مقالات وآراء

 التطور السياسي للثورة السودانية: إعادة هندسة المشهد.

منذ إنطلاق الثورة السودانية الظافرة في ديسمبر ٢٠١٨ م، غَلَبَ علي قيادتها السياسية طابع النَُفِير المجتمعي، و إستمدت تكتيكاتها اليومية من تراكمات العقل الجمعي السوداني، و إحتشدت طاقتها المُحركة الثورية من ماكينات الزخم الشعبي و تضحيات الجماهير الثائرة، و من ثم صنعت الثورة الفريدة قيادتها الرمزية التنسيقية من بين صفوفها، لتحقيق مطالب الجماهير، حتي سقوط رأس النظام يوم ١١ أبريل ٢٠١٩ م، في عملية ملحمية شعبية كبيرة، مستلهمة في ذلك قيم النفير الشعبي السودانية و إرثنا النضالي الطويل.

مع إنطلاق العملية السياسية يوم ١٣ أبريل ٢٠١٩ م، و صعود القوي الموقعة علي إعلان الحرية و التغيير للمشهد التفاوضي، برزت أخطاء تقديرات و تجاوزات سياسية متوقعة، هنا و هناك، نَتَج عنها في آخر المطاف في أغسطس ٢٠١٩ م، و برعاية لوجستية أمريكية، تلك الوثيقة الدستورية المعيبة، و التي أحدثت قطبية حادة و شَرخ كبير بين “قوي التغيير الجزري” و “قوي الهِبوط الناعم”، وصل في بعض الأحيان الي حَدّ الشتم و التخوين، و قد حددت الوثيقة الدستورية مدة ستة أشهر لتحقيق السلام الشامل في السودان.

سَبق توقيع الوثيقة الدستورية، لقاء أديس أبابا بين “قحت- الخرطوم” و “قحت- الجبهة الثورية” في يوليو ٢٠١٩ م، و الذي تَنكرت “قحت- الخرطوم” لمخرجاته لاحقاً، و لم يتم تضمينها في الوثيقة الدستورية الجوفاء، و هذا يمثل خطأ كبير واضح من فئة سياسية قليلة، و لا يمكن علي ضوئه لوم و معاقبة غالبية الجماهير السودانية و التي تمثل “قحت- الرصيف”.

المبعوث الأمريكي للسودان دونالد بوث، الذي تم تعيينه في ١٦ يونيو ٢٠١٩ م، زار الخرطوم مجدداً يوم ١٣ نوفمبر ٢٠١٩ م، قبل إنطلاق الجولة الثانية للمفاوضات في جنوب السودان، و قال أن الرؤية الأمريكية للسلام في السودان، تتضمن إختراق سريع للقضايا في منبر جوبا، ليتم تكملة إجراءات السلام لاحقاً في مؤتمر قومي يُعقد داخل الخرطوم.

بعد إنطلاق الجولة الثانية لمفاوضات مِنبر جوبا يوم ١٠ ديسمبر ٢٠١٩ م، و التي تم تأجيلها من أكتوبر، زار المبعوث الأمريكي للسودان دونالد بوث مقر مفاوضات منبر جوبا يوم ٢٨ ديسمبر ٢٠١٩ م، و جدد طرح الرؤية الأمريكية السابقة للسلام في السودان، و حَث الأطراف المتفاوضة هناك علي العجلة و إحداث إختراق سريع في القضايا الكبيرة و من ثم تكملة ملفات السلام الأخري داخل السودان.

رَغم عن عن ذلك، إستمر مِنبر مفاوضات جوبا لمدة أربعة أشهر بدون تفويض من مجلس السِلم و الأمن الافريقي و مفوضية الإتحاد الإفريقي، و الذي تم الحِصول عليه لاحقاً، و من ثم توالت جولات المفاوضات المكوكية الماراثونية حتي الآن، لتتجاوز السقف الزمني الذي حددته الوثيقة الدستورية بستة أشهر.

