
الأستاذ/ محمد إبراهيم نقد
“أرقد قفا .. يكفيك خُلُّق“
هذه ليست كتابة أو سيرة عن هذا الأستاذ الوطن. فمَن أنا. وإبن متى، حتى أدلف إلى ذلك ؟! وهو الذي قضى مثل سنوات عمري مُتخفياً يمارس عمله السياسي ويقود حزبنا العتيد. بل هذه بعض أسطُر. تحكي بساطته وحميد أخلاقه. أردت من خلالها أن أتجول بكم في رحابه .
لقائي الأول به كان بمنزله العامر ذات مساء. وأنا حينها لازلت طالباً بالجامعة. صافحته بحرارة وجلسنا وأنا بين الحين والأخر أرمقه بنظرات جانبية متفحصة ولا أصدق نفسي بأنني أجلس في حضرة هذا الوطن العملاق، بعد أن كنا نسمع عنه فقط. بعدها توطدت علاقتي به من خلال عملنا بمكتب الطلبة الشيوعيين فقد كان متابعاً ولصيقاً بالطلاب وظللتُ لأعوام معدودة أنهل كغيري من مَعِينَه الذي لم ولن ينضب أبداً .
ذات مرة، وبينما كنت أستقل المركبة العامة في طريقي إلى الجامعة لتأدية إمتحان المعادلة، رن جرس هاتفي المحمول. كان المتحدث الأستاذ نقد. وفي الحقيقة فقد ذهبت بعيداً وقلت في نفسي “تكليف حزبي جديد”. إلاّ أنّه قال “سألنا عنك قالوا عندك إمتحانات ونازل الليلة”. قلت ليه أيوه. قال: قلنا نتصل ونطمّن شد حيلك. شكرته وأنهى المحادثة. لم أصدق مسامعي فقلت في نفسي معقولة رغم ضغوطات العمل السياسي اليومي ومن إجتماع إلى إجتماع، الأستاذ بيتصل وبيسأل عن إمتحاناتي!! بعدها بأيام إتصل مستفسراً “أها ماشي كيف في الإمتحانات” فأخبرته بالحاصل. فقال “ما دايرنك تجينا بي مادة أو مادتين” قلت ليه إن شاء الله. إلا أنني لم أوفق في تلك الإمتحانات حينها. فإلتقيت به ظهر ذات يوم بالمركز العام، فسألني عن ما جرى فأخبرته بفشلي. فقال مواسياً “لكل جواد كبوه شد حيلك في المرة الجايه” وقد كان .
إنقضت فترتي المحددة بمكتب الطلبة الشيوعيين. إلا أن مكتب الطلبة رأى حينها تمديد الفترة. وأبديتُ موافقتي. إلاّ أننا فوجئنا برفض سكرتارية اللجنة المركزية حينها. وهو ما عبّر عنه صراحةً الأستاذ نقد “فترتكم إنتهت خلاص تمشوا ويجوا غيركم”. إلاّ أن المناقشات استمرت إلاّ أن تمت الموافقة. وفي الحقيقة فقد استغربت للرفض القاطع الصادر من الإستاذ نقد. وكنت حينها أراه تدخلاً غير مبرر في قرار إتخذه مكتب الطلبة. ولم أعِ حينها ما قصده عندما نظر إلي قائلاً “ياخي عندكم اُسرة راجياكم” “الشغل ده ما ساهل”. وهو بكل تأكيد لم يكُن يتحدث من فراغ. وهو الذي عرك الحياة بكل تفاصيلها.
بحكم تفرغي حينها، كنت أتقاضى وقتها مبلغاً من المال ساعد في سد بعض الإحتياجات الأسرية البسيطة. في ظل ظروف حياة قاهرة. كان دائماً ما يقول “القروش دي أدوا منها ناس البيت ساهموا معاهم شوية”. كنت أجالسه أحياناً متى ما إلتقيته بالمركز العام أو البيت الكبير كما يحلو لي أن أسميه. كان دائم السؤال عن أحوالنا. في إحدى المرات شكوتُ له البطالة وما نعانيه في ظل ظروف الحياة الصعبة والتي هو أعلم بها مني. فكان يقول لي “ما تقعد ساي حاول اشتغل أي حاجة. ثم قال مبتسماً “وأنت ماشي البيت شيل ليك طوبه وختها تحت كرعين العنقريب بتكون عملت حاجة” وهي رسالة لها ماوراءها. قلت له ضاحكاً أنت من زمن العنقريب يا أستاذ فقال “إشتغل أي حاجة. وفي البيت لو في تصليحات إشتغلها بتكون عملت حاجة أقلاها خففت الأعباء شوية “.
