أخبار السياسة الدولية

حرب في الكونغو: ما علاقة روسيا؟

 

د. مدى الفاتح

تطورت الأحداث في جمهورية الكونغو خلال الأسبوعين الماضيين بعد تمكن متمردي حركة 23 مارس، المعروفة اختصاراً بـ»إم 23»، من اكتساح مناطق واسعة في شرق البلد الافريقي الكبير. سيطرة المتمردين على مدينة غوما الاستراتيجية، التي تقع على بعد 1500 كيلومتر شرق العاصمة الكنغولية كنشاسا، ومئة كيلومتر فقط غرب العاصمة الرواندية كيغالي، في السابع والعشرين من يناير/ كانون الثاني الماضي، شكّل نجاحاً غير مسبوق للحركة، التي كانت تنشط كمعارضة مسلحة في هذه المنطقة منذ عقود. هذا التقدم غيّر بشكل درامي معادلات القوة في الإقليم المضطرب منتجاً موجة جديدة من النزوح واللجوء، حيث تقدر الإحصائيات أعداد الفارين من أتون الصراع بمليون شخص.
هذا هو الهجوم الكبير الثاني بعد الهجوم، الذي تم في عام 2012، والذي وجد اعتراضات قوية من قبل القوى الدولية وجعل رواندا تواجه حملة من الانتقادات، التي انتهت بموافقتها على سحب جنود الحركات المتمردة، الذين ترعاهم. في ذلك الوقت كانت الظروف مختلفة من ناحية الانشغال الإقليمي وجدية أطراف كثيرة في حماية «الشرعية الدولية»، كما أن دور الأمم المتحدة كان أقوى عندها بكثير من دورها الحالي، الذي يكتفي بالمراقبة والتنديد ورصد الانتهاكات. كما يمكن أن نتوقع، فالصراع في الكونغو معقد، كعادة الصراعات في البلاد الغنية بالموارد والمعادن، وتتداخل في ساحاته مصالح إقليمية ودولية، بحيث لا يمكن النظر إليه كمجرد حرب أهلية. حركة «إم 23»، على سبيل المثال، لا يمكن الحديث عنها بمعزل عن داعميها في الإقليم. على رأس أولئك الداعمين رواندا المجاورة، التي تستثمر فيها وتدعمها بشكل مكشوف أكدته تقارير الأمم المتحدة، وجعلت أنطونيو غوتيريش الأمين العام للمنظمة الدولية، يحذر من خطر اندلاع حرب إقليمية. بين مزدوجين يمكن أن نلفت الانتباه هنا إلى أن الحرب الأهلية الرواندية الشهيرة في بداية التسعينيات، التي تحولت إلى أحد نماذج الإبادة الشاملة، كانت لها تداعيات كونغولية أيضاً، حيث امتدت الحرب بين قبيلتي الهوتو والتوتسي إلى داخل حدود الكونغو، في قارة لا يأبه سكانها كثيراً بالحدود، التي وضعها المستعمرون بشكل اعتباطي، ومن دون مراعاة للحساسيات الإثنية والتداخل القبلي.

الصراع في الكونغو معقد، كعادة الصراعات في البلاد الغنية بالموارد والمعادن، وتتداخل في ساحاته مصالح إقليمية ودولية، بحيث لا يمكن النظر إليه كمجرد حرب أهلية

