العجوز يركل الكرة في الجهة الأخرى (2)

(ما بعد الفكرة..اللا بطل.. بنية التشظي.. حديقة العنف.. قصيدة نثر طويلة)

عبد الماجد عبد الرحمن

(أغنية لنفسي Song of Myself)

أحتفي بنفسي !

أنا ذروةُ الأشياء الكائنة
وحاضنُ الأشياء التي ستكون

أنا شاعرُ الروح , وأنا شاعرُ الجسد
متعُ الحياة لي , وآلامُ الجحيم معي
الأولى أضمها وأخلعها على نفسي
والثانيةُ أترجمها إلى لسانٍ جديد
….
أنا شاعرُ المرأة مثلما أنا شاعرُ الرجل
وأقول عظيمٌ أن تكون امرأة, وعظيمٌ أن تكون رجلاً
وأقول لا يوجد شيء أعظم من أم الناس

أضغط أكثر.. أيها الليل العاري الصدر .. أضغط أكثر.. أيها الليل المنعش الجذاب!
ابتسمي أيتها الأرض الشهوانية ذات الأنفاس العليلة / يا أرض الأشجار النائمة والجارية !
يا ارض الغروب الراحل.. ارض الجبال المكللة بالضباب!
أرض الانسكاب الزجاجي للبدر الملطخ للتو بالزرقة!
أرض تعاقب الداكن والمضيء في مد النهر !
أرض الرماد الشفاف للغيوم !
آهِ , أيها الحب المتأجج الذي لا يُفصح عنه !

سألني الطفل: ما العشب ؟ وهو يبحث فيه ويجوس بيديه
كيف يمكنني أن أجيب الطفل ؟ لا أعرف عنه أكثر مما يعرف هو .
… ربما أتصور أن العشب هو منديل الإله.. !

(وولت ويتمان ? الشاعر الأمريكي الروماننتيكي المائز , وهو من الشعراء الذين تحرروا من سلاسل الشكل, ووضعوا بذلك المداميك الأولى لقصيدة النثر الحديثة؛ والقصيدة من ترجمتي الخاصة).

ما بعد الفكرة..هي البطل أو اللا بطل الحقيقي في الرواية

-إذا كان تشيكوف يضع الشخصية فوق الحبكة/الأحداث , وان كان برناردشو يضع الفكرة فوق الشخصية والحبكة , فان الحلو-في هذه الرواية تحديداً- يضع الشخصية فوق الحدث ويضع ما وراء الفكرة فوق الفكرة, ويرمي بالجميع خلف حجب الذات الكثيفة المتعددة التمظهرات والألوان والرائحات والجدليات التي لا ينخمد لها أوار.

-فما بعد الفكرة , هي إذاً البطل الحقيقي أو اللا-بطل ( anti-hero) في “عجوز فوق الأرجوحة”. فطه بحيري – الذي يقول عنه توأمه مرتضى, أنه يذكره براسكينكوف (بطل دوستوفسكي في الجريمة والعقاب), هو في جوهره “لا بطل”. واللا-بطل-الذي هو عكس فكرة البطل الملحمي الإغريقي القديم — وفي الإنجليزية يفضلون أحياناً تعبيراً آخر أكثر حياداً هو( protagonist), اللابطل هذا, حاضر بقوة فاجعة في تاريخ السرد : إياقو(عطيل), ماكبث ,هامليت(شكسبير), ليوبولد بلوم وستفن ديدالوس Stephen Dedalus (جيمس جويس), راسكينكوف (دوتسوفسكي), سانتيايقو (العجوز والبحر,هيمنقواي). وهناك قريقور سامسا(الانمساخ- كافكا), وسكارليت أوهارا في ?ذهب مع الريحGone with the Wind ,لمارقريت ميتشل (الرواية والفلم الذي احتل المركز الرابع في قائمة أفضل الأفلام في تاريخ السينما الأمريكية- رغم, طبعاً, إنتقادات مالكم اكس لهذا الفلم). وقد ظلت شخصية (فاوست (Faust المستوحاة من الميثولوجيا الإغريقية القديمة حاضرة كشبح يومي في الكثير من الأعمال(مارلو,غوته, وآخرون) ..إلخ !!

