انشطة حنتوب الطلابيه السياسية والاجتماعيه (3)

وما انفكّت انشطة طلاب حنتوب تنداح وتتجدد كل حين.. دراسة واكتساب خبرات وامتاعا ومؤانسة ومزيدا من التآلف والوداد والاخاء طوال ساعات النهار و المساء.. فقد حفلت تلك السنوات التى مرت وانقضت سراعا بالوفير من الاحداث الاجتماعية والسياسية..اضرابات وتوقف عن الدراسه وتظاهرات بين الفصول والداخليات امتدت الى الساحات بين منازل المعلمين لتصل احيانا الى باب المنزل رقم 10على شاطىء النيل الازرق حيث كان يقيم المستربراون قائد المسيرة التعليميه والتربوية. وبدءا بتذكارتلك الاحداث السياسية كانت اصوات وحناجرالحنتوبيين تشق فضاءات حنتوب من حين لآخرتنادى وتهتف فقط بسقوط الاستعمار.دون ذكر اسم اى واحد من المعلمين او التعرّض لأى منهم بسوء.وكان يتبع تلك التظاهرات فى صباحات تلك الايام التالية توقف عن الدراسه يفضى احيانا الى تعطيلها وذهاب الطلاب الى اهليهم اذا لم تجد نداءات المستربراون واحاديث كبار المعلمين و”التيوترز” صدى او استجابة عند الطلاب. تلك كانت هى الحالات التى كان لاسباب التظاهروالتوقف عن الدراسة مساس بالمناخ السياسى العام فى البلاد اوبمؤسسات الحكم القائم فضلاعن مدى قوة قدرة اقناع القيادات الطلابيه وتأثيرهم على رفاقهم وصلابة ووحدة توجهات الطلاب وتوحد مواقفهم من القضايا المطروحه وايمانهم بها وتماسكهم مع احساسهم بضرورة اسماع اصواتهم لرفاقهم فى المدارس الاخرى ولجماهير الشعب السودانى. اما ان كانت الاسباب ذات صبغة محلية تختص بما يجرى فى حنتوب مما يغضب او يثرحفبظة مجموعة من الطلاب من ذوى التاثيرالقوى على رفاقهم فتبقى التظاهرة محدودة فى نطاق اسماع رأى الطلاب لادارة المدرسه بامل تحقيق تحسين اواصلاح مرغوب فى جانب من جوانب الحياة اليومية ومن ثم تنفض المواكب ويعود الطلاب الى اسرّتهم ويصبح الصبح ويضرب الجرس وننطلق زرافات ووحدانا الى قاعة الطعام لتناول شاى الصباح ويواصل البعض منّا مسيرتهم الى الميادين للجمباظ الصباحى.وتختلط مشاعرالمهرولين الى الميادين اذا ما تلقاهم المستر براون بابتسامته المعهودة وهوامّا فى طريقه الى المدرسة او الى احد الميادين لأداء حصة جمباظ صباحى مع مجموعة من الطلاب وكان شيئا لم يكن وبراءة الاطفال فى عيون الطلاب وهولآ آيبدوعلى وجهه ما يبين انه يحمل فى نفسه شيئا من”حتّى”عما حفلت به الليلة السابقه من احداث. الاضراب عن الطعام كان يبدأ بالامتناع عن تناول وجبة الفطور وبدلا من التوجه بعد الاجتماع الصباحى الى قاعة الطعام يتوجه الطلاب ملبين الدعوة لحضور اجتماع فى واحد من الميادين لشرح المزيد مما قد تبلورمن اسباب مضافة الى قائمة الاسباب الاساسية للاضراب مع تنويرمن احد القادة وللتشاورفيما يجب اتخاذه من خطوات تحسبا لما يتوقع حدوثه من جانب ادارة المدرسه وما تتخذه من قرارات.
