سياسيو أوروبا يسيرون عكس خط سير الموضة

اليمين الأوروبي الذي يسيطر على قطاع هام من رأس المال الصناعي في أوروبا والذي يقود حملة منذ سنوات على الإسلام والمسلمين والنظر إليهم على أنهم منابع للإرهاب، هو ذاته الطرف الذي يسعى إلى تحويل الإسلام ورموزه في اللباس والسلوك إلى سلع تباع وتشترى؛ والتشبث الصارم بالقيم الغربية عنده يقف عندما يصل الأمر إلى الربح. ويظهر ذلك من خلال تهافت كبرى الشركات والعلامات التجارية العالمية للموضة على صناعة الألبسة الإسلامية. ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل كشفت التصريحات الأخيرة لبعض المسؤولين في فرنسا وإيطاليا أن الموضة أصبحت تتحكم في سياسات الدول ويمكن أن تؤثّر على قراراتها.
العرب
باريس ? في الوقت الذي كان يدعو فيه رئيس الحكومة الفرنسية مانويل فالس إلى حظر الحجاب في الجامعات، وفي شارع غير بعيد عن المقر الذي استضاف منتدى باريس حول ?الإسلاموية وتقدمها الشعبوي في أوروبا?، انتصبت لافتة إعلانية كبيرة تظهر فيها عارضة أزياء ترتدي طاقما نسائيا شبيها بالملابس التي ترتديها المحجّبات المسلمات. واللافت في هذا الإعلان هو أنه لدار أزياء فرنسية معروفة.
دولتش آند غابانا، شانيل، جيفانشي، مانغو، آيتش آند آم، أونيكلو، وغيرها من الماركات العالمية للموضة تتنافس اليوم على صناعة ما أصبح يسمى بـ?الملابس الإسلامية?، وعطورات المحجبات وقمصان الرجال وطاقية الرأس وغيرها. وقد نشر موقع المركز الفرنسي للبحوث الاجتماعية إحصائيات تقول إن ?رقم المعاملات في سوق الموضة الإسلامي في أوروبا فقط سيبلغ 400 مليار أورو سنة 2019?.
وتؤكّد تصريحات فالس وسياسيين فرنسيين وغربيين أن هناك ترابطا كبيرا بين الموضة والسياسة، بل هناك من يخشى أن تؤثّر خطوط الأزياء على سياسات الحكومات؛ حيث يقول فالس ?الحجاب لا يمثل موضة عابرة، إنه ليس لونا ترتديه المرأة بل هو استعباد لها?، داعما دعوة الفيلسوفة النسوية اليزابيت بادانتير إلى مقاطعة شركات الأزياء الفرنسية التي تبيع أزياء إسلامية.
ولفت بعض السياسيين الفرنسيين إلى خطورة ما تقوم به الشركات المختصة في صناعة الموضة ومسالك التوزيع العالمي لمنتوجات اللباس. إذ أثارت وزيرة الأسرة والطفولة وحقوق النساء في فرنسا لورانس روسينول جدلا واسعا في بلادها حين قالت إن ?الرموز الدينية وطريقة التعبد أصبحتا اليوم سلعة يمكن شراؤها من السوق?.
وبعيدا عن القراءة السياسية لتصريح الوزيرة الفرنسية، يكشف تناوله بشكل عقلاني مدى قدرة رأس المال على تحويل القناعات الفردية في المجال الديني إلى ?شحنة للتباهي وإبراز الذات أمام الآخر? حسب قول الباحث السوسيولوجي الفرنسي آلان سورال.
قامت دوائر البحث في نفسية السوق التابعة لبعض شركات الموضة العالمية ببحوث معمقة في الاتجاهات العامة للمستهلكين. وأكدت دراسة في السياق نشرها المركز الفرنسي للموضة أن عددا كبيرا من المسلمين يعيشون في فرنسا وباقي الدول الأوروبية يمثلون سوقا كبيرة وفرصة هامة للاستثمار في الألبسة والعطورات وطرق الزينة وحتى أشياء أخرى تتبع الثقافة الإسلامية، مثل الأثاث والزخرف ولوحات الحائط وأدوات المطبخ وبعض المواد التي تتبع مناسبات وأعياد المسلمين.
