حكايتي مع الشابة الإنجليزية فانيسا.. حلقة “8”

عندما خلف البص يوركشير الغربية على مشارف الشمالية لم يعد به الكثير من المسافرين، كانت فانيسا تجلس قبالة النفاذة تتكئ على كتفي ملقية ساقها اليمنى بين ركبتيي وهي تدندن بصوت رهيف أغنية “نهر اللاعودة”.
وفي محاذاة شارع دونكاستر ليس ببعيد من نهر الأوز أشارت فانيسا بأصبعها عبر نافذة البص “انظر إلى ذاك المبنى، هذه مستشفى النصب التذكاري للحرب العالمية الأولى، هنا جئت أنا لأول مرة إلى الوجود الحاضر”.
المخاض كالعادة يكون عسيراً . كان بالغرفة المضمخة برائحة الديتول قابلة ومساعدان والسيد دانيل مونتجمري وأنين وآهات مارغريتا أكرمان. ثلاثة ساعات كاملات من الألم والقلق. كان دانيل قلقاً بدرجة متوسطة الحال، لم تكن المرة الأولى، جاء إلى هذا المكان من قبل ثلاث مرات، وكانت مارغريتا تتألم بشدة لكنها تعلم يقيناً أن لا سبيل للحياة إلا بعبور باحة الألم.
كان دانيل خلال كل تلك المدة جيئة وذهاباً بين سرير مارغريتا والنافذة الزجاجة الكبيرة المطلة على نهر الأوز. لم يكن النهر متاحاً للنظر بسبب الغيوم والضباب والمطر. كانت الأيام الأولى من بداية فصل الخريف. ظل دانيل ولعدة مرات يسلي نفسه بمراقبة خيوط الضباب وحبيبات المطر التي تنقر زجاج النافذة ثم تسيل في خيوط صغيرة متقاطعة كبيت العنكبوت. كانت الساعة التاسعة والنصف صباحاً، غير أن هناك ثمة عتمة تناصرها سحب سوداء سميكة وموجات متتالية من الضباب تلف نهر الأوز يجرحها البرق من حين إلى آخر مخلفاً من ورائه هزيماً يرج الأفاق مختلطاُ بأنين وآهات مارغريتا.
وفي اللحظة التي أنقشع عندها القسط الأوفر من الضباب والغيوم والسحب وشرعت الشمس في إطلالة متعسرة و بدى نهر الأوز متاحاً للنظر جاءت صرخة الوليدة. قليلاً ووضعتها القابلة على الميزان وهي تنظر إليها “إنها جميلة وصحية، وزنها ثلاثة كيلوغرامات”، ثم تساءلت بلطف “ماذا أسميتموها” فأجاب كل من دانيل ومارغريتا في نفس الوقت “فانيسا”.
منزل آل مونتجمري في حي هامينقبرو على الضفة الغربية من نهر الأوز.
كان هناك فقط رجلان وإمرأة واحدة في البص عندما نزلنا في إحدى محطات هامينقبرو.
عند منحنى نهر الأوز تبدى من على البعد مستقرنا، كان كوخاً فسيحاً من طابقين مصمماً على الطراز الإنجليزي الكلاسيكي، بابه الخارجي من المهوقني المعتق وذو حديقة أمامية بارزة وأخرى خلفية مسيجة بألواح خشبية طولها مترين، النوافذ العلوية في شكل مستطيلات صغيرة والسفلية مقوسة وأكثر رحابة.
رائحة مياه الأوز يعضدها رزاز رهيف تسيطر على الطقس. توقفت بغتة عن المسير بينما كانت فانيسا مستنزفة بالتفاصيل “هذه هي الهدية التي جلبتها لجانيت، وجب أن تعطيها لها بنفسك عندما نصل، دعني أحمل أنا الحقيبة”. نظرت إلى نهر الأوز، شيء ما أخذ ببصري وبصيرتي!.