الأزمة الكونغولية هي مثال آخر على ضعف دور مؤسسة الأمم المتحدة، التي تملك، منذ بداية الألفية، بعثة خاصة ومكاتب في البلاد تحت اسم «مونسكو»، لكن من دون أن تكون لها أية مساهمة حقيقية في نزع فتيل التوتر، أو في حماية المدنيين. الأمم المتحدة، التي يطلب البعض تدخلها في أزمات أخرى في المنطقة بحجة الحق في الحماية، بدت فاشلة حتى في حماية منسوبيها، ففي الهجوم الأخير على سبيل المثال فقدت «قوة حفظ السلام» عدداً من أفرادها وكذلك هو الحال عند كل احتدام للمعارك. المفارقة هي أنه تم إلحاق الكتيبة العسكرية بمكتب الأمم المتحدة منذ عام 2013 تحت مسمى «لواء التدخل السريع»، قبل أن تستبدل بوحدات أخرى افريقية، كل ذلك في سبيل تحقيق سلام شامل لم يتم الوصول إليه، في إطار هذه الفوضى، وفي خضم ذلك الإحساس الشعبي بالغبن، يمكن فهم التظاهرات، التي استهدفت بالتخريب سفارات غربية وافريقية في الكونغو، بالنسبة لكثير من المواطنين فإن بلدهم يتعرض لمؤامرة دولية وإقليمية تقودها رواندا، التي تتمتع بعلاقة جيدة مع الغرب، الذي يتغاضى عن تماديها ويتعامل معها كوسيط لنقل الثروات الكونغولية. مجلة «إيكونومست» اعتمدت مقاربة جديرة بالنظر في ما يتعلق بالأزمة، حيث اعتبرت أن رواندا قامت في الكونغو بما قام به بوتين في إقليم دونباس في عام 2014، حيث ضمه إلى روسيا دون أن يعترف بأنه قام بذلك معتبراً أن ما حدث هو مجرد انتصار عسكري للانفصاليين. وجه المقارنة هو أن الجميع كان يعلم أن أولئك الانفصاليين مدعومون وممولون من روسيا، كحال مجموعة «إم 23»، التي لا يجهل أي مراقب ارتباطها برواندا. بررت روسيا آنذاك علاقتها بالانفصاليين، الذين كانت تعتبر أنهم يحمون الأقليات الروسية من خطر العدوان والاعتداءات، لكنها نفت أن يكون هناك أي تدخل مباشر للجيش. كان ذلك قبل بدء العملية الشاملة والحرب المفتوحة على أوكرانيا، التي تم فيها ضم ذلك الإقليم.
تصف المجلة بول كاغامي بديكتاتور رواندا، وتقول إنه يسير في طريق بوتين متبعاً مخططه الهادف لضم أراضٍ في شرق الكونغو بذريعة حماية إثنية التوتسي وتحقيق السلام. يحاكي كاغامي القيادة الروسية في إمعانه في الإنكار، ففي الوقت، الذي يتابع فيه مراقبون دخول آلاف الجنود الروانديين ومشاركتهم في القتال، يصر الزعيم الرواندي على نفي كل ذلك وتكذيب كل الأخبار المتعلقة بتورط بلاده. الآن يبدو الوضع في شرق الكونغو مروعاً، فالمعادن تخضع للنهب والتهريب، في حين تنتشر العصابات المسلحة وأعمال القتل والسلب والاغتصاب، فيما يلاحظ الجميع تحول رواندا، التي لم تكن معروفة كمصدّر للذهب، إلى أهم مصدري الذهب في المنطقة. رواندا مع كل ذلك ليست روسيا، ولن يكون من السهل عليها أن تتحدى العالم وتعلن ضم إقليم شرق الكونغو، مثلما فعلت روسيا في إقليمي الدونباس أو القرم، مع ذلك فإنها قد لا تحتاج لذلك، إذا ما استطاعت خلق نظام حليف في المنطقة ومنفصل عن الدولة الكونغولية، أو إذا ما مضت إلى ما هو أبعد من ذلك عبر تمكين حكومة جديدة موالية في كنشاسا، هذا الخيار سوف يكون مناسباً ومتسقاً مع القانون الدولي وسيجنبها مخاطر الظهور كدولة محتلة.
من أجل تحقيق مصالحها تلعب رواندا على الحبال الدبلوماسية بذكاء فتخلق علاقات قوية مع دول الخليج وشراكات مع كل من الصين وتركيا، فيما تعمل على ربط مصالح عواصم أوروبية بها، كما فعلت مع اتفاقية نقل المهاجرين غير الشرعيين وطالبي اللجوء من بريطانيا إليها، أو مع موافقتها على حماية خطوط الغاز الفرنسية في موزمبيق. روسيا، وفق منطق هذه المقاربة، مسؤولة عما يحدث في الكونغو، لأنها كانت صاحبة السبق في اقتطاع أراضي الغير، وتمرير ذلك تحت ذريعة حماية المصالح ومناطق النفوذ، ذلك هو ما شجع رواندا على القيام بهذا التحرك لتأمين مناطقها الحدودية. تلفت هذه القضية إلى إمكانية أن يشجع هذا دولاً كثيرة أخرى مثل الصين والولايات المتحدة الأمريكية على محاكاة ذلك النموذج «الإمبريالي»، خاصة وأن ذلك ظهر بالفعل على يد الرئيس الأمريكي ترامب، الذي لم يجد غضاضة في المطالبة بضم كندا وغرينلاند وحتى قطاع غزة.
من المهم التذكير بأن رواندا، وعلى الرغم من أنها كثيراً ما تذكر في سياق إيجابي، كدولة ناهضة ناجية من محرقة بشرية وعمليات إبادة جماعية، هي مجرد بلد معتمد على الدعم الغربي والمعونات، التي لا تستطيع العيش من دونها. هذا الدعم يتم تقديمه بسخاء لعدة أسباب من بينها، الإحساس العميق بعقدة الذنب جراء التورط في المجزرة، سواء بالتواطؤ المباشر والتحريض، أو بعدم التحرك. هذا يعني أن تحول كاغامي لحاكم «طويل الأمد» وصاحب طموحات «إمبريالية» ليس أمراً مفاجئاً لأولئك الداعمين، الذين كانوا يستطيعون بسهولة، إن أرادوا، لجم تلك الطموحات وتحجيم تلك الرغبة في التوسع، كما فعلوا مؤخراً حين أجبروا المتمردين على وقف إطلاق النار من أجل إدخال المساعدات الإنسانية.

القدس العربي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..