اول توقف عن مواصلة الدراسة عاصرناه فى الصرح الكبيركان فى شهرمارس من عام 1949ونحن لا نزال نتحسس مواقع اقدامنا فى بيئة جديدة عنا نخوض تجربتها لأول مرّة.شارك فى ذلك الاضراب نفرقليل من رفاقنا طلاب السنة الاولى الوافدين من كل فج عميق..من اقاصى غرب البلآد (الذين يمثلون مع رفاقهم المقبولين فى وادى سيدنا النواة الاولى لمدرسة خورطقت المزمع بداية الدراسة فيها فى مطلع عام 1950) الى جانب ابناء الجزيرة المروية وقليلين من شرق السودان وآخرين لا يزيد عددهم عن اصابع اليد الواحدة من ابناء العاصمة. حقيقة الامرسبب التوقف عن الدراسه حسبما عرفناه من بعض من تقدمونا من زملائنا فى المرحلة المتوسطه “ما كان واقع لينا” اذ كانت عبارة”اضراب عن الدراسه” لم تتبلوربعد فى اذهاننا ولم نسمع بها من قبل الآ مؤخرا فى نوفمبر1948ونحن مشغولى الاذهان متوترى الاعصاب نجاهد انفسنا مع معلمينا الاخيارفى مدرسة ودمدنى الاهلية الوسطى للاعداد لاجتياز امتحان اكمال التعليم الاوسط والعبورالى المرحلة الثانويه بعد الحصول على درجات وافية تجعل لنا موقعا بين ال 360 تلميذا الاوائل الذين سيتم قبولهم فى حنتوب ووادى سينا وخورطقت فى يناير 1949 .جاءنا من الرفاق ان السبب الرئيسى للاضراب هو المطالبة بقيام اتحاد عام “مؤتمرللطلاب” على غرارمؤتمرالخريجين الذى انبثقت فكرته فى نادى الموظفين العريق فى مدينة ودمدنى فى عام 1938. قيام اتحاد عام للطلاب فكرة نادى بها اتحاد طلآب كلية الخرطوم الجامعيه وينضوى تحت لوائه جميع الطلاب السودانيين فى مدارسهم الوسطى والثانويه.. ولكن وزارة المعارف رفضت جملة وتفصيلا قيام الاتحاد فى المدارس الثانويه ناهيك عن الوسطى ووجه المرحوم عبدالرحمن على طه ? وزير المعارف بمقاومة الفكرة ووأدها فى مهدها وعدم السماح للطلاب للانضمام الى ذلك الاتحاد”المؤتمر”المزعوم. لم يكن الطلاب على قلب رجل واحد فيما بتعلق بامرالاتحاد اوبتنفيذ الاضراب عن الدراسه.فكانت الدوافع عند البعض تختلف عما كان لدى الآخرين من منطلقات متباينة.. منهم من كان يرى فى الاضراب تضامنا ووحدة طلابية يجب الحفاظ عليهما.اخرون كانوا يؤمنون ان فى الاضراب تحد للانجليزالذين تجب مقاومة بقائهم جاثمين على رقاب الشعب السودانى فضلاعن انه اى التوقف عن الدراسة مع التظاهرضد الانجليز اثبات للذات وفيه تنبيه لنضوج للشخصية والوعى المبكروالقدرة على اتخاذ القرار ولذا لا يضير الطلاب فى شىء فى مشاركة رفاقهم من كبار الطلاب على قلّة عدد الذين ايدوا الاضراب من منطلق الحفاظ على الوحدة والتماسك. وتم التوقف عن الدراسة فى الصرحين الكبيرين.. حنتوب ووادى سيدنا كما شاركن بعض طالبات مدرسة امدرمان الثانوية للبنات التى كانت طالباتها سيجلسن لآمتحان شهادة كيمبريدج لأول مرّة فى ديسمبر من ذلك العام 1949 بعد اكمالهن المرحلة الثانوية فى خمس سنوات بدلا من اربع.مثلما توقف عن الدراسة ايضا عدد من طلاب الاهلية والاحفاد فى امدرمان.وعلى الرغم مما ظللنا نتلقاه من بعض زملائنا عن اهمية قيام الاتحاد وما سيجنيه طلاب المدارس الثانوية من فوائد وتحقيق مصالح طلابيه لم يتم الافصاح عنها تفصيلا بفضل رعاية اللجنة التنفيذية لأتحاد طلاب الكلية الجامعيه الآ ان الامر “برضو”ظل خارج دائرة اهتماماتنا لزمان ليس بالقصيرولم يشغل حيزا كبيرا من فكرنا خاصة لما تبين لنا ان عددا لا يستهان به من “سينيرز”الحناتبة لم يشارك فى تنفيذ الاضراب. مما كان له اثركبيرعلى انتهاء اجله قبل انقضاء يومه. على الآ ننسى ان المعلمين سودانيين وبريطانيين سواء كانوا “تيوترز اوهاوسماسترز” او اساتذة ملحقين قد لعبوا دورا فى اجهاض الرغبة فى استمرارالاضراب بعد الموعد المضروب. ولم يكن الحديث عن قيام مؤتمر الطلبه يرد على لسان اى من المعلمين ألآ فى اطار مقاومة الفكرة منبهين الى ان المرحلة الثانوية ان هى الآ مرحلة اعداد و”تجهيز” للمراحل المستقبلية فى حياة الطلاب سواء واصلوا تعليمهم العالى او انخرطوا فى مجالات الحياة العامة من اوسع ابوابها حيث يمكنهم المشاركة دون قيد او شرط فى الحياة السياسية والجتماعية. ومرّت الازمة بسلام دون ابعاد او ايقاف اى من الطلاب حالما انتظمت الدراسة وعاد الصفاء الى اجواء حنتوب من جديد. ولكن بطبيعة الحال لم يكن ذلك الاضراب هو آخرالاضرابات فقد تبعته اخريات عبرالسنين ولكن الغريب فى الامر انها ظلت تترى فى نفس التوقيت( شهر اكتوبر) من كل عام رغم تنوع اسبابها. ورد على لسان استاذ العلوم محمد صالح محمد (عليه فيض من رحمة الله) قولته الشهيرة “تتنوع الاسباب والاضراب واحد” مؤكدا انه تلك الاضرابات فى كل سنة كانت تتزامن مع بداية تدريسه نفس الجزء من المقرر الدراسى فى اى من فصول سنة تانيه اوتالته او رابعه التى كان يدرس طلابها اثناء فترة بقائه معلما فى الصرح العظيم.