ويقول الخبراء في المركز الفرنسي للموضة ?إن الاهتمام بهذه السوق الجديدة أكد منذ سنوات أن دورة اقتصادية كاملة سوف تنتعش إذا ما تحول اللباس الإسلامي إلى صيحة موضة، فالأقمشة وتصور التصاميم والإنتاج وغيرها سوف تكون مصدرا لاستثمارات عديدة?.
ويشير روب فاغنر، في قراءة لهذه الظاهرة، نشرت في صحيفة ?العرب ويكلي?، إلى أن صناعة العلامة التجارية الفاخرة شهدت في العقد الماضي نموا هائلا يقدر بـ9.5 في المئة سنويا، مع انتشار مراكز التسوق، ووفرة الدخل والسفر بأثمان زهيدة إلى الغرب، خاصة لندن وباريس ونيويورك. وقد أدى ذلك إلى قيام العلامات التجارية الفاخرة بحملات تسويقية متطورة لجذب المشترين الأثرياء من العرب.
واتخذ فاغنر من المملكة العربية السعودية مثالا لدراسته، التي قال فيها إن باحثين كنديين قاموا بدراسة للسوق، وتوصلوا إلى أن مبيعات الملابس والأحذية والأكسسوارات والسلع الفاخرة بلغت قيمتها 11.9 مليار دولار في عام 2012، بزيادة تقدّر بـ9.5 في المئة مقارنة بعام 2011. وحتى خلال الركود في عام 2009 ارتفعت المبيعات بقدر محترم بلغ 5.8 في المئة مقارنة بالعام السابق.
وذكر تقرير لرويترز أن نفقات المسلمين على الملابس والأحذية ارتفعت وسوف تصل إلى 484 مليار دولار بحلول عام 2019. وتكشف هذه الأرقام كيف يتكيف تجار المنتجات الفاخرة مع عادات التسوق، بل يقول بعض المراقبين إنه ورغم اعتبار المسلمين من وجهة نظر تيار أوروبي واسع يربط بين المسلمين والعنف والإرهاب إلا أنهم لم يتوانوا عن تطوير لباسهم والترويج له للربح الاقتصادي.
وسلّط تقرير لمجلة ?أنترناشيونال بيزنس تايمز? الأسترالية الضوء على تشكيلة الأزياء التي كشف عنها المصممان الإيطاليان الشهيران دومينيكو دولتشي وستيفانو غابانا لأول مرة على موقع ستايل دوت كوم ارابيا. وهي المرة الأولى التي تعرض فيها شركة دولتشي آند غابانا تشكيلة من العباءات وأغطية رأس خاصة بالمحجبات، في خطوة تهدف إلى تلبية احتياجات السوق الإسلامية الواسعة.
ورحبت منى أبوزالاف، وهي محـجبة مقيمة في سيدني، بهذه الخطوة قائلة ?أشاهد بشكل يومي متاعب النساء المتحجبات في التوفيق بين الموضة وخصوصية لباسهن. وقد كشفت التشكيلة عما تفتقر له هذه السوق منذ فترة طويلة? إنها خطوة جيدة لصناعة الأزياء لأنها تعني الاعتراف بسوق ظلت لفترة طويلة تبذل الكثير من الجهد لاعتماد أحدث الموضات مع طريقة تجعلها تتلاءم مع القيم الدينية?.
وأشادت فانيسا روبرتس، رئيسة تحرير موقع الأزياء الأكثر شعبية ?بريكفاست ويذ أودراي?، بخطوة دار الأزياء الإيطالية، مؤكدة أن جميع الأجناس والأديان والمذاهب لها الحق في أن تكون ممثلة في أزياء الموضة.
وقالت روبرتس لصحيفة أنترناشيونال بيزنس تايمز ?لا يهم ما المنظور الذي يأتي منه الناس، غالبيتهم يفخرون بأناقتهم ومظهرهم العام. نحن جميعا من المشترين! من المهم بالنسبة إلي أن يكثف منتجو العلامات التجارية وتجار التجزئة تركيزهم على قطاعات كانت مفقودة في السوق?.
