الجزيئات ترقص على جسد غريتا غاربو

الفنانة الإيطالية الراحلة تعيش في المادة بمعمل تد سرجنت كما تعيش في الذاكرة، وجزيئاتها مازالت تحيط بنا بعد خمسة عشر عاماً من وفاتها.
ميدل ايست أونلاين
كتب ـ صالح سر الختم
لم تغب
يتناول كتاب “رقص الجزيئات .. كيف تغير التكنولوجيا النانونية من حياتنا”، الذي يُعد محاولة لاختراق التكنولوجيا، ممثلاً في عملية بحث وتنقيب في مستحدثات مسألة النانو، التي تعني بمفهومها العلمي، حجم جزيئات المادة متناهية الصغر، بأسلوب قصصي ممتع، يجعل فهمه في متناول قدرة استيعاب الجميع، دون إغفال أو إهمال لطبيعة كون أن جوهر الكتاب ذو طبيعة علمية، تتطلب الأخذ في الاعتبار الحفاظ على سرد العلم المحدد في عرض المعلومات، وتماسكها الذي يصل إلى حد الجفاف.
غير أن إبداع المؤلف تد سرجنت يتجلى في مسه السرد القصصي، لما يتناول من علمية الوقائع في إطار التموُّج الخيالي الذي يضفيه على مشهد مفردات البحث، حيث يبدأ قصته بتعلقه بمفهوم العلم وجدلية الحوار حول قضتين، خلاصتهما تنحصر في رغبته في تحقيق أحلامه في إعادة كائن قد مات إلى الحياة مُجدداً، بصورته الكاملة وهيئة تماهيه البدني المعماري بشكله وتقاطيعه، وحتى ابتسامته ولفتة الجيد واهتزاز رعشة لمسة الأنامل في تفاعلها، تحت تأثير وطئة تغلغل المشاعر في جوقة الأحاسيس، دون أن يشطح الخيال في جموحه إلى انجذاب البعد الأسطوري، فيغدو جزءاً من مفردة عالم من تحضير الأرواح، ودون الركون إلى معملية تصنيع الأبدان عبر آلية الاستنساخ، وهي مرحلة تفوق الاستنساخ حضوراً واقعياً، وهي تلامس الخيال ومقارفة لعالم الأرواح وشطحات تداعياتها، وتحضيرها المنبعث من مزجة الخرافة وتنامي قدرة الخيال على توليف الإبداع، حين يمتزج بحب التطلع إلى ما وراء محدودية قدرة العجز، فيفلقها إلى شطائر مترامية من معادلات الروايات العلمية والخيالية.
وتُعد قمة الإبداع حين نتبيّن أن المؤلف وهو ماضٍ في تأليف كتابه، يتوالف مع أنشوطة سحر ما أبدع إلى حد التوحُّد، فلا يكاد يلحظ فارق تمييز بين المبدع وما أبدع، وهو ما يعرف بحد تعلق الصانع بما صنع، ومن بعد تعلقه يندرج فيما خلفه جمهرة من روَّاد القرَّاء، فيغدون مع تسلسل وتواصل عملية القرَّاء من المعجبين، وأكثر الوالهين تعلقاً بما قرأوا هم الذين لم يكن يفكر فيهم المؤلف لحظة اندماج توحُّده في عملية تخليق الرواية، من بين هذا النسيج الضام لهذا المزيج الرائع لما هو علمي بما هو رغبة في تحقيق الأحلام، مُتمثلاً في عودة الأموات إلى عالم الأحياء، مشياً على أطراف وقع أقدام الحقيقة، نكتشف فجأة أن حلم المؤلف مُجسم بشكل حقيقي، في رغبته التي لخصها في أمنيته، في استعادة حياة غريتا غاربو التي عرفها، بأنها رحلت عن الدنيا في مدينة نيويورك متأثرة بداء الفشل الكلوي، وكان هو في سن السادسة من عمره صبياً، وهو في حقيقة تعلقه بأمنيته، يريد أن يبعثها من مرقدها ليس جسداً خواء بغير روح ذاتيتها على طريقة الاستنساخ، بل مجسدة مفعمة بالمشاعر التي ألفها من عرف غاربو وعايشها.
وبذلك تغدو أمنيته أحبوكة معمدة بمفاهيم بعث الأموات، كما روته أروقة الأديان عبر أديرة الزمان والمعابد العريقة، وحين الوصول إلى هذه اللحظة من التمسك بتعلقه بضرب من ضرورة تحقق الحلم، نكتشف أن ما راوده من مسه من أحلام لم يكن شطحة من مس الجنون لتداعي حلم سوف يذهب مع تناسي الأيام، بل إن الأمر عنده علمي المذاق مجسم على أرض الواقع، حيث نتبيّن أن في معمله بقايا نانو رفات غاربو محضرة لديه، وأنها فقط تنتظر لحظة تنزيل خيال رغائبه، وتحويله على يدي فكره المعملي، كما يبث في بعض السرد فتستحيل إلى تمثال له ما لغاربو من روح وأحاسيس بعماريتها وتأثيثها، كما أن بقايا ضئيلة من أوكسيد الفضة يسمح بإمرار أو حجب الضوء، معيدة رواية نتوءات هيئتها.