وما ان حل شهر اكتوبر من عام 1950الآوتفجرت ازمة فى مدرسة خورطقت بين الطلاب وآبائهم كبار المعلمين..الذين كان على راسهم معلم الاجيال النصرى حمزه ونائبه عبدالحليم على طه ومن معهم من كبارالمعلمين.احمد ابراهيم فزع والطيب شبيكه وعوض عقارب (رحمهم الله جميعا).وغيرهم من شباب المعلمين وذلك لما توافق نفرمن “اولاد البحر” كما كان يطلق عليهم بعض رفاقهم من ابناء كردفان ودارفور..على التقدم لأدارة المدرسة ببعض المطالب حسبوها من الضروريات اللوازم الواجب تنفيذها من اجل استقرار وتحسين الاوضاع الدراسيه فى “العمارة”التى لم يمض على افتتاحها اكثرمن عشرة اشهرولآ تزال فى مرحلة الانشاء و فى حاجة الى الاستقرار.كان فى مقدمة تلك المطالب تحسين نوعية الغذاءات باضافة الوان محددة من الخضر والفاكهة الى قائمة الطعام اليوميه فضلا عن بناء حوض للسباحه ! (تخيلوا) وكمان تنجيل ميادين كرة القدم اسوة بميادين وادى سيدنا وحنتوب..كانت تلك هى المطالب الرئيسية.التى كانت من وجهة نظراصحابها ان فى تحقيقها ما يجعلهم فى خورطقت(الذين من اجلهم حنتوب احتجت والوادى ضجت)ينعمون بمناخ دراسى مستقروبيئة تعليمية وحياة مترفة مساوية لما ينعم به رفاقهم فى حنتوب ووادى سيدنا. اختلفت وتباينت اراء الكثيرين من الطلاب حتى ان احدهم من ابناء كردفان كتب فى لاحق من الزمان انه كان كثيرالاندهاش والتعجب لمطلب بناء حوض سباحه(مويه يجلبغو فيهاعيال البحر!) اذ انه لم يسمع حتى تلك السنوات من حياته بما يسمى”حوض سباحه” باعتباران اهله فى كردفان لشح الماء يخزّنون اقدارا من مياه الامطار كل عام فى داخل اشجارالتبلدى لأستخدامها فى اشهرالصيف.فكان من وجهة نظراصحاب المطالب-اذا رفضت ادارة المدرسة تحقيق تلك “اللوازم والضروريات”- ألآ بد من اضراب عن الدراسة مع التظاهرظنأ منهم ان ذلك من الوسائل مما يرغم ادارة المدرسة لتحقيقها. فكان اول اضراب لطلاب فى خورطقت ولما يمض على افتتاحها فقط عشرة اشهر. شارك في الاضراب كثيرون من ابناء كردفان ودارفوردون قناعة منهم بالمطالب ولكنهم توقفواعن الدراسة من منطلق الحفاظ على وحدة الصف الطلابى. وتواصلت وتيرة المظاهرات فى ارجاء خورطقت وانتقلت الى الابيض فصدرقرار ناظر المدرسة ? رغم محاولات وتدخلات من اهل الابيض لأثناء الطلاب عن التوقف عن الدراسه ? بتعطيلها واغلاق المدرسه وترحيل كل المشاركين الى ذويهم وابعادهم جميعا(229 طالبا) وحرمانهم من العودة الى الخور الخصيب على ان تبدأ الدراسة فى ينايرمن عام 1951 بمجموعة جديده من الطلاب(نقلاعن ذكريات االنطاسى الكبيرموسى عبدالله حامد”صدى السنين..ثلاثية خورطقت” وضربت انباء اضراب طلاب خورطقت اكباد الابل الى كل انحاء السودان وسرت مسرى النارفى الهشيم ..فتلقفها طلاب المدارس الثانوية جميعها حكومية واهلية فضلاعن اتحاد طلاب كلية الخرطوم الجامعيه.فكان رد الفعل ايجابيا مساندا ودون تحفظ لأبناء الخورالخصيب فاعلن الجميع توقفهم عن الدراسة فيها فى تماسك وتضامن فريد. فكان اضرابنا الشامل فى حنتوب فى اكتوبر 1950 باستثاء طلاب سنة رابعه اللى كانوا يجاهدون مع معلميهم لاكمال ما تبقى من مقررات امتحانات شهادة كيمبريدج الذى سيبدأ فى بداية شهرديسمبرمن ذات العام.