا شجاعتهم حين يكتبون عن أنفسهم بطلاقة الطيور التي تطير إلى أن تبتلعها الآفاق البعيدة. من الصعب أن نفهم تلك العقدة التي تسكننا من قول أنفسنا بصراحة، والاعتراف بنزق أخلاقنا وسلوكاتنا ومشاعرنا من دون خوف من القارئ. لقد عرفت مئات الكتاب والكاتبات وجها لوجه، بعد أن قرأت ما كتبوه، وتأسفت كثيرا حيث وقعت على كُتاب زخرت حياتهم بما يدهش ملايين القراء، لكنهم كتبوا أدبا مغايرا عمّا عاشوه و آمنوا به، حتى أن أدبهم لم يكن سوى القناع الذي خرجوا به للناس لكسب تعاطفهم ومحبتهم وشفقتهم أحيانا. بعضهم أعاد صياغة تاريخ حياته ووهب لنفسه تاريخا ناصعا ليكسب به مزيدا من المعجبين وكأن الأمر شبيه بحملة انتخابات سياسية، إن لم يكن أسوأ.
لست بصدد توجيه الرصاصة إلى رأسي كما كتب لي قارئ من عمّان، أنا أوجّه الرّصاصة إلى الزجاج الملون الذي يغطي واجهة حياتنا. أريد للرؤية أن تكون أوضح، وللأدب أن يكون أصدق. وإن كنت في هذا المُقام الضيق لا أستطيع قول الأشياء كلها، فلا بأس من دعوتكم لدخول صالة السينما ومشاهدة فيلم «جينيس» وأقسم أن كل كاتب أو شاعر سيرى جزءا من نفسه في الفيلم، ففي النهاية مجانين الأدب لهم جينات متشابهة، لكن هناك من تروضه الحياة أو يروضه المجتمع، وهناك من يتمرّد فيروّض من حوله ويفرض جنونه على مجتمعه، اللهم إن التقى بشخص يشبه بيركنز له القدرة على تحويل لهب الشعر وألسنة النار المنبعثة من رأس يحترق إلى ألعاب نارية جميلة.
لقد تأثرت بالفيلم جدا، وتساءلت كثيرا ترى لو أن وولف لم يلتق بيركنز ما كانت ستكون حياته؟ ولو أن مئات «الوولف» عندنا التقوا ببيركنز ما كانت ستؤول إليه حيواتهم؟ تعرفون سلفا أن لا عدالة في الحياة. أست لكن هل تعرفون أن لا عدالة في الأدب أيضا؟

شاعرة وإعلامية من البحرين

القدس العربي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..