الفقر والإفقار في السودان: “وأمّا السّائلَ فلا تَنْهَر”

عوض محمد الحسن

أصابني الليلة الفائتة أرق مُمض. كل ما سرى الكرى في أجفاني، دوى في أذني الأمر الإلهي القاطع الباتر من سورة الضُّحى: “وأمّا السّائلَ فلا تنْهَر”، فأهبّ من غفوتي مفزوعا، ملتاعا.

وكنت قد انتهرت في ذلك النهار سائلا ملحاحا، ظلّ ينقر زجاج سيارتي بأظافر حِداد، متسخة، فيما تركّز انتباهي على زحمة السير في تقاطع مزدحم بكافة أنواع المركبات والمشاة من “ركشات” يقودها صبية يافعون لا علم لهم ولا خبرة بقوانين السير، ناهيك عن آدابه، وحافلات يقودها سائقون في عجلة دائمة من أمرهم، يحشرون مركباتهم في كل شبر من الطريق إعمالا لقانون “الطبيعة تبغض الفراغ”، وسيارات الدفع الرُباعي الذي يعتقد سائقوها بأن لهم الأولوية في الطريق بحكم حجم سياراتهم، وارتفاع سعرها، وعلو مكانة أصحابها.

ظلّ السائل الملحاح ينقر على الزجاج بوتيرة مرتفعة تدريجيا بينما أنا أحاول مرواغة زحام السيارات الشرسة والمُشاة الإنتحاريين وأصوات أبواق السيارات المُزعجة، ومواصلة سيري دون خسائر في الأرواح والعِتاد. حينها فقدت وقاري وأعصابي، وانتهرت السائل علّه يُمسك عن نقره وتشتيت انتباهي في مثل هذه المواقف الخرجة والخطرة. ثم واصلت سيري وانتباهي لا زال معلقا بالطريق ومخاطره القاتلة، ونسيت أمر السائل وما فعلته به في غمرة وضوضاء الطاحونة اليومية والمنغصات التي أصبحت خبزنا المر كلما اشرقت شمس.

وحين هجعت إلي فراشي آخر النهار، متعبا مكدودا، وبدأ النعاس يتسلل إلى أطرافي أولاً، ثم إلى مفاصلي، انتصبت أمامي فعلتي الشنعاء ذلك النهار، ومخالفتي للأمر الإلهي الواضح “وأمّا السّائلَ فَلا تنْهَر”، ودوى الصوت الجهوري بالآية الكريمة كلما حاولت النوم ونسيان ما اقترفته من إثم. وحين فشلت في النوم رغم تعبي، طفقت أتفكر في ظاهرة كثرة المتسولين في شوارع الخرطوم (ومدن السودان الأخرى لاشك). تراهم، منذ غبشة الفجر إلى منتصف الليل أحيانا، عند إشارات المرور، وفي الأسواق، وأمام المحال التجارية، والصيدليات، والمشافي؛ “يهجمون” عليك قبل أن تُفلق باب سيارتك، يمدّون تحت أنفك يداً فارغة إلا من العشم، أو وريقة بالية لعلّها وصفة طبية، أو سطور تُلخص مشكلتهم وتغنيهم مؤونة التكرار، أو عضواً مشوّها يغنيهم مشقة الشرح، أو طفلا رضيعا هزيل البنية علّه يمس مواطن الشفقة والرحمة والجود فيك.