بدأ تضامننا مع طلاب خورطقت بليلة تظاهرية ليلاء ظللنا نطوف الى ساعة متاخرة من الليل ارجاء حنتوب “ما فَضّلنا للاستعمارصفحه يرقد عليها” فاوسعناه شتما واسقطناه بالثلاث امام المنزل رقم 10فخرج المستربراون الى المتظاهرين طالبا منهم فض المظاهرة التى اقضت مضجع ابنته الصغيرة المريضه وحرمتها وامها الخلود الى الراحه.وكان التوقف عن الدراسة فى اليوم التالى امرا متفقا عليه وتم تنفيذه باجماع طلابى منقطع النظيروبعد التشاور مع المعلمين(وكان هذا دأب المستر براون) كان القرارالذى تم اتخاذه هو تعطيل الدراسه واغلاق المدرسه وترحيل الطلاب الى ذويهم.. تم فصل عدد من رفاقنا فى مقدمتهم كان المرحومان صلاح احمد ابراهيم وشوقى حسب الله(ملآسى) وآخرون. ولكن كان لازم نعود ولوبعد حين بعدما هدأت النفوس وتدخل وزيرالمعارف وفرض قراره باعادة(مئة وعشرة)من طلاب خورطقت وايّد قرارادارة المدرسة بفصل المئة وتسعةعشرطالبا فصلا نهائيا الآ ان تعديلا وزاريا لآحق قضى بارجاع (خمسة وسبعين) طالبا آخرين للدراسة وتفرق الاربعة واربعون الباقون بين مدارس العاصمة الاهلية حيث أكملوا المرحلة الثانويه وادوا آمتحان شهادة كمبريدج بها. حالما تم الاعلان عن استئناف الدراسة فى حنتوب فى الاول من شهر يناير لتبدأ الامتحانات النهائية للعام الدراسى (1950) بعد اسبوعين من تاريخ استئنافها عدنا الى حنتوب على الرغم مما تم التعاهد عليه بالآعودة الآ بعد رجوع طلاب خورطقت اجمعين!
وبين اكتوبر 1950 واكتوبر1951 تاريخ الاضراب السياسى اللاحق تواصلت التظاهرات المسائية من حين لآخردون توقف عن الدراسة . توقفنا عن تناول وجبات الطعام عدّة مرات فى اوقات متفرقة ولأسباب متفاوتة منها ما كان احتجاجا على غياب الارزوالعسل عن قائمة الغذاءات واستبدالهما بالمكرونه (شفتو الهنا اللى كنا فيه ايام الاستعماراللى كنا نهتف بسقوطه..الا ليت سوالف الازمان جديد واياما مضت يا سعاد تعود) وما كنا ندرك ولا كنا مستعدين او راغبين فى معرفة اوتفهم اسباب الابدال وألأحلال.. ان كان هوعدم توفرالكميات المطلوبه من الارزفى سوق ودمدنى اولآسباب أخرى غيرمرئية! مثلما كان اعضاء لجنة الطعام وغيرهم من الرفاق يتوهمون وجود نقص فى كمية اللبن التى تقدم مع وجبة الافطارمثلما كانوا يروّجون ان اللبن ذات نفسه كانت تكتنفه شبهة اضافة اقداركبيرة من الماء اليه..اوعندما يعجزالمتعهد احيانا عن توفيرالكمية المطلوبه من الموز فيستعيض عنه بما يتوفرله فى الاسواق من فاكهة وابّا مثل “الجوافة او معلّبات الفاكهة” وحيث ان دوام الحال هو من المحال وصار كل شىء الى زوال فى لواحق من الزمان تبين لنا صدق المثل السودانى القائل”المتحيّل تبكيه الريشه” الذى كان ينطبق على سلوك طلاب تلك الازمنة فقد كنا نتصيد كل خطأ ادّى الى اخفاق او تعثّر فى تحقيق ما كنا نراه من المستحقات الطلابية اللازم توفرها بكمياتها المستحقة وفى حينها دون اعتبار لقوانين العرض والطلب اولأى ظرف طارئ ربما كان ذا اثرعلى مواصلة حياتهم حسبما يريدون او على ذات النمط التى تسيرعليه فى هذه الدنيا الفانيه.