-ونحن- نقرأ “عجوز فوق الأرجوحة”- نحس كأن الزبدة كلها هناك..كأن الألم كله هناك.. كأن الوجع العظيم يرقد خلف الستر كلها.. خلف اللغة والسحب و الشخصيات, ووراء ما جرى للعجوز طه وما حلّ بمرتضى وعديلة وأنجلينا.. نحسه خلف الأصوات.. ووراء هذا الاحتكاك الجسدي الطقوسي و العلاقة الغريبة والغامضة والمشتبكة بين عديلة وأنجلينا(التي تشير?ضمن أشياء أخرى- إلى تعقد علاقات الشمال والجنوب).. ونراه كذلك من خلف واقعتي ختان سلاطين وكارلوس إذ إن ” مجموع الأحداث هي تاريخ الكائن, أما هويته هي مجموع المعاني المتشابهة أحيانا والمتناقضة أحيانا”.. ما بعد الفكرة..هي تلك القوى الخفية الراقدة خلف مشهد طه (الصبي-العجوز) وهو يفرح فرحاً مؤلماً بدم العصافير, ويحيط ?بعناية طقوسية خاصة- حقل الشر وحديقة الدم العاشبة التي في منزله ! تلك قوى يحيل سحرها الخلّاب تجربة الموت إلى ” نوع من اللذة..غريب.. هي امتزاج الخوف بالتجاوز والنصر .. امتزاج الواقع بالمحتمل..وامتزاج الآني بالآتي” (الرواية).

-تأخذ المنولوجات مساحة أكبر من الديالوجات ? لكن المنولوج نفسه , هو ? في تركيبه الجوّاني العميق- عبارة عن ديالوج أو ديالوجات متعددة. وذلك كله, يبدو محكوماً بالرؤية الكلية للرواية, وهي هذا البحث الدائم الذي لا يفتر عن الأنا في الآخر , والآخر في الأنا ? أقرب إلي تلك المنطقة البرزخية التي يسميها سارتر بالبين-ذاتية ( inter-subjectivity). وهي بين-ذاتية متولدة من تعقد فكرة الهوية ودينامكيتها بكل تجلياتها الثقافية والسياسة والاجتماعية والروحية ? حيث (الآخر) ليس فحسب ضرورة وجودية حياتية, ولكن كارثة إنسانية في الوقت ذاته !!

بنية التشظي.. بلاغة العنف

“Freedom is a punishment, not a reward”
(الحرية هي-عميقاً- أقٌرب إلى العقاب , منها إلى المكافأة)
(Kierkegaard)

“كان العنف .. هو وسيلتي لترتيب الأشياء”.

(Yana Stewart, سجينة سابقة ومدمنة كحول ومخدرات بريطانية, جريدة القارديان البريطانية,4/10/2010).

-التشظي يتجول بوضوح داخل الرواية. والتشظي fragmentation من السمات المشتركة بين كتابة الحداثة وكتابة ما بعد الحداثة. تشظي الحداثة رومانسي يعلوه شعور مبلل بالحزن والأسف العميق, لكن تشظي ما بعد الحداثة يجىء هكذا محاطاً بروح النشوة والاحتفاء البهيج (راجع باب جدل الحداثة وما بعد الحداثة)- وهو هنا في هذه الرواية أنزع إلى الأخير. وسردياً, يتلخص التشطي في اللا-خطية( nonelinearity) أي عدم الترابط السطحي في السرد.. لكنه ترابط قوي على المستوى العميق, مستوى البنية العميقة ( deep structure), بإستلاف مصطلح تشو مسكي الشهير وسحبه إلى مستوى النص والخطاب.