إعلان جوبا الموقع يوم ١٢ سبتمبر ٢٠١٩ م، يمثل أحد بنوده رَد فِعل كيدي سياسي عكسي لما حدث في لِقاء أديس أبابا سابِقاً، و لم يُعلي بند تأجيل “إستكمال مؤسسات الحُكم المدنية”، المصلحة الوطنية العُليا، فهو خطأ جاء لمعالجة خطأ سابق، و لا يعفي المخطئين جميعاً إشتراكهم في دَرك الخطيئة.

إعلان جوبا توقع الوصول الي سلام بنهاية شهر ديسمبر ٢٠١٩ م، و تم تمديد المفاوضات حتي الآن أكثر من مرة.

كان من المُمكن وقتها، لو تَرفَعت “قحت- الجبهة الثورية”، أن يتم إقتراح نفس الآلية الرُباعية المُشتركة التي يتم الحديث عنها الآن، لإختيار الولاة المدنيين المؤقتين و تشكيل المجلس التشريعي.

لا شك أن الرفيق عبد الواحد نور قد تَسَلم نُسخة من ورقة الرؤية الأمريكية للسلام في السودان، و يعلم عِلماً يقينياً أن الولايات المتحدة تُرتِب لاحقاً لِعقد مؤتمر للسلام الشامل و قضايا الحُكم داخل السودان.

إصرار الرفيق عبد العزيز الحِلو علي العلمانية، كموقف سياسي مبدئي من أجل تحقيق السلام العادل، و قد مات تحت رايتها الملايين، لا يُمكن أن نلومه عليه، لأنه من الصعب لِلغاية من وجهة نظري، تصور الوصول الي سلام مُجتمعي حقيقي و دولة الحرية و العدالة، بدون تحقيق دولة علمانية كاملة الدسم، خصوصاً بعد تجربة الإسلام السياسي المريرة و المؤلمة في السودان.

لكن هذا الإصرار السياسي لِعلمنة الدولة، من قِبل فصيل الحركة الشعبية شمال، لا يعفينا نحن كمثقفين و مفكرين عن واجباتنا المنزلية، و عن العمل اليومي الجاد الدؤوب من أجل ترسيخ قِيم العلمانية في التربة الإجتماعية السودانية، شكلاً و مضموناً، لِتصبح العلمانية مطلب جماهيري شعبي سوداني، فالعمل في الإتجاهين ممكن، و الجدل الفكري بينهما ظاهرة صِحِية.

نحن لا نطالب الرفيق عبد العزيز الحلو بالقتال من أجلنا، لتحقيق العلمانية، كما فعلت الثورة الفرنسية بالبندقية، و لا يمكن أن نلومه إذا تركها، و لا يمكن أن نلومه أيضاً إذا طالب بالعلمانية السياسية إنطلاقاً من مبادئه و قناعاته الشخصية، و لا نلوم من ينتقد موقفه أيضاً، لأن ممارسة السياسة الديمقراطية مبنية علي التعددية و تباين الرؤي و الأفكار و الآراء.

يجب علينا أن نتعلم ممارسة الديمقراطية، و نترك الحِدة عند الإختلاف، و نتقبل النقد بصدر رحب، و أن يعلم كل شخص سوداني، أن إختلاف الآخر السوداني معك في الرأي و الموقف السياسي، لا يعني شيطنته، أو أن كل ما عنده باطل، فقد تكونا مخطئين معاً، و قد تكونا أيضاً معاً علي صواب، و قد تتباين نسبة الخطأ و الصواب عند الطرفين، لأن نصف رأيك عند أخيك.

هذا التعدد الضخم، و الثراء الهائل في المشهد السياسي السوداني، ينبغي أن لا يخيفنا، طالما كان موجهاً لمصلحة الجماهير الشعبية و توفير لقمة العيش الكريمة لها، و لا يتعارض مع تطلعاتها المشروعة، و لكنه يصبح علامة خطيرة لو إنفصل عن واقع الجماهير اليومي المُعاش، و أصبح مجرد صراعات نخبوية فوقية.