لمّا رجعت الى حنتوب نائبا للناظرفى عام اليوبيل الفضى(1970) بعد ثمانية عشرعاما منذ اكمالى الدراسة فيها.عند دخولى قاعة الطعام لم اصدق ما وقعت انظارى عليه بل ذهلت بما وجدته من تدنى وتدهور مريع فى كل شىء اصابنى بشىء من الاشفاق مقارنة بما عشناه ايام دراستنا فى الصرح الكبير.اولا اندهشت لخلو القاعة من المقاعد الخشبية التى كانت تحيط بالترابيز.عجبت لما علمته من المرحوم هبانى ان ظل الطلاب سنين عددا يتناولون طعامهم وقوفا على ارجلهم!مثلما جملة وتفصيلااختفت الاوانى الجميلة الناصعة البياض (طاسات الطلس)والاطباق (صحون الطلس) باحجامها المختلفه وفوجئت مع “الاستغراش” بوضع كميات قليلة من البهارات على اطراف وحواف اسطح الترابيز! وما صدقت.امن المعقول ان يكون الحال وصل الى ذلك الدرك!ساعتها والله حزنت واسفت نيابة عن رفاقنا فى سوالف الزمان على كل تصرف غيرمسؤول صدرمن بعضنا فى ايامنا الخوالى تلك التى كانت بكل المقاييس مشرقة وزاهية- تجاه من كانوا على رأس ادارة الصرح الشامخ(رحمة الله عليهم جميعا وغفرلكل من كان قد ظن بهم الظنون)
وعودا على بدء الى زمان دراستنا حينما كان المستر براوان يسعى بكل ما كان لديه من منطق وحجج- حالما يعلم بتوقف الطلاب عن تناول وجبة الافطار- لعقد اجتماع بمفتشى الداخليات والبيرسر ونائبه ورؤساء الداخليات واعضاء لجنة الطعام المكونة من مندوبى الداخليات الثمانية و بحضور الشيخ عبدالرحمن هبانى (المسؤول عن قاعة الطعام) لمناقشة الامروتقليب وجهات النظرمؤكدا اقتناعه الكامل الى ان الاضراب عن الطعام من وجهة نظره يعنى تلقائيا ايقاف الدراسه واغلاق المدرسه اذا ما اصرالطلاب على توقفهم عن تناول الوجبات.. فهو لن يتحمل مسؤولية ما قد يحدث صحيا لأى طالب من جرّاء فقدانه الحق بالتمتع بحياته بصورة طبيعية( وان كان بيده لآ بيد عمرو)مع قلّة فى الطاقة والقدرة على مواصلة دراسته التى اساسا من اجلها جاء الى حنتوب بسبب عدم تناول غذائه اليومى بكمياته المطلوبه وبمكوّناته ومحتوباته الغذائية اللازمة للدراسه (برضو تقولو استعمار!) ومن بعد الاتفاق على ما يجب القيام به واتخاذ كل ما لزم لسد كل ثغرة واكمال كل نقص يضرب الجرس دعوة لاجتماع عاجل لجميع الطلاب والمعلمين فى قاعة الاجتماعات فيوجه المستربراون فى كلمات بينات عواقب ومغبّات التوقف عن تناول الوجبات والافادة بما سيتخذه من خطوات تتعلق باستمرارالدراسه من عدمها فى حالة الاصرار على الرفض تناول الطعام وفى ذات الوقت واعدا ان المطالب التى تقدمت بها لجنة الغذاءات ستجد منه كل العناية وستتم دراستها وتنفيذ كل ما كان منها ممكنا ومسموحا به فى اطاروحدود الميزانية المصدّقه ومن ثم يطلب التوجه فورا الى قاعة الطعام لتناول الوجبة التى كان اوان تناولها قد وجب افطارا اوغداءا وألآ فعلى كل رافض لحديثه او لتناول الطعام الاستعداد لمغادرة حنتوب فيما تبقى من ساعات النهار. فكانت استجابة الطلاب عالية ونعود الى الدراسة حال تناولنا الطعام ويعود الصفاء الى اجواء حنتوب ويصدق المستربراون وعده بتنفيذ ما كان قدعاهد نفسه على تحقيقه من المطالب التى تم تقديمها له