ماذا دهى السودان وأهله؟ أهو الفقر، أم لعلّه الإفقار؟
أما الفقر فهو ليس بالأمر الجديد على أهل السودان. عشناه جميعنا (أو معظمنا). كان الناس في السودان الذي نعرفه متساوين في الفقر، ولكن تحسبهم أغنياء من التعفف، وكانت الدولة تكفيهم مشقة الانشغال بتكلفة صحة أطفالهم وتعليمهم عن طريق خدماتها الاجتماعية المجانية. أما الإفقار فهو أمر جديد طارئ جلبته سياسات الحكومة الاقتصادية الشائهة، وإدارتها لشؤون الاقتصاد التي لا تجعل الإنسان هدفا للتنمية وأداة لها، ووضع عبء تكلفة تسيير دولاب الحكم المترهل على كاهل المواطن، وسوء اختيار الأولويات (إن كان ثمة إختيار)، وتسخير سلطة الدولة والمال العام لإثراء القلّة على حساب السواد الأعظم، وخنق القطاع الصناعي، وتكسيح القطاع الزراعي التقليدي والحديث، وتكبيل القطاع الخاص المحلي بمنافسة غير عادلة مع القطاع “الهجين”، عن طريق الجبايات والسياسات غير المدروسة المتغيرة دائما وأبداً.

لا عجب إذن في استشراء الفقر ليشمل غالب أهل البلاد بما في ذلك الطبقات الوسطى على خلفية الإرتفاع المُذهل لنفقات المعيشة، واستفحال الغلاء، حتي قبل “الإجراءات الاقتصادية” الأخيرة، مما دفع الكثيرين (إلا من رحم ربك) في طريق الفساد الإفساد بكل أنواعهما، وأسرع باهتراء منظومة القيم الاجتماعية، وعلى راسها الحياء وحفظ ماء الوجه، ولجوء الكثيرين للتسول والاحتيال والسرقة والدعارة (بكافة أشكالها). وفوق كل هذا وذاك، الآثار المُدمرة لحروب الهامش التي نسفت استقرار الملايين، وقوّضت حياتهم وسبل كسب عيشهم التقليدية، وجعلتهم يأوون إلى معسكرات النازحين، أو إلى أطراف العاصمة والمدن الأخرى طلبا للأمان والرزق وما يتيسر من الخدمات.

يحزّ في نفسي ويُحزنني رؤية أسر بأكملها (دون رجال) تهيم على وجهها في شوارع الخرطوم، تنقر زجاج السيارات، وتطرق أبواب البيوت، وتمد يدها لكل عابر سبيل يبدو أحسن حالا منها. نسوة مُلثمات يحملن أطفالا في خرق بالية، وصبية لم يصلوا عمر المدرسة (ولعلهم جاوزوها) يتقافزون وسط السيارات المُسرعة، يحاولون مسح زجاج السيارات بخرق مُتسخة في آلية عجيبة، يستجدون الناس بنظرات تُذيب جليد لامبالاتهم، وبكلمات حفظوها علها تجعل القلوب ترق وتتصدق.

غير أن ما يحزّ في نفسي أكثر، ويُحزنني أكثر، ويغضبني في آن واحد هو أن أجد نفسي أتحاشى النظر إلى هؤلاء الأطفال والصبية، ربما عملا بأغنية قديمة للمُغنّي الأمريكي الأسود الراحل، راي شارلز، يقول فيها :”ما لا أراه لا يؤذيني”، فالنظر إليهم، وعبرهم، يفتح كُوّة مُخيفة تطل على مستقبل هذا البلد المنكوب إن استمر الحال على ما هو عليه الآن. وتجاهل، أو إنكار، ما نراه لا يقود إلا إلى المزيد من السير الحثيث نحو ذلك المستقبل المُظلم.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. والله ما هو ادهى وامر ان لدينا وزارة رعاية اجتماعية
    اتدرى من ترعى ؟؟؟؟
    ترعى العاملين بهافقط ..لان الوزاة حصة ينتفع بريعها
    وترضيتها احد الاحزاب لا المواطن
    اسمعت لو ناديت حيا لكن لا حياة لمن تنادى

  2. هذا نتيجة السياسات الاقتصادية الفاشلة بدلا من تحريك الناس للكسب والانتاج حركوهم للرعاية الاجتماعية لدعم بعضهم بدراهم معدودة وبالتالى تحول كثير من الناس الى حياة العوز والحاجة بدلا من قيام الحكومة بفتح سبل الارزاق .وارتفاع اسعار السلع الضرورية والادوية المنقذة للحياة .

