مقالات سياسية

الخمور بين القانون والأخلاق (4)

د. النور حمد

إن غرض الدين من إنزال القرآن وإرساء قواعد الشريعة، أن يمتلك البشر القدرة على التفكُّر وأن يصبح التفكُّر طبيعة ثابتة فيهم ومستدامة. فالجمود العقلي والوقوف عند عتبة الدين والنكوص عن الإيغال في عميق معانيه، علامتان من علامات قلة الانتفاع من منهجه. فالدين في الأصل منهج لترقية الفكر وترقية النفس. يقول تعالى: “وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ”. ولذلك، يمكن القول، كلما كان المؤمن ميالاً للعنت والتشدد، كلما دلَّ ذلك على عياء فكره، وانطفاء نور الفرقان لديه. فالأصل في الأشياء هو الحل، وهذا متفق عليه. وما المنع والتحريم إلا نتيجة لعجز البشر عن التصرف بمسؤولية، في الحرية الممنوحة لهم. لقد منح الله اليهود سعةً في الحِل، بادئ الأمر. لكنهم أساءوا استخدامها، فصودرت منهم، وأُدخلوا دائرة المنع والتحريم. يقول تعالى: “فبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا”. وقد حدث هذا للأصحاب رضوان الله عليهم. فتحريم الخمر لم يحدث، إلا بعد أن أساءوا التصرف في السعة، فأُحيلوا إلى الضيق.

أمضى النبي في مكة، بعد أن بُعث للناس، ثلاث عشرة سنة، لم تكن الخمر فيها محرمة. بل، بقيت غير محرمة لثمان سنوات، بعد أن هاجر إلى المدينة. وهناك روايتان عن العام الذي جرى فيه تحريم الخمر. فبعضهم يقول: في السنة الثالثة للهجرة، عقب معركة أحد، وبعضهم يقول: في السنة الثامنة للهجرة، ومن بين هؤلاء من المحدثين، الدكتور محمد عابد الجابري. فالأرجح هو السنة الثامنة، لأن الآيات التي تدرجت بالناس نحو النهي، أخذت وقتًا طويلا. فالخمر جرى تحريمها قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، بثلاث سنين فقط.

هناك حادثتان بارزتان في إساءة استخدام الأصحاب لإباحة الخمر. أولاهما ما حدث منهم من أخطاء في قراءة القرآن في الصلاة، بسبب السكر، فنزلت الآية: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ”. أما ثانيتهما فقد كانت أفدح من سابقتها. فقد جاء في شرح النووي على مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى سيدنا علي بن أبي طالب ناقتين من نوق الغنائم. فأناخهما عند باب رجلٍ من الأنصار. وكان حمزة بن عبد المطلب يشرب الخمر ومعه قَيْنَةٌ (جارية) تغنِّي له. ولعل الجارية أرادت أن يكون لهما مع الشرب شواء. فأثارت حمزة بشيء من الشعر، فنهض، وهو سكرانٌ، واتجه بسيفه إلى نوق علي بن أبي طالب. فقطع أسنمتها (جمع سنام)، وبقر خاصراتها، وأخذ من أكبادها. فشكاه سيدنا علي إلى النبي. فذهب إليه النبي يجرجر أثوابه من الغضب، ومعه زيد بن حارثة، وأنكر النبي الكريم على حمزة فعلته. لكن حمزة كان في حالة سكر شديد، جاء في وصفه أن عيونه كانت محمرة. صوب حمزة بصره إلى النبي في ازدراء، وقال: “هل أنتم إلا عبيدًا لآبائي”. فانصرف عنه النبي غاضبا. ونزلت عقب ذلك الآية الكريمة: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ”. (يتواصل).

النور حمد

صحيفة التيار 19 يوليو

 

‫3 تعليقات

  1. وددت لو أن الكاتب الكبير أبعد نفسه عن الكتابة عن مثل هذه المواضيع واكتفى بتقريظه لوزير العدل في مقاله الأول لأن موضوع كتابه معلوم من الدين بالضرورة ولكي لا يظهر أمام قرائه أنه يدافع عن ام الكبائر من حيث هي لا التشريعات حولها …

  2. يا اخ قنديل المعلوم من الدين بالضروره لم تجئ فى القران ولم يقلها الرسول ص وظهر زىفها منذ ان بدا ظهور علماء الدين ومن حفظة القران الدين اوتوا العلم والشجاعة ليكشفوا لنا الزيف والكذب والنفاق الذى مارسه علينا ما نسميه الفقهاء ورجال الدين. بداها العالم الازهرى على عبدالرازق وبين خطل الخلافة الاسلامية عندما كان الملك فؤاد يتهىئ ليعلن نفسه خليفة للمسلمين بعد الغاء الخلافة فى تركيا وسحب الازهر اجازة على عبد الرازق بدعوى انكار المعلوم من الدين وحاربوه فى رزقه. ثم جاء معروف الرصافى ثم طه حسين لكن البركان انفجر مع ظهور الاسلام السياسي فجاء محمد احمد خلف الله وخليل عبد الكريم وسيد القمنى والشهيد فرج فودة و ونصر حامد ابوزيد كثيرين غيرهم كسروا جرة المعلوم بالضرورة من الدين

  3. منقول من تفسير القرطبي

    حديث حمزة ظاهر فيه حين بقر خواصر ناقتي علي رضي الله عنهما وجب أسنمتهما ، فأخبر علي بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء إلى حمزة فصدر عن حمزة للنبي صلى الله عليه وسلم من القول الجافي المخالف لما يجب عليه من احترام النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره وتعزيره ، ما يدل على أن حمزة كان قد ذهب عقله بما يسكر ; ولذلك قال الراوي : فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ثمل ; ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على حمزة ولا عنفه ، لا في حال سكره ولا بعد ذلك ، بل رجع لما قال حمزة : وهل أنتم إلا عبيد لأبي على عقبيه القهقرى وخرج عنه ،

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..