ودارت الايام دورتها وحل شهراكتوبر1951والعام الدراسى يكاد يلفظ انفاسه. فوجىء الناس فى كل اركان الدنيا بنبأ كلن له دوى كبيروآثارمتتابعة فى مصروالسودان واجزاء اخرى من الشرق الاوسط. ففى الثامن من اكتوبر1951 اعلن النحاس باشا رئيس وزراء مصرقراره بالغاء معاهدة الصداقه والمودة والتعاون المبرمة بين مصر وبريطانيا فى السادس والعشرين من شهر اغسطس عام 1936 وهى التى ظلت تعرف باتفاقية 1936 التى كانت تعزيزا لأتفاقية الحكم الثنائى المبرمة بين البلدين فى عام 1899 لأقتسام ادارة السودان بعد انتهاء الحكم المهدوى ومقتل الخليفه.كان ابرام الاتفاقية الملغاة قد فرضته ظروف دولية متعددة اهمها كان احتلال ايطاليا للحبشه (اثيوبيا حاليا)فى اطارالتوترات السياسية الدولية التى كانت تسيطرعلى علاقات الدول فى تلك الايام فارادت مصر? تحسبا لآى خطر داهم مماثل – ان تتقوى بدعم وحماية بريطانيا مقابل تقديم ما يمكنها من توفيره لها من حوافزلوجستيه وتحقيق قدرمن مصالحها اعترافا بزعامتها وسلطانهاعلى دول الشرق الاوسط والدول الكبرى على ان يعاد النظرفى بنود تلك المعاهدة خلال العشرين سنة المقبله.ولكن بمرورالايام والسنين كانت مياه غزيرة قد مرّت من تحت جسرالاتفاقيه فقد استجدت ظروف داخلية مصرية بعد انتهاء الحرب العالمية فى عام 1945ولم تف بريطانيا بما وعدت مصر به مما جعل المصريين يفكرون فى اعادة النظرفى بنود الاتفاقية قبل الموعد المتفق عليه(1956)ألأ انه تبين ان الهدف الاساسى من اعادة النظرفى بنود المعاهدة كان التخلّص منها ومما فرضته عليهم من قيود قبلوها فى حينها مكرهين لا ابطال .طالت فترة التفاوض بين مندوبى الدولتين دون ان يتمكن الجانبان من التوصل الى افاق وجهات النظر.وصاروا الى طريق مسدود فما كان من النحّاس باشا ? رئيس الوزراء المصرى ألآ ان وجه بوقف التفاوض واعلن الغاء اتفاقية 1936من جانب واحد مما يعنى تلقائيا توقف العمل بموجب احكام اتفاقية الحكم الثنائى بين البلدين لعام 1899. بطبيعة الحال رفضت بريطانيا قرارالغاء اتفاقية”الصداقة والمودّة والتحالف”بين الشريكين فى حكم السودان بعد اعلان البرلمان موافقته على قرار الالغاء واعتبارالسودان من تاريخه جزءا من المملكة المصريه تحت “تاج الفاروق المفدّى” الذى نودى به ملكا على مصر والسودان كان للقرارأثاره فى كل مكان.تفاعلت معه كل قطاعات الشعب المصري ايجابا وبحماسة منقطعة النظيريقابله رفض بريطانىا الكامل متمسكة بسيادتها على السودان بزعم ان السودان كان يشهد تطورات دستورية تفضى به بعد سنوات قلائل الى الحكم الذاتى وصولا به الى مراقى الدول المستقلة ولا يمكن السماح بالعودة به الى عهود الحكم التركى المصرى قبل اكثر من قرن من الزمان.كما تمسكت بريطانيا ايضا ببقائها فى منطقة قناة السويس احتلالا رغم انف المصريين الذين بدأوا المقاومة واعلنوا الجهاد والتعبئه ضد بقاء الانجليزفى المنطقة وفى السودان وذاك امر يطول شرحه ولا يتسع المجال للخوض فى تفاصيله.
