البكور والدولة العميقة

نقلت الصحف عن أمانة مجلس الوزراء نبأ العودة إلى التوقيت الشتوي اعتباراً من أول نوفمبر المقبل، وكأن السودان يطبق توقيتاً شتوياً وآخر صيفياً. الحقيقة هي أن التوقيت المعمول به في جمهورية السودان يعمل على مدار العام، لا يعرف صيفاً ولا شتاءً، وهو توقيت يجعله متقدماً عن توقيت جرنيتش بثلاث ساعات رغم أنف خط الطول الذي يقع عليه السودان جغرافياً.
البلاد التي تعرف التوقيت الصيفي، تعمد إلى الاستفادة من شروق الشمس المبكر في الصيف، بتقديم عقارب الساعة ساعة إلى الأمام، للاستفادة من الضوء الذي يوفره ذلك الشروق المبكر، واتقاءً للحرارة أثناء تحرك العاملين إلى مواقع أعمالهم. ولكن تقديم عقارب الساعة طوال العام هي فكرة المهندس/ عصام صديق، وهو زائر عابر لأطراف السلطة لم يكن موقعه الهامشي منها يبرر فرض هذا الرأي الغريب، والذي يأخذ شتاءً ما أعطى صيفاً، حين يتحرك الناس لأعمالهم والأطفال لمدارسهم والليل لم ينقشع بعد، فلا نوراً كسبوا ولا برداً اتقوا. لم يكن السبب في فرض تلك الفكرة ولإبقائها لكل هذا الزمن ما أضفاه عليها صاحبها من مسحة دينية، ولكن يبدو أن الفكرة راقت لبعض المتنفذين في الدولة لسبب لا نعلمه، و ذلك يبدو من الاحتفال المهيب الذي أقيم في السابعة عشر من يناير/2000م حيث حرك الشيخ/علي عثمان محمد طه بنفسه عقارب الساعة لتقديمها ساعة كاملة في الشتاء. وهذا ما ينقلنا للوجه الآخر من المسألة ونعني به الدولة العميقة.
الدولة العميقة هو مصطلح عمّ المنطقة عن طريق أجهزة الإعلام المصرية في أعقاب الربيع العربي، وهو نفسه مغالطة للحقائق الكونية، فأي ربيع هذا الذي خلف كل هذا الخراب في ليبيا وسوريا واليمن؟ عموماً المصطلح تم سكه في تركيا، ويعني وجود حكومة خفية مشكلة من تحالف نافذ، يتخذ القرارات المصيرية بعيداً عن الأجهزة الدستورية المنوط بها اتخاذ تلك القرارات. في رأيي أن هنالك سبباً للاعتقاد بوجود الدولة العميقة بأشكال مختلفة، في الأنظمة المختلفة. فوجودها في الدول الديمقراطية سببه أن أجهزة الدولة الثابتة في ممارستها لمهامها، تتكون لديها قناعات ذاتية خارج اللعبة السياسية الحزبية، تتصل بدورها الرئيسي في حماية المصالح القومية للدولة، يجعلها تقاوم أحياناً البرامج السياسية التي يطرحها الحزب الحاكم بشكل غير معلن. وغالباً ما ينتهي الصراع الخفي لصالح التحالفات داخل جهاز الدولة، حين يضطر الطاقم السياسي لتغيير السياسة المطروحة. ومن أشكال الدولة العميقة ما أشار له ماركس من خضوع الدولة لمصلحة الطبقات المسيطرة على أدوات الإنتاج، في النظام الاقتصادي السائد. بالنسبة للأنظمة السلطوية فإن شكل الدولة العميقة يتمثل في وجود مراكز للقوى تمسك بأطراف السلطة الفعلية، دون أن يكون لها سلطة دستورية. وقد خبرنا ذلك في أيام الإنقاذ الأولى، حين ظهر للناس جلياً أن مجلس الثورة الذي جمع في يده السلطات الثلاث لا يمارس شيئاً منها في واقع الأمر. فسمعنا عن مجلس أربعيني يمسك بمقاليد الأمور، ولا ندري مدى صحة ذلك، ولكننا موقنون بأن السلطة تركزت لدى عدد محدود من أعضاء قيادة الجبهة الإسلامية القومية آنذاك لم يكن أحد سواهم يعلم كيف كان يتم اتخاذ القرارات. من المؤكد أن قرار تغيير التوقيت في السودان هو قرار اتخذته ثم ألغته الدولة العميقة لسبب لا أعلمه. عموماً لم تعد التحالفات النافذة راغبة في ذلك التوقيت، سواء أكانت ممثلة بنفس الأشخاص أم بغيرهم، وبالتالي فقد ذهب دون ضجة، لأنه لم يكن وليد استجابة لمصالح تفرضه، وإنما كان قرار لسلطة لا تجد من يراجعها.
نبيل أديب عبدالله
المحامي
[email][email protected][/email]