أما صوته كما يروي فكان صداه يتردد في ذاكرته، وهنا يستحضر ذهنياً شخص يُدعى ليونيل باريمور، حيث يشير إليه بأنه كان قد سجّل رائحة شعرها وهو يتهادى تحت أنفه، وهنا يوقظنا من غفلة الانغماس والتتبع في متاهات حكاياته حين يقول:
“إن غريتا غاربو تعيش في المادة بمعمله كما تعيش في الذاكرة، وأن جزيئاتها مازالت تحيط بنا بعد خمسة عشر عاماً من وفاتها، حتى أنه يورد أن عنصر الكاربونيوم الذي ينطلق في نسمات الهواء التي يتنفسها، كانت عبارة عن جزيئات غريتا فيما مضى منتظمة في بنية فوقية بشكل مُعقد ومُنسقة بصورة رائعة، حيث إن البروتينات المصنعة من المخططات الأولية لـ (DNA)، وضعت العضلة والسمنة والكبد في مواضعها الباهرة، وزود الأكسجين والجلوكوز دمها الساخن القاني بالغذاء، معطياً غريتا الطاقة والحياة والفتنة”.
“إذن غريتا لم تغب” هكذا يضيف “ما حصل، أن ذراتها كانت في الأماكن الخطئة وحسب، وهي منشورة حول العالم لكنها مازالت هناك في العالم المادي، وقد أردت لغريتا أن تعود متكاملة، فقد كانت مواهبها الحسية كافة محفوظة، وكانت كل العناصر التي وهبتها الحياة لها عندما كانت مرتبة بطريقة متناسقة معلقة في الهوء، إذن لماذا لا أستطيع أن أرقص مع غريتا غاربو الآن؟!” هكذا يعقب.
وهو في غمرة انفعاله بالحلم وتمنياته بتحققه يقول: “ربما تكون الكائنات الحية أكثر الأمثلة اللافتة للنظر عن قوة الذرات، عندما تكون منظمة بطريقة متناسبة، لكي تقدّم مجموعة مُدهشة من السلوكيات، غير أن ذلك كما يؤكد لا يقتصر على الكائنات الحية، حيث إن كتلة الزجاج تعكس وتكسر الضوء، واللدائن (البلاستيك) تلتوي، بينما تعطي هياكل الدرجات من التينيوم الصلادة، أما ملفات الشعر والصلب فمهمتها إعطاء الدعم، في حين أن أشبه الموصلات تنقل أمواج الإلكترونيات في تناغم مُنسجم، إذن ما الذي سيحدث فيما لو استطعنا أن ننتقي ميزة ما مقاومة للرصاص أو القضاء على خلايا السرطان، ثم نحدد ونولّد الجزيئات، ومنها نستخلص المواد المطلوبة لتحقيق أحلامنا؟!
وبذلك قد يبغي البعض إنقاذ هذه الأرواح، مستخدمين هذه القوة المدهشة مثل: إبداع آلة متكاملة مع مجرى دم المصاب بداء السكر، لتقوم بمراقبة مستويات السكر في الدم بصورة تامة، والحفاظ على تلك المستويات كما هي في الشخص السليم، أو أخرى تقوم بالكشف المستمر عن التغيرات الإحيائية الخطيرة والتخلص منها، أو ثالثة تزيل الملوثات من هواء من مدننا.
ويقول المؤلف: “قد يرغب آخرون بإنهاء الحياة عبر ابتداع رصاصات من نوع جديد ذات صلابة عظيمة، وشكل انسيابي يمكننا من اختراق الصدريات المقاومة للرصاص في أيامنا أو بناء طائرات، من دون طيار ذات حجم فائق الصغر مرصوصة بمتفجرات ذات كثافة عالية لقصف المباني، أو هندسة نوع من الفيروسات لا تقتل إلا ذوي العيون الزرق”.
وقد صدق أحلام تِدْ سرجنت كاتب الكتاب، فتحققت في تمكن العلم من صنع طائرات دون طيار ذات حجم صغير يمكنها حمل صواريخ، وكذلك قنابل ومتفجرات، فهل يمكن تحقق أحلامه بأن يرد إلى ميت أنفاسه؟! هذا ما سوف تكشف عنه الأيام.
يذكر أن، كتاب “رقص الجزيئات .. كيف تغير التكنولوجيا النانونية من حياتنا” لكاتبه تِدْ سرجنت، نقله إلى العربية المهندس صباح صديق الدلموجي، ويقع في 296 صفحة من الحجم المتوسط. (خدمة وكالة الصحافة العربية)