المهم حصل ايه فى السودان؟ الغاء الاتفاقية زاد من وتيرة الحراك السياسى فى البلاد واتسع. ورغم ارتياح الاحزاب السودانية الاستقلالية والاتحادية على حد سواء بقرارالغاء مصرالمعاهدة من جانب واحد الآ انت كان لكل من الحزبين منطلقاته ورؤاه .. الاتحاديون ايدوا قرارالالغاء تاييدا مطلقا .وربما كانت الاحزاب الاتحادية المتعددة المرتكزات تعلن سرا اوجهرا موافقتها على اعلان السودان جزءا من المملكة المصرية.. سيرا فى ركاب المصريين افعالا واقوالا ووقوفا مع كل ما يفرح الشعب المصرى ويثيرحفيظة البريطانيين الذين وفقا لالغاء اتفاقيتى 1936 و1899 يفترض ان يجعل بقاء الانجليزعلى رأس الجهاز الادارى واستمرارتوليهم مقاليد الحكم فى السودان امرا غيرقانونى ولا يستند الى اساس دستورى ولكن هيهات . اذ رغم ترحيب الجبهة الاستقلاليه المناوئة للمصريين بالغاء المعاهدتين ألآ انها رفضت اعلان النحاس ضم السودان الى الدولة المصرية تحت التاج المصرى..وطالب الاستقلاليون اعلان السودان دولة مستقلة ذات سياده طالما كان الغاء اتفاقية 1936 يعنى تلقائيا الغاء اتفاقية 1899مما يعنى ايضا عدم وجود سند قانونى لأستمرارسيطرة اى من مصر وبريطانيا على مقاليد الحكم فى السودان وعليه يجب اعتبار الفترة المقبلة فترة انتقاليه فى ظل المؤسسات الدستورية القائمة( الجمعية التشريعيه والمجلس التنفيذى) الى حين قيام انتخابات برلمانية فى اقرب وقت ممكن تعقبها حكومة شرعية تتولى حكم البلاد .. .اليسار ونقابات العمال واتحاد طلاب كلية الخرطوم الجامعيه لم يكونوا على قلب رجل واحد (كما هو حال اهل السودان عبر السنين) ايدوا فكرة الغاء الاتفاقيتين دون تحديد موقف ظاهر بشان ما قد يترتب على ذلك من تطورات مستقبلية . كانوا فى حالة من التشتت لآ الى هؤلاء ولا الى اولئك بما كان لهم اتجاهاتهم الايديولوجيه الخاصة المتعددة المرتكزات. ولكن كان المهم فى ظل هذه الرؤى المتباينه ان يكون للطلاب دور وصوت يسمع. بطبيعة الحال ليس هناك لديهم سوى الاضراب عن الدراسة.. رغم عدم وضوح الرؤية وماذا سيحقق التوقف عن الدراسة ومغادرة المدارس اللهم الآ المشاركة فى الحراك الساسى المشتت فى ارجاء السودان.اضربنا كلّنا بسلامتنا طلاب السنوات الثلاث عن الدراسة وهتفنا فى وجوه الكثيرين من المعلمين البريطانيين لرفض حكومة بلادهم الغاء الاتفاقيه وتمسكها بمواصلة التحكم فى رقاب اهل السودان رغماعن انفهم و”نهب ثرواته وثروات البلدان المستضعفه” كما كان يردد”الرفاق”.كما نال المسترموريسون وزيرخارجية بريطانيا نصيبه من الاسقاط مع الاستعمار فضلاعن اقذع الاوصاف جراء تهديده باستخدام القوة فى منطقة القنال وفى غيرها اذا تطلب الامراذا ظلت اعمال الفدائيين تتواصل ضد الانجليز التى قابلتها قواتهم بوحشية وعنف غير مسبوق. لم يبذل مستربراون ولا المعلمون كما درجوا فى سوابق الازمان كثيرا من الجهد لأثنائنا عن الاضراب فغادرنا حنتوب بعد تعطيل الدراسة تاركين وراءنا طلآب السنة الرابعه لمواصلة الاعداد لأمتحان شهادة كيمبريدج فى الاسبوع الاول من ديسمبر1951
عند استئناف الدراسة فى الاول من يناير1952فوجئنا بجدول الامتحان النهائى يزيّن لوحة الاعلانات فى كل فصل ويعلن عن قيامها فى الثالث من يناير ومن ثم تتواصل الدراسة مباشرة حال الفراغ من تصحيح اوراق الاجابه اولا باول دون تاخير. حمدنا الله كثيرا ان رجعنا جميعا بسلامتنا(على غيرالمعتاد بعد كل اضراب) دون ابعاد لآى طالب. والشىء بالشىء يذكرفان الابعاد عن حنتوب قد طال نفرا كريما من الرفاق عبرالسنين اكمل بعضهم ما تبقت لهم من سنوات او اشهرلاكمال المرحلة الثانويه فى مدارس العاصمة ? الاهلية والاحفاد وتمكنوا جميعا بحمد الله من احراز اعلى الدرجات فى شهادة كمبريدج مما اتاح لكثيرين منهم فرصة الالتحاق بكلية الخرطوم الجامعيه فى معية رفاق دربهم الحنتوبيين ومنهم من آثرالالتحاق بالجامعات المصريه (ألأم) وبغيرها من جامعات اوروبا الشرقية وعادوا جميعا الى البلاد ليتولى الكثيرون منهم فى لواحق الزمان اعلى مناصب الخدمة المدنية اوالدستوريه .. رحم الله من انتقل منهم الى رحاب رب ومد فى ايام من لا يزال ينتظر.