  3. انا بلوناهم كما بلونا اصحاب الجنة اذ اقسموا ليصرمنها مصبحين، ولا يستثنون، فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون، فأصبحت كالصريم فتنادوا مصبحين ان اغدوا على حرثكم ان كُنْتُمْ صارمين، فانطلقوا وهم يتخافتون ان لا يدخلن اليوم عليكم مسكين، وغدو على حرد قادرين ، فلما رأوها قالوا انا لضالون ، بل نحن محرومون، قال اوسطهم الم اقل لكم لولا تسبحون… سبحان الله العظيم وبحمده.

  4. سألنى صديقى (رحمه الله)فى آخر حقبة سئ الذكر الحقير المقيور نميرى..أتدرى لماذا يحرسون السجن بجوبا…وسارع بالاجابة: يحرسونه حتى لا يزيد عددالسجناء..فالبعض ينزلون ضيوفا عليه ليأكلوا… ثم جاءت الانقاذ إمتداد لمايو كما ذكر كل من مصطفى إسماعيل ومجذوب الخليفة ممثلى الإنقاذ فى إحتفال سدنة مايو بمرور 38 عاما على مايو بقصر الصداقة(مايو عملت الكبرى ..نحن عملنا الطربق ..مايو عملت الترعة.احنا عملنا المزرعة) لم يخجلو أنه نظام بنى لبنة تدمير السودان وإنتفض الشعب عن بكرة أبيه ليقذف بة إلى مزبلة التاريخ ..الهؤلاء ..القمامة لم يزرعوا غير الحروب والعسكرة وأجهزة القمع والجباية و تدمير ما تبقى من مشاريع الانتاج وخلقوا زحفا بشريا على المدن وقاعدة عريضة من لاعقى الشرف والكرامة ومتسولى اللقمة ..الذين أطعموهم سياطا..وذلا ولم يسمعوا بالآية الكريمة..الملهمة للمقال..بل سنوها 40 جلدة فى قانون النظام .المقصود به ذل المجتمع. وبالخصوص المراة والفقراء..ووصلت بهم الجرأة لقتل المحتجبن …سننشدها إنتفاضة تشدو فيها ثلاثية الغضب لعلى عبد القيوم (رحمه الله )..نحن رفاق الشهداء الفقراء *.نحن الكادحون الطيبون والمناضلون* نحن جنود الثورة التقدمية* نحن المثقفون الشرفاء* نحن النساء العاملات* ونحن أمهات الشهداء* اباؤهم نحن* اخوانهم نحن* اخواتهم نحن* صدورنا سراقة الكفاح* عيوننا طلائع الصباح* اكفنا الراية البيضاء والسلاح* نبايع السودان سيدا* نبايع الثورة والداً وولدا….ويلازم إنتفاضة الشعب القصاص ..ليجهز كل منا سلاحة للقصاص وليجهز كل من عذب أو أضطهد سياطه لمن إضطهده – أسوة بما فعله سيدنا بن الخطاب( سلم إسمه) بعمرو بن العاص وولده وقال قولته الشهيرة – متى إستعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا–فاليضرب بالكرباج كل أمن وشرطة النظام. وقضاتهم وولاتهم . وعمرالحقير والمشاركون فى سلطته كرابيج فى روؤسهم قبل إرسالهم إلى جهنم مثواهم باعدامهم بصقا واحتقارا وفى اناء شفاف عظة لكل الظالمين ..نحن رفاق الشهداء..الصابرون نحن..الفقراء نحن..المبشرون نحن..وتورة حتى النصر..

  5. يا اخوانا المشكله لها ابعاد تانية… انا علمت ان اغلب الشحادين مجلوبين من دول تجاورنا..هناك من يشرف عليهم من اصحاب النفوذ..ويجمع الغلة اخر الليل..حاولت الا اصدق..ولكن لاحظت ان كل النسوة يحملن اطفالا نياما…الاطفال الاخرين لا يهمهم ان تدفع لهم او لا تدفع..ولا يشكرونك ابدا..كعادة المتسولين..
    هناك امر ما..ارجو ان اكون مخطئا…

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..