غير مصنف

حصاد التراب

قصة قصيرة
د . عوض النقر بابكر محمد
لان الماساة قد اتخذت مسارا مغلقا فهى تنتهى من حيث بدات والحصاد كان دائما هو حصاد التراب فمتى نتغير؟؟ .
حدث ذلك قبل ربع قرن من الزمان حين ظهرت النياشين والميدليات اللامعة على الشاشة بعد غياب جد قصير ، ومع ذلك فمازلنا نتجرع مرارة ذلك اليوم حتى هذه اللحظة ذلك اليوم الصيفى تلك الظهيرة شديد الحرارة والتى تحولت فجأة الى كرنفال من الغيوم الملونة التى اتت من كل حدب وصوب حتى غطت سماء البلد كما لم يحدث منذ امد بعيد…خرج الرجال على عجل يحملون ادوات الحفر لفتح مصارف المياه التى طمرتها الاتربة والاقذار خلال فترة الجفاف الطويل خرج الحاج احمد ود الياس والشيخ السمانى ود عبد الكبير وكل الشباب.
القرية باكملها خرجت تسابق خطى المطر المتسارعة الا استاذ عبدالله ناظر المدرسة الابتدائية فقد كان هو الوحيد الذى لا يعنيه امر المطر فى تللك اللحظة فقد كان هناك امر اكثر اهمية واعظم خطورة يشغل باله ، كانت نوبات الطلق وانذار الولادة قد فاجأت زوجته ولم يكن ذلك امر عاديا فهو يستقبل هذا الحدث السعيد بعد اعوام طويلة و مضنية من الانتظار لذا فقد كان يدخل ويخرج دون سبب ظاهر بل وان الامر قد وصل به الى حد ان يشعل سيجارة لاول مرة فى حياته ، الزوجة بالداخل ومعها عدد من النساء والقابلة، الصراخ يخرج من فمها يخترق الجدران وينطلق حتى يرتطم بالغيوم .. جذب استاذ عبدالله نفسا عميقا من سيجارته ثم تطلع الى السماء فبدا له له وجه الغيوم الزاهى وكانه بشير سعد فتعشم فيها خيرا واحس معها هدوءا عابرا.
ازدادت كثافة الغيوم حتى اثرت على مدى الرؤية وشباب القرية يبذلون اقصى ما عندهم من جهد لاصلاح كل مجارى المياه استعدادا لهطول المطر فقط خالد ابن الحاج ود الياس هو الذى لم ينفعل مع كل هذه الاحداث وجلس فى هدوء وسكينة وهو ينظر الى الآخرين بعين الاستخفاف والى الغيوم فى اسى بالغ ثم اتجه نحو والده الذى كان يوجه نداء هنا وامرا هناك حيث خاطبه قائلا ابى نحن فى مكان بالنسبة الى الجبل واتجاه الرياح سوف يجعلنا فى منطقة ظل المطر حيث لا مطر ولن نجد اكثر من عاصفة ترابية لم يفهم ود الياس ماذا يقصد ابنه ولم يكن يعنيه فى تلك اللحظة انه الوحيد من ابناءه الذى اكمل تعليمه الجامعى لذلك فقد التفت اليه فى عصبية وخاطبه فى حدة حتى يتحرك مثل اخوانه فى فتح مجرى المياه الرئيس .
الهواء يزداد برودة ورطوبة والرمال المتعطشة للمياه تتأوه انتظارا للبلل القادم ، استاذ عبدالله وقع فريسة للارهاق من شدة التوتر وكثرة الدخول والخروج فجلس امام عتبة منزله وهو يستمع الى صراخ زوجته الذى اضحى متقطعا واهنا ، مدد استاذ عبدالله قدميه الطويلتين ثم شرع يحلم بالصبى القادم يملا عليه دنياه الخاوية يصرخ ويلعب فى ارجاء المنزل الفسيح ياخذ زجاجة الحبر على حين غفلة ليلوث به كل شئ امامه يصرخ فيه حتى يبكى ثم يرفعه عن الارض ويقبله فيطبع يديه الصغيرتين على خديه.
الهواء اضحى باردا ثلجيا حتى شعر الرجال المشمرين عن سواعدهم بلسعة البرد ود الياس وحده هو الذى لم يكن يشعر البرد فهو يفكر ويحلم بالخير القادم بالخضرة والنماء وازدهار الزرع والضرع بالماء يرتفع فى الآبار بكل الخير الذى تحمله رحمة السماء فى المطر وفى ذات الوقت ينظر فى اشفاق الى المنازل الطينية المتهالكة الى جدرانها واسقفها التى تغطت بطبقة من من روث الحيوانات طال عليها الزمن حتى بدات له فى انكماشته تلك كظهور ثيران تتحفز للبلل القادم .
اراد خالد ان يشرح ان يشرح لوالده مرة اخرى ما سبق ان ردده من قبل لكن الوالد الذى اسكرته نشوة الاحلام اسكته باشارة من يده وانتهز حمد ود السمانى الفرصة فقال وهو يتخلل لحيته التى ظهرت حديثا لقد تركت الدراسة حتى لا يلوث الشيوعيون افكارى لم ينتبه ود الياس لحديثه فقد تذكر استاذ عبدالله حين التفت الى نهاية الطريق وراى افواج النساء التى تدخل وتخرج من منزله .
ازدادت الغيوم كثافة حتى تحولت الدنيا الى ظلام تام فاوقد الناس المصابيح لكى يتمكنوا من الرؤية تحرك ود الياس نحو منزل استاذ عبدالله فى خطى اعظم من سنه كثيرا بعد ان اطمان الى اكتمال الاستعدادت لاستقبال المطر .
نهض استاذ عبدالله من جلسته تللك واتجه نحو الشيخ القادم ، خفت حدة التوتر عنده كثيرا وهو يرى الشيخ مقبلا نحوه..تعانق الرجلان بقوة فشق برق رهيب منتصف السماء وحتى الافق البعيد ودوى الرعد بقصف تقشعر له الابدان..
جاء الرجال تباعا وهم يحملون المصابيح اتسعت الدائرة حول استاذ عبدالله حتى فاق احساسه بالهدوء والطمانينة كل امر آخر غير ان القابلة خرجت فجاة لتقف امام الرجال وضوء المصابيح يتراقص على وجهها داكن السمرة لتقول فى صوت مثل نعيق البوم بان كل ذلك العناء والتعب والجهد لم يكن غير حمل كاذب انحنى استاذ عبدالله على ركبتيه الطويلتين واجهش فى البكاء .
انصرف الرجال واحدا اثر الآخر بينما كانت الغيوم تنقشع دون سقوط قطرة من المطر ثم لتنكشف صفحة السماء عن غروب شاحب اعقبته عاصفة ترابية ما زالت حتى هذه اللحظة تعمى العيون..

‫3 تعليقات

  1. جميل أخي عوض.. أبدعت سردا” و رمزا”.. فأول الغيث قطر ثم ينهمر.. دعنا لا ننتظر طويلا” انهمار غيثك أنت .. لنحتفل بقاص جديد على خطى المبدعين !!
    ودي و اعجابي..
    قدورة..

  2. الاخ الماحى
    د.النقر يمتعنا بانتاج متنوع من القصة والمقال السياسى منذ ايام اصدار صحيفة الخرطوم فى القاهرة الاانه فى الاونة الاخيرة جد مقل

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..