وسارت الايام بنا تباعا خلال عام 1952 الذى شهد العديد من الاحداث فى مقدمتها كان كسوف الشمس الكلّى فى الثانى من مايو 1952الذى خرج طلآب حنتوب عن بكرة ابيهم فصلا وراء فصل لمشاهدة الحدث من جهاز التليسكوب المدرسى تحت رعاية المستر براون شخصيا.. مثلما خرج اهالى قرية حنتوب يضربون “النقاقير” ويقرعون الصفائح كعادة اهل السودان عند حدوث كسوف الشمس وخسوف القمر. ولكن كاد حديث احد طلاب السنة الثالثه “بيتهوفن” للاهلين وهم منصتين لأحد المعلمين وهويشرح لهم اسباب الكسوف كظاهرة كونيه بدخول كوكب القمربين الارض والشمس مما يحجب ضوء الشمس عن سكان الارض مع افادتهم ان قرع الطبول وضرب الصفائح ليس من الاسلام فى شىء وانما هى بدعة يجب التوقف عنها. .فجاء تعليق الطالب للاهلين صادما بكل المقاييس لكل من تلقاه .. طلابا او معلمين او من اهل القرية الكرام اذ وجه الطالب حديثه لهم فض فوه “ما تسمعوا كلامه..دا بضللكم”! طالب يحدث اهل القرية من البسطاء الا يسمعوا حديث احد معلميه واصفا اياه انه يضللهم!.. فما كان من بعض اهل القرية الا ن قاموا بزجره وتعنيفه وكادوا ان يفتكوا به .. بطبيعةالحال لمّا كان هناك بعض الطلاب قريبين من وموقع الحدث وسمعوا كلمات زميلهم تناقلوا الخبربين مصدق ومكذب اذنيه وسرى بين الطلاب الذين انقسموا الى “فسطاطين”.الاسلاميين مؤيدين ومساندين على استحياء لحديث رفيقهم الى الاهلين بتجاهل شرح المعلم للظاهرة الكونية وألآخرين من الوان الطيف وقفوا شاجبين تدخل الطالب بتلك الطريقة الخالية من ادب التعامل مع المعلمين مهما كان اختلاف وجهات النظربين الطلاب والمعلمين وكادت ان تحدث ازمة لم يكن يعلم مداها الآ الله لولآ تدخل كبارالمعلمين بالحكمة والموعظة الحسنة للطالب الذى لم يكن قدعرف عنه من قبل سوء خلق اوجنوح سلوك او تحد سافر لمعلميه ولم يكن فى يوم من الايام من مثيرى الشغب قولا اوفعلا الى جانب كبر سنه وعلو مقامه بين رفاق دربه مع تقبل الاستاذ كريم النفس واسع الافق اعتذارالطالب مما اعاد الصفاء الى مجتمع الصرح الكبير الى ان انفض سامرنا بعد ايام قلائل حينما بدأت العطلة الصيفية فى نهاية الاسبوع الثانى من مايو ليشد نفرمن اعضاء جمعية التاريخ الرحال متوجهين الى مدينة شندى لزيارة المعالم التارخية فى ربوعها بينما توجهت الغالبية العظمى من اعضاء الجمعية الى مدينة وادى حلفا عبرالمناطق الاثرية على الضفة الغربية من النيل..استغرقت الرحلة التى سارت وفق برنامجها المحدد قرابة ثلاثة اسابيع لينفض سامر اعضاء الجمعية فى محطة السكة الحديد بالخرطوم عند عودتهم فى الاسبوع الاول من يونيو1952لنلتقى فى حنتوب عند بداية الفصل الدراسى الثانى والاخيرمن عام 1952 فى الاسبوع الاول من سبتمبرمواصلين انشطتنا الدراسة وحياتنا الاجتماعية التى حفلت بالمزيد من التجارب وفاضت بالخبرات الى ان هل شهرنوفمبرالذى كاد ان يشهد فصلا آخرمن تعطيل الدراسة لولا ان تداركته العناية الالهيه فمرّت ايامه بسلام الى ان فرغنا من اداء امتحان شهادة كمبريدج بعد منتصف ديسمبربايام قلائل حينما غادرنا الارض الطيبة لآخرمرة قبل ان يسعدنا الزمان بلقاء المستر براون ونفر من قدامى معلمينا الابرار ومع الكثيرين من الرفاق فى شهر مارس 1971 عند احتفائنا بمرور خمسة وعشرين عاما من عمر حنتوب الجميله.
[email][email protected][/email]
الاستاذ الطيب السلاوي—– التحية لك ولجيلك من الخريجين الاوائل—- وشكرا لاتحافك لنا بما كتبت.