قصدته بمنزله ذات مساء لبعض المهام. فسألني متغدي قلت ليه أيوه. فقام من مقعده ودلف إلى الداخل. وأتى وهو يحمل بنفسه كوباً من العصير. إستغربت من هذا السلوك وقلت في نفسي سكرتير الحزب الشيوعي يقوم بنفسه بخدمة زائريه. وتصور معي من هو الزائر؟! شخصي الضعيف!! فقمت من مقعدي وإتجهت نحوه لأحمل عنه. فقال لي “داير تعمل شنو؟” قلت ليه ما صح يا أستاذ. قال لي “شنو الما صح ؟ خليك قاعد قبلك؟” وأصر. فلم أجد بُداً غير الإنصياع له، وقد إحمررتُ خجلاً.
من المواقف الطريفة التي مررت بها أذكر أنني ذهبت يوماً إلى المركز العام للحزب، فوجدت حشداً من القوى السياسية الوطنية جاءت للتوقيع على إحدى المواثيق الوطنية. فطلب مني أخي وزميلي “علي حسن” بأن أجلس على منضدة الاستقبال وأباشر إجراءات الدخول لممثلي القوي الوطنية والبعثات ومنظمات المجتمع المدني التي ستحضر. لأنه سيذهب لقضاء بعض شأنه. فوافقت. فجاء ممثلي حزب الأمة القومي والمؤتمر السوداني والبعث وممثل لإحدى السفارات الأفريقية وممثلين لبعض الصحف. وجميعهم قاموا بالتوقيع على الدفتر المُودع بالإستقبال. لحظات فإذا بعربة فارهة تقف أمام المركز العام للحزب، سريعاً ترجل عنها مجموعة من الحُراس. قام أحدهم بفتح باب العربة ليترجل منها الدكتور حسن الترابي تقدم أمامه أحد حراسه وهو يطلب إفساح الطريق. قمت من مقعدي وسددتُ الباب بجسمي. فأشار الحارس لي بالتنحي جانباً. فقلت له: معليش في إجراء بسيط مفروض يتعمل. ومددت يدي على المنضدة وسحبت الدفتر وأشرت للدكتور حسن الترابي قائلاً له، إسمك والجهة البتمثلها وتوقيعك هنا لو سمحت. فنظر إلى وعلى وجهة إبتسامة ساخرة. وقال لي “أنت ما بتعرفني؟!(علامة التعجب من عندي) فقلت له، ما حكاية بعرفك ولا لا. ده إجراء وأي زول عملو وأنت ما إستثناء منهم. فقال لي “أنت لو مابتعرفني أسأل أي واحد من القاعدين ديل يوروك أنا منو” فقد كان هنالك بعض الزملاء جلوساً بالإستقبال. إلا أنني لم أتزحزح عن موقعي. عندها ظهر الأستاذ نقد من خلفي وسمع ماذكره الدكتور حسن. وعلى يبدو أنني قد سببت بعضاً من الإحراج بموقفي المتعنت هذا. فقال الأستاذ نقد مبتسماً وهو يخاطب دكتور حسن “هو بيعرفك يا دكتور لكن بيكون داير الكود بتاعك، إسمك الحركي ما أنت عارف الشيوعيين ديل” فضحك الجميع. وأشار له بالدخول مرحباً .
هذه الأسطُر غيضٌ من فيض. تعكس أصالته وبساطته وحميد أخلاقه التي تشربها من هذا الشعب الطيب. برغم العمل السياسي اليومي والمُرهق كان لديه دائماً مُتسع من وقت للآخرين والسؤال عنهم. نسأل الله له الرحمة والمغفرة .
*المقال سبق نشره في جريدة الميدان 1 أبريل 2012
رحم الله الاستاذ محمد ابراهيم نقد فقد كان سودانيا وطنيا مخلصا لبلده وانسانه
الله يرحمه ويحسن اليه فقد كان وطنيا ورجلا قامة بحق.