مقالات وآراء

السودان بين الحرب والانحدار: حين تُطمس القيم وتُبرمج العقول على التفاهة

 

لبنى ادريس

يعيش مجتمعنا اليوم حالة من التدهور والانحطاط الأخلاقي والثقافي لم يُعرف لها مثيلاً في تاريخه الحديث، فالقيم التي طالما شكّلت عماد الشخصية السودانية، من احترام وتواضع وأدب وحياء، أصبحت تُستبدل تدريجياً بثقافة سطحية ملوثة، تتغذى على الابتذال والانحدار اللفظي والسلوكي، هذا الانهيار لم يحدث فجأة، بل هو نتيجة تراكمات طويلة ناتجة بالأساس عن سياسات متعمدة سعت لتفكيك الوعي الشعبي عبر تسطيح الثقافة وإفساد الذوق العام، كل ذلك في إطار خطة محكمة لصرف الناس عن الاهتمام بالشأن العام والسياسة، وتحويلهم إلى كتل تائهة غارقة في اللامبالاة، مستسلمة للعبث.

وتأتي معاناة الناس في قلب هذا المشهد إذ يعيش السودانيون تحت وطأة الحروب والنزوح والتشرد، الملايين هجّروا من بيوتهم، وفقدوا أهلهم ومصادر رزقهم، وتقطّعت بهم السبل، والمشهد في مراكز اللجوء والمدن المنكوبة يكشف عن وطن يموت ببطء، لكن الأدهى من دمار البيوت هو دمار النفوس لأن الحروب لا تقتل الأجساد فقط، بل تُدمّر القيم، تُربك المعايير، وتجعل الناس أكثر عرضة للانحدار والبحث عن مهرب ولو كان وهمياً أو مُهيناً، في هذا السياق وُلدت ظواهر غريبة على المجتمع السوداني، لم يعرفها في تاريخه، من انفلات في الأخلاق، وتراجع في الحياء، إلى انتشار العنف اللفظي والجسدي، وحتى استغلال الظروف الاقتصادية الصعبة في ممارسات لا أخلاقية، كل هذا يُطبع في ظل انهيار الدولة ومؤسساتها، وانشغال الناس بالنجاة من الموت والجوع.

ولعل من أخطر ما رافق هذه المرحلة هو تفشي ظاهرة اللغة البذيئة حتى أصبحت جزءاً من الخطاب اليومي، بين الكبار والصغار، تُستخدم في المزاح، في الغضب، وأحياناً في التعبير عن الإعجاب، انقلبت اللغة إلى ساحة للعنف وصار القبح مستساغاً، بل ومطلوباً في بعض السياقات، وكأن الذوق العام أُعيدت برمجته على أن لا يُعجَب إلا بما هو جارح وفج، وتزامن هذا مع صعود نجمات “الغناء الهابط” “القونات” اللاتي لا يمتلكن صوتاً ولا رسالة، بل فقط القدرة على إثارة الجدل وإشعال الغرائز وتحقيق نسب مشاهدة عالية عبر محتوى مُبتذل في هيئة وكلام وإيحاءات، وكأن المجتمع صار يحتفي بمن يخرق كل الحواجز الأخلاقية، لا بمن يرفع الذوق أو يضيف إلى الوعي.

المؤسف حقاً ان هذا الهبوط السحيق لم يقابله حتى الآن رفض شعبي واسع، بل كثير من الناس صمتوا، وآخرون اكتفوا بالتندر أو المشاركة غير الواعية في نشر هذا التدهور، ولعل السبب هو ان الناس أُنهِكت أو تم إنهاكهم عمداً عبر سنوات من القهر والتضييق، الجوع كسرهم، الخوف شلّ إرادتهم، والنظام السابق نجح في مشروعه القاتل: تدمير الحس العام، تدمير الغضب، تدمير الأسئلة، وصناعة مواطن غارق في تفاصيل يومه الموحش، غير مكترث بما يدور حوله، فطالما أنه حيّ اليوم، فليضحك بأي وسيلة، حتى لو كانت على حساب كرامته.

المجتمع لم يعد فقط ضحية للحرب والفساد، بل أيضاً ضحية لعملية منظمة لقتل المعنى، وتسفيه القيم وتحويل الجمال إلى مادة سخرية، والأخلاق إلى عبء، والوعي إلى “عقدة”، واستبدال الرموز الثقافية والمبدعين الحقيقيين بموجات من التفاهة التي تُضَخ يومياً عبر شاشات رخيصة ومنصات بلا رقابة، بل وصل الأمر إلى أن يقوم أحد كبار المسؤولين في الدولة بزيارة شخصٍ ذاع صيته مؤخراً بسوء ألفاظه، في مشهدٍ لا يمكن تفسيره إلا كرسالة موجهة للمجتمع: هذا هو النموذج الذي نكرّمه، وهذا هو السلوك الذي نكافئه. وكأن السلطة تقول للناس بوضوح، لا مجال للقيم أو الأخلاق، فقط الجلبة والابتذال هي طريق الوصول والقبول.

السودان الآن ليس فقط في حاجة لإعمار البنية التحتية بل لإعمار الإنسان، نحتاج لثورة على هذا التدهور ولنهضة تبدأ من التعليم والأسرة، من الإعلام والفن، من إحياء الحس النقدي وإعادة الاعتبار للكلمة والصوت النظيف، نحن بحاجة للفكر الذي يحرر لا يُخدر فلو لم يستيقظ المجتمع الآن، فإن الكارثة القادمة ستكون أخطر من كل الحروب وهي موت الذوق والضمير الجماعي.

مداميك

 

تعليق واحد

  1. لا فُضَّ فوك أستاذة لبنى ، فلقد رميتِ بصخرةٍ في المياه الآسنة التي أحالتْ الجمالَ إلى قُبحٍ والأصولَ والمبادئَ إلى رمادٍ بل بضاعةٍ في سوقِ النِخاسَة والتفاهةِ وبيعِ الذَّمَم وشراءِ الأنفُسِ الضعيفةِ ، وأحالتْ السودانَ بلقعآ قفرآ لا في بُنياتِه التحتيةِ فحسب بل في مبناه ومعناه أخلاقآ ونُبلآ وشهامَة :
    إنما الأممُ الأخلاقُ ما بَقِيتْ فإنْ
    همُ ذهبتْ اخلاقُهُم ذهبُوا
    نسألُ اللَّه صلاحَ الحال وإصلاحَ النفوس وقهرَ الكِباشِ والتيوس التي تنتطحُ على المغانمِ صُمَّاً وعُميانا .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..