بعد تشكيل الحكومة الإنتقالية في سبتمبر ٢٠١٩ م، تُركت حكومة عبد الله حمدوك وحدها تواجه العاصفة الإقتصادية الضارية، بدون برنامج عمل مكتوب، و إتجهت غالبية الأحزاب السياسية لتتصارع حول محاصصات ولاة الولايات و المجلس التشريعي و مناصب الخدمة المدنية.

إن الجدل السياسي الدائر حول منبر مفاوضات جوبا، و توجيه سِهام النقد السياسي له، و لحركات الكِفاح المسلح هناك، ينبغي أن لا يواجه بحساسية زائدة منهم، طالما كان النقد موضوعي، أو غير موضوعي، لأنه لا يوجد أحد فوق النقد، و ترسيخ ثقافة تقبل النقد و النقد الذاتي في ممارستنا السياسية، يمثل الطريق الوحيد لبناء ديمقراطية سودانية راسخة و فعالة، و هو أداتنا الوحيدة لتسليط الضؤ الكاشف علي أماكن الخلل المُعتمة.

نصحني بعض الأصدقاء بعدم توجيه النقد و طرح المواضيع و المعلومات الحساسة بهذه الشفافية في الفضاء العام، حتي لا أثير حفيظة هذا أو ذاك، أو أضعف موقف هذا أو أقوي موقف ذاك، و في ذلك في تقديري تحجر و تثبيت للعملية السياسية في مرحلة نموء واحدة، و غير قابلة للتطور، و لا أريد أيضاً لِمقص الرقيب الصديق في المواقع المختلفة أن يقوم بحجب هذه المواد المكتوبة، بنفس الحُجة لتقديرات سياسية أراها غير صحيحة.

الرئيس الراحل جعفر نميري في سبتمبر عام ١٩٨٣ م، طَبق ما يسمي بقوانين الشريعة الإسلامية، بِجرة قلم، و بطريقة فوقية، بدون مشاورة أحد، و بدون الرجوع الي القواعد الشعبية، و يحق لنا جميعاً الآن المطالبة بإلغاء تلك القوانين الجائرة، و الرجوع الي المنصة الوطنية الأولي التأسيسية.

لا يمكن وضع الموقف الإنساني التقدمي، المُطالب بالعلمانية و ما بعد العلمانية، كمقابل لِمتاجرة الإسلام السياسي الرجعي الظلامي البائد، بما يسمي بالشريعة الإسلامية.

تقع علي عاتِق المثقفين و المُفكرين، مسؤولية تقريب وِجهات النظر بين الأطراف السياسية المُتباينة، و توجيه النقد و طرح و تقديم الرؤي البديلة، من أجل إعادة هندسة و ترتيب و صياغة المشهد السياسي السوداني، حتي نتمكن جميعاً من العبور و بناء تروس النِظام السياسي الجديد.

في إعتقادي أن مسألة علمانية العاصمة الإتحادية القومية، شكلاً و مضموناً، أمر لا مفر منه لِتحقيق قِيم الثورة السودانية المُستحقة من حرية و سلام و عدالة، و ذلك مع إعطاء الولايات و الأقاليم الأخري الحق في إختيار القوانين و التشريعات المحلية، كما هو مُطبق في التجربة الماليزية.

يمكن تقليص حدود العاصمة الإتحادية الإدارية، الي حدود الخرطوم التاريخية القديمة، و إخراجها من ولاية الخرطوم لتصبح العاصمة أراضي فيدرالية، و من ثم إلحاق بقية مدينة الخرطوم بالإقليم الأوسط.

كما يمكن في المستقبل القريب، إنشاء عاصمة إدارية جديدة، في النيل الأبيض أو شمال كردفان مثلاً، في إطار مشروع نهضة تنموية قومية مستقبلية شاملة، يتم التخطيط لها منذ الآن.
د. مقبول التجاني.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..