– لغوياً, يتحقق هذا التشظي الإحتفائي في بعض البني النحوية للجمل ? حيث تظل كثير من الجمل غير مكتملة البناء (كبعض الجمل التي تبدأ بما أن..,وبسبب هذا, لكن القارئ لا يجد الباقي , وفي بعض الجمل, يوجد فعل شرط من دون جواب شرط, وهكذا دواليك!!). وتتجلى ترقيمياً(punctuation) في تفضيل الكاتب للفصل بين الجمل بنقطتين أو فاصلة بدلاً من النقطة الوحيدة, قصد الإشارة ? ربما- إلى معنى التواصل والإنسيابية– فإنسياب الشكل جزء من إنسياب المعنى !! كما أن التشظي يتجلى كذلك , في هذا التناوب بين التوأم (طه بحيري ومرتضى بحيري) في سرد الأحداث- إنهما متوافقان حد الإندماج الكامل ومتنافران حد الصراع العنيف “وبمثلما تتطابق صفاتنا الخارجية تتطابق كذلك صفاتنا الداخلية.. تتوحد فينا الإرادة والرغبة .. تتشابه أصواتنا وأفعالنا وأحلامنا.. كل منا ذات خفية هي ظل الآخر..كل منا يصرع الآخر صراعاً جسدياً عنيفاً “(ص,6). أحيانا كثيرة تختلط علينا الأمور فلا ندري من فيهما هو الذي يحكي (طريقة المكر السردي واحدة من ألاعيب الكاتب, كما أشرنا),لكننا نعلم, على كل حال, أن الشغل الشاغل لثلاثتهم (طه- مرتضى- عديلة بدران(عزة قرشي), هو هذه (الأنا) التي تبحث بلهف وخوف غامضين عن (أناها الأخرى) “وبسبب هذا الوضع الغريب والمعقد.. كانت هذه العاطفة ما بين الحب والكراهية تمزق ثلاثتنا .. كل منا يحب الآخر ولكنه يود في نفس اللحظة أن يهدمه ويبعده ويزيله عن طريقه”. وهناك أيضاً تجليات شخوص أخرى : أنجلينا (من جوبا)- تعكس مزيداً من ظلال (البين-ذاتية), الغاصة في السايكو-بوليتيكي العميق..هي بين-ذاتية تردد أصداء آهات وطنِ جميل وغامض كالمطر كالجنون كعشب ويتمان.. كحديقة “دار العجزة” في المساءات الرطبة المرشوشة بالذكريات والوهم , حيث يلتقى العجوزان طه وعديلة, و معاً يشاهدان فلم الثمانين عاماً الماضية. هذا (التفليم المشهدي) الذي برع فيه الكاتب منذ قصته الشهيرة(وماذا فعلت الوردة؟), ربما تسرب إليه منذ عهد الصبا الباكر, إذ كان من مدمني السينما , يعيد مشاهدة الفلم الواحد عدة مرات, كما سلفت الإشارة(عكس النقد الجديد التاريخي والبنيوية الصورية , فان النقد الجديد الراهن أو ما نسميه “بالنقد الجديد المتجدد” يتعامل مع المؤلف باعتباره مكوناً من المكونات العديدة التي تعمل متكاتفة لإنتاج المعنى اللانهائي في النص ? راجع احمد يوسف,2007) !

– إن العجوز هنا يعيش لحظة التشظي المجيد , ويغني أغنية الإنشطار الكبرى ..حيث يدرك العجوز- وهو في دار المسنين في الخرطوم- أن الأيام أخذت ” تتساقط من الذاكرة يوما بعد يوم.. وكانت الأضداد تتشابه.. والحضور والغياب.. والأمل واليأس.. وكل شيء هو لا شيء”! لكن هذا التشظي والإنشطار هو وسيلته الوحيدة لإعادة ترتيب العالم ..طريقته الوحيدة لإعادة تأهيل الروح والأشياء !

-ومن الملامح التركيبية المهمة في الرواية, هذا المزج بين الشخصيات التاريخية الحقيقية وشبه التاريخية (سلاطين باشا- كارلوس) وبين الشخصيات الخيالية ال ( fictional)- (الأخوان طه ومرتضى بحيري ,عديلة بدران / عزة قرشي-انجلينا). بل إن الشخصيات الخيالية تنتسب بيولوجياً إلى الشخصيات التاريخية , لأن طه ومرتضي ينتهي نسبهما إلي سلاطين باشا ? الشخصية التاريخية غريبة الأطوار التي خدمت في الإدارة الإستعمارية في السودان مرتين(أيام التركية وأيام الانجليز) . كما أن بعض الشخصيات تنتسب روحياً إلى شخصيات روائية خيالية لها وزن الشخصية التاريخية , كراسكينكوف والملك لير! هذه التقنية يجيدها من الروائيين ما بعد-الحداثويين الحاليين الروائي الأمريكي دكتورو ( E.L. Doctorow)- الذي يجيد أيضاً تقنية التشظي, خاصة في تجليه السوسيولوجي , ويقول عن الكتابة أنها “شكل من أشكال الفصام المقبول اجتماعياً “!!