وأفادت ?لا شك أن العلامات التجارية الفاخرة مثل دولتشي آند غابانا تقدر زبائنها في الشرق الأوسط، وبالتالي يبدو أنه من المناسب أن تلبي هذه الشركات احتياجات هذه السوق المهمة?. وأوضحت ?أشك في أن تتبنى دور الأزياء الأوروبية والغربية عموما هذا الخط المستوحى من خصوصية الثقافة الإسلامية، إذا لم يكن ذلك يزيد من شعبيتها?.
وعلقت ليلى عبدو، وهي مسلمة مقيمة في لندن ?لا أعتقد أن الأمر صعب، أن أكون فتاة مسلمة وأحاول التعبير عن نفسي من خلال أحدث الموضات. وأنا أعلم أن التفكير في تغطية الجسم بشكل كامل جعل الناس يعتقدون، لوقت طويل، أن المرأة تحتاج إلى ملابس متواضعة وفضفاضة، مثل العباءات السوداء، ولكن لنكون صادقين، ليس من الضروري أن تكون الملابس على هذا النحو?.
لكن، يبدو أن السياسيين في أوروبا يسيرون عكس خط سير الموضة. ولعل أكثر وصف دقيق لهذه الحالة هو ما جاء في قراءة للصحافي الفرنسي باسكال ريشي عما أسماه ?جنون الحجاب?، حيث يقول في تقريره المنشور في صحيفة لونوفال أوبسيرفاتور ?هذه المرة عالم الأزياء هو الذي يفرض الحجاب على عالم السياسة. المعركة الكبرى يمكن أن تبدأ الآن?.
لم يكن أحد يتوقع أن تقوم فيرساتشي بصناعة لباس المحجبات والملابس الإســــلامية خاصة في إيران دولة الثيوقراطية بامتياز
الدولة والموضة
ليست تصريحات فالس في ذاتها هدفا للتحليل، لكن الأبعاد التي طرحها في سياق دفاعه عن وجهة نظر حكومته تطرح عددا من التساؤلات. ففي الوقت الذي تمكنت فيه الماركات المعروفة عالميا من دخول عالم الألبسة والتصاميم المتعلقة بموضة المسلمين، فإن السلطات في فرنسا أو في بعض الدول الأوروبية الأخرى تقف في الاتجاه النقيض لرواج هذه الموضة عبر إجراءات منعها.
بين 5 و6 ملايين مسلم يمثلون زهاء الـ5 بالمئة من سكان فرنسا هم من المسلمين، أي أن الإسلام هو الديانة الثانية في هذه البلاد التي عرفت منذ قرون بحفاظها على النمط العلماني للحكم. ولم يحدث من قبل أن وصلت حالة التصادم بين الدولة من جهة ورغبة الناس في ارتداء لباس ذي أبعاد دينية من جهة أخرى مثلما يحدث اليوم، حتى في فترة حكم ساركوزي الذي أثار جدلا حول منع لباس النقاب في الأماكن العامة.
ولكن يعتقد باحثون أن الخوف الأكبر يكمن في قلق السياسيين من أن يتحوّل هذا اللباس إلى موضة تتجاوز المسلمين كزبائن لتطال مختلف أفرد المجتمع، مسلمين وغير مسلمين، خاصة في صفوف المراهقين والنساء المولعات بملاحقة آخر الصيحات؛ فمثلا، كان الوشاح الذي تضعه سيدات الستينات وبداية السبعينات علامة ترمز إلى الأنوثة، وروجت له أكبر دور الأزياء الفرنسية والإيطالية، ولا يختلف ذلك الوشاح في شكله الخارجي كثيرا عن الوشاح الذي تغطي به المرأة المسلمة المحجّبة رأسها.