شعرت لوهلة بسمت حميم وأنا أقف على حافة النهر ثم جات أجراس، سمعت صوت أجراس ما تأتي من البعيد، تتعالى، تشق عنان السماء، صم هزيم الأجراس أذنيي، كلما أستنشق رائحة مياه الأوز يزداد رنين الأجراس وجسدي تغزوه قشعريرة صادمة مركزها في صدري وموجات مغنطيسية تجرني ناحية عمق النهر . وكلما أزداد رنين الأجراس أصبح وقع الموجات المغنطيسية أكثر حدة من ذي قبل، أجراس صاخبة تأتي من البعيد وموجات مغنطيسية تجرني ناحية النهر تنتهي إلى قشعريرة في صدري.
كنت وكأنني في غرفة إنعاش بمستشفى خاص بحوادث الحركة حينما أفقت على يد فانيسا تلطمني برفق على خدي وهي مذعورة “ما بك؟”، فتمتمت “لا شيء، لا شيء” ، ثم أستطعت إستدراك اللحظة “فقط شعرت بالإنتماء لهذا النهر، شعرت وكأنني منه، كأنه مني، كأننا شيئاً واحداً”، “لكن انت قلت لي من قبل أنك سمكة من النيل”، “نعم، قلت ذلك”، تلك هي العادة، ربما كانت هي فقط الإلفة، ” كل شيء يقوم على العادة مشكوك في أصالته، نحن يا فانيسا لسنا من مكان واحد ولا زمان واحد ولا نهر واحد”.
يتواصل.. حكايتي مع الشابة الإنجليزية فانيسا.
محمد جمال
[email][email protected][/email]
البصات دائما هناك خالية , وهناك دائما ما يمكن أن تراه من ناقذة أي بص , أو نافذة أي قطار , أو من نافذة الخيال والحلم والرغبة . وهناك دائما سحاب ومطر ورذاذ . وضباب . وعندما رأيت الجليد لأول مرة في هيغنهاوس وهو متراكم على بيوت عمرها أكثر من مئة عام , وعلى الخيول في الأسطبل , وعلى رؤوس الأشجار وفروعها وعلى أخشاب حظائرها شككت في وجودي . ولم أصدق عيني إطلاقا . وحتى هذه اللحظة أنا أعيش في ذهول تلك اللحظة التي مرت بي وبقيت إلى الأبد تذكرني على الدوام بأن هناك أشياء لم نعشها بعد وربما متنا قبل أن نصل إليها . هل هناك حياة أخرى تعوضنا هذا النقص ؟ يجب أن تكون في هذه الحياة ……..
تصوير عحيب مدهش للاحداث. في انتظار القادم
توصيف رائع كله حلو، اعبتني أكثر تلاتة مقاطع:
– كانت مارغريتا تتألم بشدة لكنها تعلم يقيناً أن لا سبيل للحياة إلا بعبور باحة الألم.
– شعرت لوهلة بسمت حميم وأنا أقف على حافة النهر ثم جات أجراس، سمعت صوت أجراس ما تأتي من البعيد، تتعالى، تشق عنان السماء، صم هزيم الأجراس أذنيي، كلما أستنشق رائحة مياه الأوز يزداد رنين الأجراس وجسدي تغزوه قشعريرة صادمة مركزها في صدري وموجات مغنطيسية تجرني ناحية عمق النهر . وكلما أزداد رنين الأجراس أصبح وقع الموجات المغنطيسية أكثر حدة من ذي قبل، أجراس صاخبة تأتي من البعيد وموجات مغنطيسية تجرني ناحية النهر تنتهي إلى قشعريرة في صدري.
– كل شيء يقوم على العادة مشكوك في أصالته، نحن يا فانيسا لسنا من مكان واحد ولا زمان واحد ولا نهر واحد”
كانت مارغريتا تتألم بشدة لكنها تعلم يقيناً أن لا سبيل للحياة إلا بعبور باحة الألم…يا جمال هل تصدقنى لوقلت لك لقد طالت رحلت العبور بنا وما زلنا لم نبارح ساحة الالم للحياة التى مرت من امامنا كما يمر الاوز الى الضفه الاخرى من شاطىء النهر لا احد ينظر من نحن كلهم ينظرون النهر ودموعنا صارت انهارا.