تركيب روائي دائري.. قصيدة نثر طويلة

-ثمة ملمح تركيبي واضح في هذه الرواية “الأرجوحة” يدرجها مدارج الروايات التي تبحث عن شكلٍ فنيٍ جديد و مختلف. ومن الوهلة الأولي , يستطيع القارئ الذكي أن يرى هذا الشكل الدائري , من حيث الأحداث والسرد والشخصيات والفضاءات. فهي أشبه بقصيدة نثر طويلة , منها إلي الرواية التقليدية, كما تكررت الإشارة ! ولعل هذا ما جعل ناقداً ذا بصرِ ونهجِ ومثابرةٍ وتدراب كمصطفى الصاوي يصف الرواية بأنها “نص روائي مختلف” !! فهي بالفعل مختلفة, لأنها عبارة عن قصيدة سردية نثرية سينمائية طويلة, تحتوي ثلاثة أقسام ومقاطع داخلية عديدة متكررة, تحدد تصميمها الجمالي الداخلي وتدل على معالم خريطتها الجيو-نصية الأساسية (الذات الأخرى, تعدد وجوه الهوية ?امرأة من جوبا- ماكنزمات الذاكرة- وحشة الكائن- متصنعاً صوت الماضي-الجنس والأيدولوجيا-نشيد العزلة- مطعم الليل- التفكيك- غزل البنات- طه بحيري والوردة البيضاء- استرجاعات انجلينا- روعة الليل- مواجهات مع الموت-الحدائق الخلفية- بطل الجريمة والعقاب- تحولات الروح- الراوي المفترض … إلخ) !

-هذا التكرار-التواتري الميلودرامي-الذاتي ( recursion) , يخدم الرواية كثيراًً في انجاز تماسك-لم يكن ليكون سهلاً ? بين الشكل والمعنى. وذلك بالربط بين “الأرجوحية” كفكرة مركزية في الرواية , وبين هيكل السرد الدائري ? دائرية تطال الشخوص والأحداث والأمكنة والفضاءات , لكنها لا تطال الرؤية الكلية المتجلية في ما بعد الفكرة. ثمة وظيفة موسيقية إيقاعية أيضاً , متماسة مع الجو الميلودرامي الذاتي للرواية , تتيحه هذه الدائرية. لكن الأرجوحة لا تتوقف لحظة واحدة عن الدوران .. فهي تتأرجح دائما وتتأرجح كلها, و تتأرجح طوال الوقت, والكل مجند لخدمة هذا الدوران : الشخصيات- الأحداث- اللغة- الأصوات- التصوير- المناخات(كالضوء الخافت في حديقة دار العجزة ومرآة حائط البهو الضخمة , مثلاً)- الطوبوغرافيا السردية.. مشاهد الحب والبونوغرافيا.. شذى العنف .. لغة الجسد…الخ ! وضمن ذلك , هذه (المشهدية السينمائية) المتنقلة باستمرار: مكانياً بين أم درمان- كردفان- جوبا-دارفور, وزمانياً عبر التركية- المهدية- الحكم الإنجليزي- العهود الوطنية الدائرة بين الديمقراطيات القصيرة المبتورة المشوشة, والشموليات الظالمة الكارثية المرهقة التي تتطاول كليل امريء القيس, إذ تتحول اليوتوبيا المزعومة إلى ديستوبيا كبيرة dystopia))!

النهاية- البداية – النهاية

-تبدأ الرواية, “بالعجوز” طه بحيري وهو يحدثنا عن “الصبي” طه بحيري وتوأمه مرتضى وصيدهما للعصافير في الحقل وصراعهما البدني- الطفولي و العاطفي حول عزة قرشي, التي نعرف فيما بعد أن لها اسماً آخر(عديلة بدران). لكن الرواية تنتهي بصوت(راوي مفترض) يقول لنا “مات طه بحيري بدار المسنين والعجزة.. ولم تتوفر لنا أية معلومات إضافية, حول ذاك الماضي الذي خلفه العجوز راءه”. وما بين البداية/الطفولة والنهاية/الموت في دار المسنين, فإن أي نقطة في الرواية يمكن أن تكون هي البداية ويمكن أن تكون هي النهاية في الوقت ذاته. تلك هي البنية الدائرية للرواية ذات الأحداث المتشظية والذاكرات اللا-خطية المتأرجحة, وهذه الصور الجوّالة التي تذهب وتجيء . فهي رواية (أرجوحة) اسماً على مسمى !

?النص سيرد في كتاب وشيك الصدور من دار مدارات بالخرطوم (النص والخطاب: جدل القراءة والمعنى) !!

[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..