وقد وردت تصريحات في هذا السياق عن بعض العاملين في مختبرات البحث النفسي الاجتماعي مثل الصحافي باسكال ريشاي تقول ?إن الموضة بوابة للتباهي بين الناس، أصدقاء ومعارف وأقرباء وغيرهم، والمخيف هنا هو أن الحجاب، الذي يثير جدلا في رمزيته، سوف يكون محل تنافس بين الناس لارتدائه?.
الموضة تحدد السياسات
عكس النموذج الفرنسي الذي تسعى فيه الحكومة إلى محاربة انتشار الحجاب في الجامعات، فإن النموذج الإيطالي في ما يخص صناعة الموضة الإسلامية يعد متحمسا لإتمام الصفقات الكبرى المتعلقة بتلك الألبسة، حيث أصبحت إيطاليا أول دولة أوروبية تأخذ خطوات باتجاه مساعدة صناعة الموضة فيها على أن يكون لها وجود أكبر في إيران، ذات الطابع الخاص في اللباس الإسلامي.
ووقع البلدان اتفاقا خلال زيارة رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينتسي مع وفد من رجال الأعمال لزيادة التبادل التجاري بين إيطاليا وإيران بهدف تعزيز التعاون الصناعي. ووقع الاتفاق بين مؤسسة سيستما مودا إيطاليا وهي المؤسسة الوطنية للنسيج والموضة والتي تمثل قطاعا تبلغ قيمة إيراداته 52 مليار يورو ونظيره الإيراني اتحاد طهران للأزياء.
ويهدف الاتفاق إلى تقليص الإجراءات البيروقراطية وتسهيل حصول الشركات الإيطالية على تصريح من اتحاد الأزياء للعمل في إيران. ومن المقرر أن تفتتح دار فيرساتشي متجرا للأزياء في طهران قريبا بالتعاون مع شريك محلي في العاصمة الإيرانية. وقد أكد عدد من رواد دور الموضة في ميلانو أنه وقبل هذا الاتفاق بين الإيطاليين والإيرانيين ?لم يكن أحد يتوقع أن تقوم فيرساتشي بصناعة الحجاب أو لباس المحجبات وملابس التعبد الإسلامية? خاصة في إيران دولة الثيوقراطية بامتياز.
وتقول الباحثة في العلوم السياسية في جامعة ترياستا الإيطالية إليسا توركوتي في إحدى دراساتها حول تأثير عالم الموضة في السياسة الخارجية لبعض الدول مثل إيطاليا ?إن قسما كبيرا من السياسة الخارجية الإيطالية يأخذ في عين الاعتبار الأسواق التي تزدهر فيها السلع والبضائع الإيطالية، خاصة المتعلقة باللباس والعطور والأحذية والجلود والقهوة وغيرها، لذلك فإن إيطاليا في فترة ما في العقود الماضية عرفت فتورا في علاقتها ببعض الدول التي تعتبر محافظة جدا ولا تتعامل مع الموديلات الإيطالية?.
لكن وفي المقابل، بدأت في الخضوع لرغبة الشركات التجارية التي تبيع الموضة، إذ لا يمكن لإيطاليا أن تقاوم رغبة شركاتها في استغلال الأسواق الجديدة للخروج من الأزمة الخانقة على مستوى السيولة المالية والأسواق الدائمة، ?حتى وإن كان اتجاه الدولة ونظامها متناقضا مع ثقافة الأنظمة الإسلامية? حسب الباحثة توكورتي.
وما يمكن استنتاجه بالتالي هو أن الموضة يمكنها أن تكسب وتؤثر في سياسة الدول. فرغم تصريحات المسؤولين الفرنسيين الرافضة للحجاب إلا أن ?كوكو شانيل? تطور الآن عطورا تتماشى مع المرأة المحجبة، وبالرغم من تاريخ إيطاليا الطويل في صيحات الموضة المتحررة وغربية النمط إلا أن فيرساتشي الآن بصدد تركيز مصانعها في إيران، ولن يكون مستغربا أن تتجول الإيطاليات في شوارع روما وهن يرتدين أحجبة إسلامية أو عباءة إيرانية لمجرّد أنها من تصميم دار أزياء فرساتشي أو فلانتينو.